نذرت نفسها للتواجد حيث تَجَمُع الناس، وخصصت لذلك جزءًا من يومها أسبوعيًا، مقهى أو حفلة، لم يكن مهمًا من يدعوها، ولا إلى أين، المهم أن تندمج وسط مجموعة لا تمت لها بِصلة، وفي كل مرة كانت تهتم بإطلالتها، لكن في النهاية، مزاجها يفرض عليها ما سوف ترتديه، قرأت خبرًا عن إقامة معرضٍ للفن التشكيلي لأحد الفنانين المخضرمين، اعتقدت أن الحضور سيكون عظيمًا، وهو ما تحتاج إليه.
موضوعات مقترحة
وصلت في الموعد المحدد حيث وقت الافتتاح عند الثامنة مساءً لضمان ازدحام المكان؛ فهي المُصرة على التخلص من الخوف، ومن رهبة الناس والأماكن. وقفت قبل القاعة بأمتار قليلة، تحديدًا عند باب العمارة الخارجي، ثم بدأت تدريبات التنفس، شهيق جمعت فيه هواء المكان بصدرها، وبهدوء وببطء لفظت ما عبأته منه، بهوادة سارت داخل المكان، متوجهة سلمتان لأعلى ومن أمامهما كان مدخل المعرض، أو باب الشقة كما يظهر أمامها، بخطواتٍ لا تخلو من التوتر. ولمزيد من الثقة رفعت رأسها وشدت ظهرها لأعلى، ومباشرةً كانت أمام الباب المواجه لزوار المعرض.
بشجاعة مفتعلة تخطو أولى خطواتها في المكان، وكعب حذائها الرفيع يُسمع صوته على الأرض الخشبية، بتأنٍ تسير، وبهوادة وعينين زائغتين تحاول التقاط التغيير الطفيف الذي حدث، بمجرد دخولها فيه. هل هدأت الأصوات، أو تخافتت قليلاً؟ هل التفت لوجودها أحد؟ أصابتها الخيبة؛ فعدد مريدي المعرض يعدون على أصابع اليدين، وليس من بينهم الضيف الرئيس، فجميعهم ليسوا بهيئة صاحب الحدث، لا يوجد ذلك الشغف بُمتلقي أو ضيفٍ جديدٍ للمعرض. بخيبة تتفقد الحضور، وبلا مبالاة تشاهد اللوحات، اقتربت منها وهي لا تدري، هل ستفهم ماذا أراد الفنان أن يوصله من خلال هذه الرسومات، لما لا؟ هذه ليست المرة الأولى التي تحضر فيها معرضًا فنيًا.
بثبات تشاهد العمل؛ فتلك فرصة لعمل تدريبات التنفس من جديد، دون أن يلحظ ذلك أحد. كانت خطوط العمل متداخلةً مع ألوان متشابكة، إضاءة متعمدة أضافها الفنان بريشته تجهل كيف فعلها، رسوم هندسية خُطًت بعناية على القماش الذي شُد بحرفية، وكأنه تعمد أن يبرزها لتترك مكانها وتنظر للمتلقي، عندما اقتربت أكثر تأنت أمامها ولاحظت أن اللون الظاهر أمامها احتاج لضرب الفرشاة بقوة عشرات المرات ليُظهر هذا التماوج الأخير لتلك الكتلة اللونية.
استمتعت بالعرض حتى كادت تنسى هدفها، وهو الناس وليس ما على الجدران، ثم أعادت النظر للمرة الأخيرة ولفتها إطار اللوحة وتساءلت لماذا وضعه داخل هذا الإطار الرخيص! ظل السؤال معلقًا حتى التفتت لتواجه تجربتها من خلال الحضور المحدود في المكان. كان هناك مجموعتان. الأولى مكونة من ثلاثة رجال وامرأتين، يسترسلون بصخب في الحديث مع بعضهم البعض، حول إحدى اللوحات، والمجموعة الأخرى تتكون من رجلٍ وامرأةٍ كأنهما اجتمعا هنا لغرض آخر، فقد كانا يجلسان بمفردهما إلى طاولة جانبية في آخر المعرض، محاطة بأربعة مقاعد، ويظهر الشاب الذي يحكي بحماس، والفتاة مستمعة بامتعاض، وبدا كأنهما في أوج النقاش. اختارت الاقتراب من المجموعة الأكبر، بهدوء وقفت بجوارهم، أرادت اختبار وجودها الذي سوف تلاحظه من أصواتهم بمجرد التحاقها بهم. هل سيرحبون بها؟ يلقون عليها السلام؟ لا بل عليها أن تبدأ هي لأنها الآتية إليهم.
