تنصب جهود كثير من الكتاب والمبدعين عادة على تعرية الواقع الذي نعيشه والعقليات التي تحاول إدخال المجتمع في متاهات التخلف. ورواية "الظل العاري"، الصادرة حديثًا عن دار حسناء للنشر، للكاتبة ماجدة جادو ذات التجربة العميقة في العمل الطلابي والاجتماعي والسياسي تذهب أبعد من ذلك بكثير من الشجاعة، فتقوم بتعرية الظلال وما وراءها، وما قد يكون علق بها. وتقدم للقارئ عملًا أدبيًا عبارة عن عملية كشف حساب لفترة مضت من حياة مصر والمصريين بكل ما فيها، حلوًا كان أو مرًا. منطلقة من حقائق وتجربة خاضت غمارها كما تخبرنا في بداية روايتها: "لقد خضت هذه التجربة بكاملها من الألف إلى الياء وسوف أعري ما لم يكن قد تعرى من قبل وأهدم الأصنام على رؤوس صانعيها".
وهي في ذلك تبتعد عن منهجية الجاحظ في كتابه الحيوان، الذي لجأ من خلاله إلى عالم الحيوان هربًا من تسمية الأشياء بشكل مباشر خوفا من أن تطاله يد الخليفة. وكذلك فعل ابن المقفع في الكتاب الذي ترجمه وأضاف مما لا شك في ثناياه كثيرًا من إبداعه، وأقصد هنا كتاب "كليلة ودمنة"، المتحدث عن الواقع السياسي والاجتماعي حينها من خلال قصص الحيوانات.
فبطل الرواية العائد إلى قريته بعد غربة طالت، ما إن يصلها حتى يتحسس مفاتيح بيته التي احتفظ بها طول مدة الغياب، مما يؤمن له شحنة من المشاعر والعواطف تماثل رؤية وجه حبيب. فالمفتاح هو الحبل السري الذي يربط الغريب بكل الماضي المعاش، وتفاصيل الذكريات، وبالوجوه التي عرفها، وكل الذي مر به وبالوطن. لتبدأ بعدها الكاتبة بتسريب بعض الأسرار، كمن ينثر ياسمينا على فراشه قبل أن ينام. وبعضا من أسرار أهالي القرية الذين انتقتهم بعناية، وكأنها توابل ضرورية لمذاق وطعم ذلك الطبق الدسم الذي سوف تقدمه كاتبتنا على مائدة القارئ، والذي بحد ذاته يشكل مفتاحا لفهم وطن، ومرحلة مرت به.
لتبدأ رحلة ذلك المغترب العائد والذي أصبح غريبُا في وطنه، ويتوجس منه النظام. إذ ربما تشرَّب عقله بجراثيم مفاهيم جديدة لم يردها له يوما لا من خلال إعلامه المعلب، ولا من خلال مناهجه التعليمية. وتكون صدمة المغترب مؤلمة عندما يكتشف حالة الثبات والركود المميتة التي يغرق فيها مجتمعه حركة وأداء. ويشعر بالأسى وهو الذي وضع كل أخلاقياته الإنسانية في ثلاجة ضميره كي لا تتأثر بما حولها فتنفسد، فيكتشف أن كل ما حوله قد تغير، وأنه الوحيد اللامتغير سلبًا وسط غابة تأكل وحوشها لحوم بعضها البعض بفجاجة من خلال الممارسات اليومية.
فيعيش الصدمة، ليفتح بعدها أبواب ذكرياته غائصًا في أعماق ذاته، باحثًا عن ماضيه الجميل في ريف بسيط أنيق بكل ما فيه. في شيخ القرية والفلقة. في ترتيل سور القرآن دون معرفة معانيها. والترع الموزعة كالشرايين والأوردة في الجسد. والقمر الذي يزداد بهاءً عندما يلتقي بريقه بعيون الصبايا الحاملات للبلاليص، إنه قمر لا علاقة له بقمر المدينة المنعكسة أنواره على المباني الإسمنتية. وتماوج الزرع كلما حركته نسمات هواء فحركت معها ملايا وأثواب الصبايا.
لتبدأ رحلة تطويع للذات للتأقلم مع مناظر تؤرقه وتؤلمه لأناس يعيشون بين ثلاثية تمجها الأنفس: الفقر، الحرمان، ودولة لا تريد أن تراهم. ويبدأ بالتعود على عادات نسيها، وأشياء حفرت في داخله. ولكنه ظن للحظة أن الزمن قد طواها: الزلعة؛ الكوز؛ الكنيف؛ وتكرير المياه المأخوذة من الترعة وتنقيتها بالشبة ونوى المشمش. وعلى مشاهدة الأكثر ألما، وهو منظر الفلاح الذي يشقى في أرض يملكها على الورق ولكنها في الواقع ليست ملكه، لأن إنتاجها يتم تصديره إلى الدول المتحضرة، وهو لا يذوق طعمه بل يشم رائحته، وتأخذ له عيونه بحسرة صورا، كالفقير الذي يمر من أمام واجهة محل حلويات.
