Close ad

زر الكهرباء

29-4-2017 | 16:21
زر الكهرباءأرشيفية
محمد فرحات

يا ناصر.. إنت مكسّل تدوس على زرار الكهربا عشان أنت جاي الشركة يوم الجمعة؟!
- لو هكلمك يا حازم كرئيس الوردية هقولك هقدر وهخلي حد غيري ينور النور مِن وراك؛ بس لو هكلمك كصاحب..
فعلًا يا حازم مش هقدر أدوس على الزرار وبلاش تلمسه كتير.. وخليك حذر!
* *
العملُ بورديةِ الأمن بشركة البترول لا يتطلب جَهدًا ولا يمل أفراد الأمن - أبدًا - جَهد المراقبة والتلصص؛ لأنهم يستمتعون كالثعالبِ بذلك، غير أنَّ بعضهم يعلم - جيدًا - أنَّ زميلهم (ناصر) يخاف الجُهد..
يخافه حدَّ الرُّعب..
* *

صُدمَ (حازم) رئيس وردية الأمن بالشركة من اعتذار زميله وصديقه (ناصر) له عن عدم ضغط زر إنارة غرفة الكاميرات..
فسأله عن مبررٍ لاعتذاره الغريب؛ لأنَّ طَلبه ليس فيه أي ضغط عمل، فهم نادرًا ما يقع على عاتقهم ضغط بالعمل..
في غرفة الكاميرات المُظلمة تقريبًا.. وضع (ناصر) فرد الأمن الثلاثيني كوب الشاي من يده على المكتب، وضمَّ كتفيه بهدوء نحو رأسه وهو يتذكر ألمًا قديمًا، كثيرًا ما تزوره ذكراه..
وتاهت عينُه وكأنها ستبدأ في حكي شيء ما لصديقه..
* *
"..أتعرف يا صديقي لقد مت يومًا بالفعل وعدت للحياة؛ بسبب هذا الشيء الخفي..
والدي رجل مُسن، منذ أكثر مِن عشرةِ أعوام، كان يعمل في تركيب السيراميك والبلاط، وكانت من أهم زبائنه عائلة ثرية جدًّا قد نفَّذ والدي لهم أعمالًا بقصورهم، وكانوا - دائمًا - يعطونه أجرًا أكثر مما يطلبه..
كنتُ ما زلت صغيرًا، سمعت من والدي أنَّ لهذه العائلة مطبعة كبيرة جدًا تُدر عليهم أموالًا كثيرة..
وفي يومٍ دقَّ هاتف المنزل فأسرعت كعادتي لأجب..
كان والد هذه العائلة هو من أجاب على سؤالي..
مَن؟
هذا الرجل كان يستلطفني كثيرًا وكنت أحبه؛ لأنه عندما كنت أذهب مع أبي للعمل لديهم، كان يُعطيني أموالًا إضافية في يدي، وكان أبي لا يأخذها مني..
سلَّم الرجلُ عليّ سلامًا حارًا وطلب أنْ يُكلّم أبي..
طلب مِن أبي أنْ يقوم بأعمال تركيبات جرانيتية لأرضيات مطبعتهم الكبيرة؛ لأن الأصباغ والمواد الكيميائية قد أكلت البلاط القديم وأهلكته..
أبي كان يعرف أنَّ العمل في هذه المطبعة شاق جدًا؛ لأنه سيقوم بكل العمل مُنحنيًا تحت الماكينات التي لن يستطيعوا إزاحتها..
وانخفاض الارتفاعِ تحتها سيُدخل أبي مُنحنيًا فقط..
لكنَّ والدي وافق على العمل؛ لما لهم معه من حُسن معاملة..
* *
أخبروا والدي أنّه سيقوم بالعمل يومي الجمعة والسبت أثناء إجازة عمال المطبعة؛ فاتفق أبي مع تاجر الرخام على تقطيع بلاط الجرانيت المربع، ومع تاجر الرمل والأسمنت، وتحركنا فجر يوم الجمعة وأنا أمدد جسدي فوق الرمل داخل صندوق سيارة النقل..
كنت أعمل مُساعدًا لأبي ومعنا فتي قريب اسمه (رمضان)..
* *
المطبعة كانت كبيرة وخالية إلّا من الماكينات الضخمة، أخبرني أبي أنها تطبع على القماش وتجففه..
بدأ أبي العمل فيما كنت أنا و(رمضان) نعمل حافيين نُعد له (المونة) ونُقرب بلاط الجرانيت من يده..
بحثت عن مِقَشّةٍ لتنظيف وتلميع ما يُنهيه أبي؛ لأنَّ عملي هو ما يُظهر جمال ما يُنهيه أبي؛ فكنت و(رمضان) نمسح فوق بلاط الجرانيت المُركَّب بالإسمنت الأبيض وننظفها جيدًا..
بدأنا في التنظيف بينما انتهى أبي من عمل اليوم وذهب للحمام ليُغير ملابسه وينظف يده ورأسه وقدميه مما علق بهم من (المونة) والأتربة..
كانت المطبعة خالية تمامًا إلا من فردين أمن كانا يجلسان حول مكتب أمام البوابة خارج المطبعة..
انتهينا مِن معظم ما ركبه أبي ووصلنا للعمل تحت ماكينة (النشَّافة) التي تُجفف القماش بعد طباعته..
هذه (النشَّافة) كانت لها ماسورتان حديديتان كبيرتان يمر من بينهما القماش محمولتان على أربع عجلات وتسير على قضيبين طويلين كقضيبي القطار..
دفعت الماسورتين للخلف وعملنا مكانهما، ثم أردت أن أعيدهما لمكانهما فحاولت دفعهما ثلاث مرات ولكنهما لم يتحركا..
ناديت على رمضان كي يُساعدني في دفعهما وأنا مذهول فقد دفعتهما من قَبل وحدي..
عجلات (النشَّافة) كان تحتهما (كَبْل) كهرباء أرضي ذو ضغطٍ عالٍ تحرك واستقر تحت عَجلة (النشَّافة) اليمنى نائمًا تحتها ويعوق حركتها..
كان ملقًى على أحد القضيبين أمام قدمي وكنت لا أراه..

