قلت لجاري "صباح الخير" فقال لي "صباح الخير"، وكنا – كلينا- نهم بدخول المصعد. ولما انغلق الباب كان يحرك عينيه، دون رأسه، خفية نحو الأسفل، وكان – ربما كرد فعل مساو في القوة ومعاكس في الاتجاه- الخجل يتصاعد إلى ملامحه الأنثوية احمرارًا عذريًا. لعله ظن أن خداعًا بصريًا ألم به، فجعله – ويا لخداع البصر- يراني أرتدي مع بذلتي الكاملة المكوية بدقة، خف حمام بإصبع واحد، تتحرك فيه أصابعي المنبعجة من أثر حذائي الجلدي الضيق، بحرية.
كرد فعل، مساو للاثنين في القوة، ومساو للثاني فقط في الاتجاه، يصعد إلى رأسي يقين بأنه يتمنى أن يسمح لرأسه بالسقوط نحو قدمي ليقطع شكًا أثق أنه يركض بين رأسه وصدره كفأر هارب من ملاحقة خف كالذي أرتديه، أو الذي يشك أنني أرتديه؛ فالأمور من منظوره هو ليست أكيدة بعد.
ربما أراد، بدافع من تضامن أخوي، وربما عمري ينبع من البياض في فودينا الأشيبين، أن ينبهني، بعد سعلة قصيرة مبتورة متظاهرة ومفتعلة "احم، معذرة، يبدو أنك، يا سيدي – ولا غنى عن هذه النبرة المبالغة في الاحترام- نسيت أن ترتدي حذاءك – وربما بضحكة خجولة مبتورة أيضًا كتدعيم لشعور التضامن- كان الله في عوننا، الواحد يحتاج لرأسين فوق رأسه".
قلت له إن الجو حار جدًا، وإن الأرصاد تنبأت بأن درجة الحرارة – في الظل- ستكون قاسية، لا أذكرها الآن، ولسبب ما، لن تكذب تنبؤاتهم هذه المرة كما تكذب كثيرًا. ربما كان من الحكمة أن أتخلى عن ربطة العنق. المصعد الذي توقف وانفتح بابه لم يسمح له بأن يجيب.
الكون يتسربل بحماقة بيضاء، تروق لي، خفيفة ومغرية. خفيفة رغم أنها – من المؤكد- هي التي دعته لاستعادة طقس صيفي قائظ في صباح خريفي، كان من المفترض – لو سارت الأمور حسب التقليد المعروف- أن تغيب فيه الشمس، وتلهو فيه رياح رطبة بأوراق جافة، تئن تحت أقدام خائفة من مطر وشيك، كصدر عجوز مصابة بربو موسمي.
التمثال المصلوب في منتصف الميدان ترك كل شيء، كالمارة المندهشين أيضًا، وراح يحملق في قدمي العاريتين. لم ينتبه إلى أن هناك عصفورًا ترك شجرته، طواعية، وراح يترك فضلاته الساخنة اللزجة فوق رأسه. ولم ينتبه أيضًا إلى أنهم تركوه مهملًا في ميدان غير مهم، وأن الذي نحته جعل رأسه للأسفل، كأنما ليعاقبه بخلود سيزيفي عصري يناسب آلهة السرعة لا آلهة الأوليمب، بأن يراقب، مارة بائسين لا يأبهون به.
منذ سنوات، وبينما كان الميدان مهجورًا بفعل الطقس البارد، وبينما كنت أنظر من نافذتي، كان شاب قد قرر، محتميًا بهدية الخريف البارد، أن يقبل فتاته هنا، وكانت هي متسندة بجزعها إلى قاعدة التمثال. كان ينظر إليهما من عل، كما كنت أنظر أنا إليه من عل.
منذ تلك الحادثة لم أعد أهابه، وهو الذي – الرجل لا التمثال- كان محافظًا، أو لعله متزمتًا، لا يسمح لابنه برفع صوته في البيت، ولا يسمح لابنته بارتداء تنورة قصيرة، أو أن تصنع دمية من فستان قديم.
كأن جميع المارة أصابتهم عدوى التمثال الذي لا يأبهون به. نسوا جميعهم الشمس المسلطة على الرءوس، والعرق المتحدرج على جباههم، والعصافير المتأهبة التي ترى في الواحد منهم مرحاضًا عموميًا متنقلًا، وكأن زيوس العصري رماهم باللعنة نفسها، فمضوا مطرقين، حانيي الرءوس، محملقين في أصابع قدمي العارية، حتى المكتبي الشاب.