"مساء الخير"، قالت لهم. ردوا عليها التحية، تبع ذلك ثواني صمت غير مفهوم. اقتربت أكثر منهم، وكأنها سوف تكمل حديثًا انتهى منذ ثواني عن اللوحة المرتاحة على الحائط، نظروا إليها، ولم يبخلوا عليها بابتسامة مصطنعة، ثم غادروها معتذرين لتكملة مشاهدة ما تبقى من لوحات المعرض، ثوانِ وهي تراقب الموقف وحيدة. شعرت أنها مهملة مثل تلك اللوحة التي غادروها للتو متوجهين للجانب الآخر من المعرض، وتساءلت لماذا لم يحاولوا تجاذب الحديث معها، و لم يتقبلوا حضورها المفاجئ عليهم؟ حمّلت نفسها خطأ هذه المحاولة، فقد كان عليها أن تكمل حديثها عن رأيهم في المعرض، أو اللوحات، وهل هم مثلها مجرد زائرين، أم على صلة بالفنان صاحب اللوحات، كما كانت فرصة لتعرف أين الرسام ولماذا لم يأت يوم افتتاح معرضه؟
ثوانِ راقبت فيها توترها، وعشوائيًا لم يعد أمامها سوى الشاب والفتاة اللذين يجلسان على الطاولة هناك. جلست معهما بعدما وزعت ابتسامة خجولة صامتة، وكأنها تضعهما في اختبار حول كيفية التصرف مع ضيف حل فجأة. أكملا حديثهما لكن بخفوت لا يكاد يُسمع بعدما فقد الشاب الحماس الذي كان يحكي به، وأراحت الفتاة ظهرها على الكرسي، وكأنها تأخذ هدنة للتفكير. أما هي فقد سمحت لخيالها أن يطرح بعض الأفكار حولهما، ربما كان يصارحها بحبه لها، أو يتشاجر معها لإهمالها موعد سابق، وربما هو وسيط صلح بينها وبين حبيبها الذي لم يأتي اليوم.
لكنها أخذت تقارن بين تصرفي المجموعتين، لماذا أول مجموعة لفظتها سريعًا، في حين هذان الشابان وافقا على وجودها بينهما؟ لعل ما بينهما أقل تماسكًا مما بين أفراد المجموعة الأولى التي أصرت على أن تتركها للإهمال، وبالفعل أغلقوا عليهم مجموعتهم وأجبروها أن تكون خارجها، بينما هذان الشابان أكملا حديثهما وكأنها هواء. كانت دائمًا محاطة به وبأصدقائه، لكن منذ انفصالها عنه، عليها أن تعيد ترتيب وجودها في الحياة من دونه، فقد كان اختيارها، والسماح لأصدقاء جدد أن يعمّروا حياتها الآتية، هذا هو اختيارها الجديد.
وبينما كانت تحاول التعامل مع تفاصيل المكان، من بشر وجماد وحتى روائح، قاطعها الآتي الجديد للمكان، وكيف دخل بجلبة متعمدة، ملقيًا السلام من بعيد بابتسامة عريضة، بسهولة فرض وجوده، وتوجه مباشرة لهم مندمجًا بحميمية معهم، وعندما لاحظ نظرتها المتطفلة بادلها بأخرى منه وبهز رأسه لها. برغم ذلك ارتبكت وبادلته التحية من بعيد، أعطاها ذلك بارقة أمل في أن هناك من يراها. من مكانها، تتأمل كيف يتصرف من حولها بسهولة، وكأنهم وحدهم في المكان، بينما أذناها مع رفقاء الطاولة المستديرة، لكنها ظلت محتفظة بصمتها؛ فتلك إحدى طرق الاحتفاظ بالجماعة، كما قرأت من قبل.
لمحت بطرف عينيها الفتاة التي بجوارها ولاحظت كيف تهز رأسها رافضة ما يهمس به الشاب إليها، فيما الضيف الجديد يثرثر مع المجموعة الأولى أمام إحدى اللوحات، ثوانٍ وتراصوا بجوار بعضهم مكونين نصف دائرة استعدادًا لأخذ صورة "سيلفي" معًا، تسمع صوت مواء القط يتشاجر مع آخر خارج المبنى، هذا الصوت يجعل جسدها يقشعر، وقلبها يخفق بشدة، يشوشه قليلًا تسرب أصوات الباعة الجائلين، مع صوت ماء يسقط من أعلى منور البناية.
دقائق وأصبح صوت الرفيقين أكثر وضوحاً، وكأن هناك كلفةً ما قد رفعت بينها وبينهما، وسمعت كيف يترجاها أن تعطيه فرصة أخرى. أومأت برأسها مرحبة بالفكرة، ثم وقفا معًا إيذانا بالخروج من المكان بابتسامة رضى على وجهيهما، وأثناء مغادرتهما للمعرض وجهها السلام إليها، قال الشاب: فرصة سعيدة. أما الفتاة فقد أخبرتها مودعة "مع السلامة". شعرت بسعادة غامرة.
ابتسمت لهما، وهمت هي الأخرى بمغادرة المكان بعدما أحست أنها نجحت في اختبار اليوم، محققةً أول علامة تجعلها تستمر في نذرها، والمرة القادمة التي ستطأ فيها مكانًا ما، سيعلم كل من يراها، ولأول مرة، كيف أنها شخصية ودودة أجبرتها ظروف الحياة على الانطواء قليلًا، لكنها تعشق الحياة والناس، ولن يعود وجودها في المكان مرتبطًا بالإكراه، بل بألفة مع من فيه.