كانت العجلات لا تريد التحرك وكأنها قد أمسكت بالقضيبين؛ فدفعناهما بقوة فتحركت العجلات ببطء وتحركتُ معها خُطوة للأمام بقدمي الحافيتين..
استمرت قوة دفعنا لـ(النشَّافة) تزداد حتى قطعت عجلاتها (كَبْل) الكهرباء، وفجأة أحسست بأشد ألم تملكني..
وكأنني لحم يُعصر داخل مفرمة تعصره لا تفرمه..
وصلت الكهرباء العالية بـ(النشافة) الحديدية وألصقتني بها..
احتضنت (النشَّافة) رغمًا عني..
ولكن لم يكن الأمر سيئًا بأكمله فقد دفعت الكهرباء رمضان للخلف دفعة قوية صدمته بالحائط وألقته على الأرض وهو يصرخ:
- ناصر .. ناصر .. ناصر
* *
خرج أبي بملابسه الداخلية مهرولًا على صوت رمضان فرأى الكهرباء وقد ألصقتني بـ(النشافة) الحديدية فاندفع نحوي واحتضنني من الخلف مُحاولًا إبعادي عنها فأمسكته الكهرباء ودفعته بعيدًا بجوار المقشة التي أخذ عصاتها في سرعة ووضعها بين ذراعي وأبعدني عن (النشَّافة) المُكهربة..
هرول فردا الأمن على لوحة الكهرباء الرئيسية؛ كي يفصلا الكهرباء عن المطبعة بينما مدداني أبي ورمضان على الأرض كتابوتٍ خشبي غير قابل للثني..
* *
تجمد جسدي في كتلةٍ واحدة ممددًا لا يتحرك أي شيء فيه..
أحضر أحد فردي الأمن سريعًا سيارة ووضعوني مفرودًا على كنبتها الخلفية وجلس رمضان معي يضع رأسي على فخذيه وطلب من أبي أن يدخل ليرتدي ملابسه فيما سيذهب هو معي حتى يأتي..
كان المستشفى قريب من المطبعة..
ارتدى أبي ملابسه بعد تحركنا، وظل يجري المسافة من المطبعة حتى وصل إلى المستشفى ممزق بنطاله أمام ركبتيه المجروحتين من كثرة ما وقع أثناء جريه..
وضعوني على سريرٍ في غرفة وحيدًا.. كنت بدأت أشعر بدقات قلبي ثانية وهي تدق بسرعة شديدة وكأنني أركض في مضمار سباق طويل فلم أستطع أخذ أنفاسي بسهولة، وشعرت بألمٍ في كتفي فحاولت تحريك كفي إليه وضغطت عليه بأحد أصابعي فاخترق إصبعي جلدي مُسيلًا منه دمائي، وكان الجلد في ظهري وبطني يتفتح وحده فلوَّن دمي السرير باللون الأحمر مُغيّرًا لون أغطيته ووسادته البيضاء، وأنا أرى أبي مُنهارًا يبكي بشدة على باب الغرفة يُحاول تعجيل إغاثتهم لي؛ فحاولت أن أشير له بكفي كي يطمئن بعض الشيء..