عندما سألته عن وجود سردين أجاب بامتعاض – وإن بلهجة مهذبة- إنهم مكتبة للأدوات المدرسية، يبيعون الكراسات والأقلام والدبابيس وبعض الكتب، ولكن ليس السردين. قلت له إن السردين يكاد يختفي من السوق، وإنهم يبيعون أشياء أخرى دخلت في اختصاصهم حديثًا، على الرف خلفه مثلًا "حفاضات أطفال" وفوط صحية، فلم لا يبيعون السردين؟ لم يجب، وكان يقارن بين بذلتي المكوية بدقة، وربطة عنقي، وقدمي العاريتين.
القيظ يشتد كل ثانية، وشعرت بالعرق يتسرب من إبطي حتى ابتل قميصي، ربما كان من الأفضل ألا أرتدي ربطة عنق. ولكن قدمي مرتحاتان، ربما مبتلتان قليلًا من عرق فرضته حماقة الطقس المفاجئ، ولكنني، على الأقل، لن أضطر لخلع جورب ميت من رائحة عفنة، رائحة ميلاد الفطر الذي اتخذ من الفراغات بين أصابعي، بيتًا للبغاء.
الفائدة الكبرى للجريدة الآن هي أن تكون مظلة. سألني بائع الجرائد إن كنت سأشتري الجريدة وأعود إلى البيت، ولما أجبت بالنفي، عرفت أنه مثلهم، قال لي إنني ربما نسيت أن أرتدي حذائي، وإلا فإنه من غير الطبيعي أن أقرر الذهاب إلى العمل بخفي حمام، بإصبع واحد.
قلت إنه من غير الطبيعي ألا يكون هناك سردين في الأسواق، أو لدى المكتبي، وأن أسكن في الطابق السابع، أنا المصاب برهاب الأماكن العالية، ومن غير الطبيعي أن يصنع نحات تمثالًا سيحدق للأبد إلى إسفلت أسود، إلى أبدية سوداء من مشتقات النفط الرخيصة، ويرى – مكتوف اليدين- عشاقًا يتبادلون القبلات عند قدميه، أو مخمورًا يتغوط، وربما يستمني، عند قاعدته.
قلت له أيضًا إنني أتوق لغيمة ترافقني وحدي، ثم تمطر عندما أطلب ذلك، تمطر ماءً لا سردينًا كسردين موراكامي، السردين لا يسقط من غيمة، ولا يباع في مكتبة.
الميدان مقبض وممل، محشو رتابة ثقيلة. والذهاب إلى العمل قرار غير صائب في يوم كهذا، تخرق فيه السماء جدولها، وتصدق فيه تنبؤات الأرصاد. حماقة المارة المتلصصين تثقل على نفسي، وكذلك التمثال، قلت له إنني لم أعد أهابه. تدفعني رغبة في التبول على قاعدته المتربة، لا مطر اليوم يغسل عنك ترابك، يدفع عنك لعنتك الجديدة، صخرتك العصرية، أو براز عصفور ساذج، أهدته الطبيعة الكون بأكمله مرحاضًا مفتوحًا. ولكن لا وقت لدي لذلك.
تغمرني حماقة الكون فأتشبع بها، لن أدعه – ربما بتضامن أخوي أيضًا- يحمل كل ذلك الكم من الحماقة وحده. أركض، وأعلم أن التمثال لا يستطيع أن يلاحقني بعينيه الحجريتين، أشعر بالارتياح، يغمرني فرح ثقيل، وكئيب رغم ذلك. ربما لو صنع له زيوسه العصري رأسًا شامخًا كنت سأضطر للركض خلف ظهره.
وحدهم الناس يتابعون بفضول ساذج، بائع الجرائد أيضًا يتابع، والمكتبي الشاب يترك عمله ليتابع. كان علي أن أخبره أنه يبدو كمهرج في أصفره وأحمره المتنافرين، وأن حذاءه ضخم ومنفر كدبابة في انقلاب عسكري على مدينة هادئة، وناعسة، ولكن لا وقت لدي لذلك.
الشمس نار مستعرة، وربطة العنق خانقة، كان من الخطأ ارتداء رابطة عنق، أفكها. العرق يتسرب من رقبتي لصدري كقوم من نمل سليمان ولا من يحطمها، والعصافير متأهبة ومتحفزة، لا تبحث عن خبر ولا تنتظر أمرًا من ملكها الجبار، بل تبحث عن مكان تقصفه بفضلاتها الملتهبة. المنعطف يبدو لي بعيدًا، والطريق مليء بالحمقى المتلصصين، وبالعصافير وجواسيسهم. لابد من الحذر رغم أنه لا وقت لدي لذلك.