إنها حديث عن المأساة المتمثلة بزوال كل ما هو جميل في الريف المصري، وغوص في حياة الفلاح الذي ما زال ومنذ أيام الفراعنة أهم مرتكز للمجتمع وقوامه. فتقدم لنا الكاتبة كثيرًا من الصور التي تشبه أحيانا القذائف التي تنفجر بصمت في داخل القارئ "أزيلت الحقول الخضراء، وأقيمت المباني الإسمنتية القبيحة الشكل والملامح. قلَّ الزرع وجف الضرع وتلوثت الأسماك وكفت الطيور عن الغناء. . .". وأصبح الفلاح ينام وهو يفكر في ثلاثة أشياء " العمدة، وشيخ البلد، وتجار الأراضي. هم يحاولون سرقة نيله وأرضه وعقله، وهو يحاول أن يغفو فوق الضفاف حاملًا معه نباته وعطره وزهوره...".
وتقدم أيضًا رحلة في عيون الناس الطيبة التي كعيون الأرض الواهبة للزرع. بل كعيون النيل، "يا نيل يا ساحر الوجود"، المتدفق على عزف النايات وترديد أصوات الأذان.
تطرح الرواية مجموعة كبيرة من الأسئلة حول الإنسان ودور مشاعر الحب لديه والتغيير الواقع من حوله. والأديان وفيما إذا كانت فعلًا لبناء الإنسان والمجتمعات والأمم. والحرية، ذلك المصطلح الذي ليس لتعريفاته نهاية ولا حدود كالإنسان تمامًا. والخنوع للحاكم الذي يسمونه صبرًا. والاستسلام للواقع الذي يسمونه قدرًا. وتحَمُل المآسي التي تسببها الأنظمة، ويسمونها أمر الله وقضاءه. وحديث عن المدن كالإسكندرية وبعض القرى النائية أو الأحياء الشعبية بعاداتها وتقاليدها، ببنائها المتخلف والمتهالك، ونسائها اللواتي يغسلن الغسيل أمام أبواب البيوت، وأطفالها شبه العراة وهم يلعبون في الأتربة ومياة المستنقعات الآسنة. هؤلاء الناس الذين يعرفون فعلا الجدعنة والطيبة والتسامح، ويعيشون في واقعهم اشتراكية حقة، فيتقاسمون الرغيف والهموم وشربة الماء.
دون نسيان حالة المراوحة التي تعيشها القرى والأنجاع، وحتى المدن والتي تشبه المياه الراكدة، فيصبح بعضها آسنا، وبعضها يتبخر. "مرت سنوات وسنوات ولا زال الجميع قابعًا في مكانه، العناكب تحتل الأسقف والجدران وتسد النوافذ، والسكان قابعون على مقاعدهم، يدهم على خدهم في انتظار أن يأخذ أحد ما عنهم القرار".
رواية تجعل القارئ يحس فعلًا بمآسي وأحزان نساء القرى والأنجاع اللواتي يبكين بصمت إلى الداخل، فيتسرب بكاءهن إلى الشرايين، وتلافيف القلب، فتتشربه الأرواح قطرة قطرة. حزن يحملنه من المهد إلى اللحد في صبر وجلد، وصمود وتحد. في الوقت الذي يصنعن فيه البهجة لمن حولهن والابتسامات والمرح. ويهبن الأزواج والأولاد الحياة والجهد والعمر وزهرة الشباب.
ويحضر في هذه الرواية الهم الوطني بقوة، إن لم يكن في كل التفاصيل والفواصل. فمشهد العمدة المتوسط للمتخاصمين وهو في داخله قد حسم أمره وانحاز مسبقًا إلى جانب القوي الذي لا يملك الحق. مما يذكر بمجلس الأمن أو الأمريكان الذين فرضوا اتفاقية كامب ديفيد بما يؤمن مصالحهم. وتسهب أيضًا في الحديث عن الفترات الضبابية التي تسود الأوطان فتغزو الفئران خلالها المجتمع. تلك الفئران القادمة من المجهول، والتي لا أصل لها. وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة. وتمسك بمقادير الأمور ابتداء من كلمات الأغاني، وانتهاء في اقتصاد البلد، ولقمة عيش المواطن ومصيره. وتقضم خيرات البلد، مع أنها مخلوقات ضعيفة قد يستهزئ بها البعض أحيانا، إلا أنها تصبح أخطر من السلاح النووي على الوطن، لأنها لا تبقي ولا تذر. فتصفها قائلة: "فئران توغلت في حلوق المنابر في المساجد والكنائس، وفي الأحزاب ومسابقات ملكات الجمال، وامتدت إلى أصوات المطربين في الغناء ونوتات الموسيقى وريشات الفن وأقلام الكتابة".
إنها رواية تعري الظل من كل ما يمكن أن يعلق به من شوائب المجتمع وعاداته الفاسدة. كلماتها مجبولة بالحنين إلى الماضي، وبساطة العيش في القرية، حيث الأصالة بكل ما فيها من عادات لم تكن تعرف مدن الباطون ومشاعر سكانها ونفاقهم. وعباراتها تمزق الواقع لتفتح فيه شبابيك على المستقبل لكي يتنفس كل أفراد الوطن الأوكسجين والهواء النقي بصدق، بعيدًا عن الأقلام الهلامية التي لا يُعرف هي مع مَنْ، وضد مَنْ. ومع الأمل الذي زرعته الكاتبة القديرة في سطورها أردد: سوف يجيء اليوم الذي يُكْنس فيه كل هذا العفن!