أبي يُحبني بشدة ويُعاملني كصديق؛ لذلك سوف يحزن بشدة إن مت..
جاء طبيب الاستقبال يُخبر أبي أنّه لن يستطيع فعل شيء لي إلّا إعطائي حُقنة كهرباء خاصة بالحالات مثلي، وأنَّ لا شيء يمكنه فعله لي غير ذلك، وأنه ليست عليه مسئولية إن حدث لي مكروه..
أعطى الطبيب لي الحُقنة وطلب منهم أن ينقلوني للبيت..
لم أكن أستطيع الوقوف أو تحريك أي شيء فيَّ؛ فقد كان أمرًا مؤلمًا جدًا؛ فوقف أبي ورمضان بجوار كتفيَّ يساعدونني في صعود الدرج شبه حاملين إياي..
بعد يوم من العذاب المستمر أخبرني أبي أنني سأذهب لأحد أطباء العلاج الطبيعي المشهورين بمنطقة راقية مجاورة لمنتطقتنا..
كان الطبيب يضع فوق ظهري أربع مجسات كهربية اثنان بأعلاه وآخران بأسفله تدفع جميعها الكهرباء إلى ظهري فيرتعش جسدي بقوة، ثم يُعطيني أربع حُقنات مكان المجسات الأربع، ثم يُعيد هذه المجسات الأربع فوق بطني ليُكرر ما فعله بظهري..
شهر من العذاب الذي لا يُسكَّن..
بعده لم أتمكن من حمل أي شيء ولا تكملة حمل الأثقال التي كنت أتمرن بها في البيت فقد كان لديَّ أوزان خاصة بي في بيتنا..
ومرت شهور أخرى التحقت بالجيش الذي لم يعترفوا فيه بما حدث لي مُكملين رحلة عذابي في طوابير العذاب وخدمته..
* *
بعد خروجي من الجيش أصبحت أخاف أن ألمس أي شيء موصول بالكهرباء.. أخاف أن أُغير اللمبات..
أن أضغط زر الإنارة..
قال لي الطبيب إنني الآن أعاني من مرضٍ نفسي اسمه "الإليكتروفوبيا" مثل الذين يخافون من الكهرباء، وأنني أحتاج لعلاج نفسي شديد..
المشكلة أنني أجعل ابنتي لا تفعل ذلك مثلي فأصبحت تخاف مثلي.. أنا أنقل لها هذا المرض..
أنا من يُمرض ابنته..

كل هذه الأشياء سببت لي ضغطًا نفسيًا عاليًا يؤلم ذاتي".
* *
مرت ساعة أو أكثر من ساعات العمل الفارغة بوردية الأمن وحازم لا يستطيع مقاطعة ناصر في الحديث؛ يسمعه باهتمام وكأنه يحسُ حسرته..
قام حازم بنفسه وضعط زر إنارة مدخل الشركة مُحاولًا إقناع ناصر أن لا شيء به..
ومؤكدًا لنفسه أنه لا يخاف منه..
أضاء ضوء المصباح غرفة الكاميرات الذي تأخرت إنارتها ساعة..
أو أكثر..

كلمات البحث
اقرأ ايضا: