Close ad

زيارة السيد "نون"

8-3-2017 | 11:22
زيارة السيد نونأرشيفية
أشرف العشماوي‎

قالت زوجتي وهي تهز كتفي برفق، تردد الجملة عدة مرات وأنا نصف نائم، لا أسمع اسم الضيف بوضوح، إسكاتها يعني أن أغادر فراشي، نهضت وأنا نصف يقظان، لاحقتني بأسئلتها حتى باب الحمام، أغلقته لأسكتها وأفكر؛ هل كنتُ أحلم بـ"نون"؟ عادت زوجتي تهمس كأنها خرجت معي من الحلم: من هو "نون" هذا؟ انتبهت للاسم كأني سمعته من قبل مرات كثيرة، لم أشعر بالماء الساخن المندفع فوق رأسي، أغلقت الصنبور ويدي ترتعش، وسألت نفسي للمرة الثانية: هل أنا أحلم؟ لابد أن محرري الأدبي يدبر لمقلب جديد، تعودت منه ذلك.

نظرت في الساعة كانت السابعة والنصف، الشمس المقتحمة غرفتي من النافذة تفرش الشارع على استحياء، تلون بصفرتها الأرض وربما وجوه السائرين، هززت رأسي غير مقتنع بما يدور من حولي، قشعريرة اجتاحت جسدي كله، ربما البرد؟ خرجت مسرعًا، ارتديت ملابسي على عجل، بسرعة، بسرعة الجاكيت، وبسرعة البنطلون، نسيت القميص، بسرعة أيضًا أسكت زوجتي التي لا تكف عن إلقاء الأسئلة وأنا أحاول ربط زرار قميصي:
"حدثني بالأمس ناشر مغربي، سيقوم بترجمة روايتي للغة الفرنسية"
"لكن أنت لم تنته منها بعد؟"
"فعلًا. لم أنته منها بعد. ولكن..."
"لكن نون هذا هو الذي سيترجمها لك. أليس كذلك؟
"نون. آه. نعم نون، يجلس في.. نعم في الصالون"

لا أعرف لماذا ارتبكت هكذا؟، كيف أخبرها أن السيد نون ما هو إلا بطل روايتي الجديدة، مشيت ببطء ناحية الصالون، قرب بابه الزجاجي لمحت خياله، تمامًا كما رسمته في الفصل الأول من الرواية، يجلس مائلًا بجسده نحو اليسار، يبدو أنه لا يزال يعاني من أثر إصابته في ساقه اليمنى عندما سقط من فوق حصانه، سرت قشعريرة قوية تلك المرة ببدني عندما تحرك "نون" فى مقعده، يبدو أنه لمحني، ها هو يتأهب للنهوض.
تراجعت خطوة للوراء، اصطدمت بزوجتي، أفلتت مني شهقة أفزعتها وهي المتلصصة، برقت عيناي، أشرت لها برأسي لتنصرف واضعًا إصبعي على فمي، انسحبت للوراء لكن بظهرها، تنظر نحوي بذهول واضح لا يحتاج لتفسير، تجاهلتها والتفت ناحية "نون" كان يخرج شيئًا من جيبه لابد وأنها الآلة الصغيرة التي يقطع بها طرف السيجار، وقف مترددًا يدور بعينيه في الغرفة حتى وقعت على المطفأة، التقطها ووضعها أمامه وجلس منهمكا في إشعال سيجارة وتحمية طرفه المفتوح، تلك لحظة مناسبة جدا لمباغتته، لم أطرق الباب الرئيسي وفاجأته بالدخول من الباب الجانبي الصغير الذي كان مواربًا، استجمعت قواي ودفعته بقدمي وقلت بنبرة تعمدت أن تكون قوية : "من أنت وماذا تريد، ما الذي أتى بك إلى هنا وكيف عرفت عنوان بيتي؟"

لم يندهش "نون" بل حتى لم يبدو عليه أنه تفاجأ، ابتسم ابتسامة باردة مثل التي أرسمها على شفتيه طوال الرواية وقال بهدوء"أنا ولدت هنا "
- "ولدت هنا "؟

"أعتذر بشدة ..الحقيقة يجب أن أكون أكثر دقة معك، فأنت روائي كل كلمة لها دلالة عندك، وإلا ما كنت حققت ما أنت عليه الآن من شهرة ومبيعات وجوائز، أنا يا سيدي الفاضل خلقت هنا"!

جلست على المقعد المواجه له أتفرس ملامحه، الشبه قريب جدًا مما ووصفته بالرواية، كأنني رسمت أخيه التوأم لكنه غير متطابق، قطع تأملاتي قائلًا: "أنت تستحق أن أرفع لك القبعة على رسمك لملامحي لكن فيما يبدو فاتك الكثير عن شخصيتي من الداخل يبدو أنك تعجلت .. هه؟ قلها بصراحة لا تخجل مني أنا مجرد شخصية من شخصيات روايتك لست قارئك ولا ناقدًا سيكتب عنك ويهاجمك!

لم أستطع منع ابتسامتي، وضعت ساقًا على أخرى، شعرت بأريحية مفاجئة مع السيد"نون"، ظللت أرمقه ولا أرد، لا تزال ابتسامتي تغطي نصف وجهي على الأقل، الابتسامة مُعدية لاشك، ها هو يبتسم بدوره ويعيد السؤال بطريقته الباردة المستفزة لكنها تروق لي!

"إذا كنت ترى نفسك قد خلقت هنا فأنا أستطيع إنهاء حياتك، الأمر لن يستغرق سوى دقائق، مجرد سطر أو جملة عابرة على لسان غيرك وتنتهي حياتك!!"

شعرت بثقة بعدما أنهيت كلامي لكن السيد "نون" تعالت ضحكاته حتى صارت قهقهة، رجع بظهره للخلف وهو يضرب جبهته، بدأت أتشكك في قدراتي، ثم تسرب الشك أكثر بداخلي، هل ما أراه حقيقة، نهضت واقتربت، فمد يده وصافحني ثم أمسك بيدي وضرب عليها بكفه (مرتين) قائلًا : "والله أضحكتني وأنا لم أضحك هكذا منذ جعلتني شخصية معقدة مركبة سوداوية وحرمتني أيضا من..... .
سكت "نون" ولم يكمل جملته لكنه تمتم : "لن أسامحك"
ظللت أتطلع لملامحه، لكنه كان يبتعد أكثر وأكثر، يصغر حجمه وتتلاشى ملامحه حتى اختفى.!
- ما الذي حدث؟ هل وقعت العقد معه بهذه السرعة ؟
تفرست في وجه زوجتي المندهش دومًا، لم أتوقف عن خلع ملابسي لاستكمال نومي، بينما يزداد ارتباكي مما حدث، كدت أخبرها بشفقتي عليها من فرط اندهاشها الدائم رغم حياتها العادية فما بالها لو التقت السيد نون؟ ماذا لو ظهرت لها بطلة الرواية أيضًا؟، ابتسمت لها في حنو وأنا أضع يدي على كتفها قائلًأ: لا لم نوقع بعد، أمامنا حديث طويل وتفصيلات سنناقشها فيما بعد.
قبل أن تمطر أسئلتها التي لاحت سحب فضولها بعينيها، كتمتها بسرعة قائلًا: من اللطيف أن تقتربي مني أكثر أريد أن أهمس لك بشيئًا.
اقتربت بدلال وهي تبتسم خجلة، كنت أريد الخروج من خيالاتي الغريبة إلى واقع مادي محسوس، حتى ارتباكي لا استمتع به كاملا، ههمت بها لما تذكرت أن "نون" قد اختفي، انغمسنا في قبلة طويلة تصلح كتمهيد عظيم لما ننوي فعله أثار خيالي بقوة لكن فجأة شعرت بحركة مباغتة بجواري، وجدته مستلقيًا في مكاني على الفراش بجوارنا بملابسه كاملة ويستعد لإشعال سيجاره، الارتباك شل حركتي فظللت على وضعي بينما زوجتي لا تزال غائبة من فرط النشوة.
برقت عينيه ببريق مريب وتغيرت نبرته وهو يقول : هل تفكر في إلغاء شخصيتي ؟ هل لا زلت مترددًا؟ إياك أن تكون إجابتك بنعم، فانا لن أعود للعدم ثانية، سأعيش وسيكون لي اسم أيضًا ..!
"سأنهي حياتك بجرة قلم كما نقول "
- صدقني لن تستطيع، أنا الآن لحم ودم يمكن لأي قارئ أن يراني، ولو أنهيت حياتي بجملة خبرية كما تقولون سأعيش في رأسك للأبد وأطاردك حتى في منامك !.

اعتدل في جلسته بفراشي وأشعل سيجارة ولم يجب، طالت فترة صمته فعدت ألح بالسؤال عن سبب ظهوره ثانية هل كل هذا العبث من أجل أن أسميه؟؟، فقال وهو يتعمد ألا ينظر لوجهي أثناء حديثه: بالطبع لا، إنما التوقف عن الكتابة ليس قرارك بمفردك لابد وأن تعطينا فرصة لإثبات وجودنا. لكن أن تقتلنا، تعيدنا للعدم.. تطلقنا في الفراغ.. لربما يلتقطنا غيرك.. هكذا بمنتهي السهولة بعد أن كسوتنا لحما ودما تريد الخلاص منا ، لا والله لن يحدث!!

ارتبكت وحاولت التحرر من وضعي لكنه جذب الملاءة قليلا ليغطي نصف جسدي العاري قائلا : لا تنس أنك حرمتني من رجولتي في منتصف الرواية لتتركني أكملها للنهاية مكسورا محبطا، هل تشعر بما اشعر به الآن؟ هل تقبل أن نتبادل المواقع الآن ؟ هل ستكون سعيدا إذا ما حرمتك من رجولتك ؟؟!

ازداد ارتباكي، حاولت أن أرتب أفكاري، شعرت بحبات عرق تتكون على أركان جبهتي، مقدمة سخيفة سيبتل بعدها رأسي و يتجعد شعري الخفيف ، لا إراديًا وجدتني ارقد في المسافة بين زوجتي وبين السيد نون، تمددت كجثة هامدة، بعد قليل راحت برودة تسري في أطرافي، وبدأ جسدي كله ينتفض كلما تحرك نون فى مكانه ، استجمعت قواي كلها وصرخت :اسمع أنا لن أستكمل هذه الرواية ، لا أريد أن افقد ما تبقي لي من عقل و........
قاطعني بإشارة من يده بما يعني أن صوتي عاليا وزوجتي قد تنتبه لحديثنا ، مال بجسده نحوي وقال بصوت خفيض: كل واحد منكم له رواية واحدة فارقة في حياته والباقيات تنويعات حولها .. مجرد محاولات لبلوغ الكمال لكنه لا يحدث سوى مرة واحدة وتلك هي المرة ..صدقني !

تأهب بعدها للقيام وراح يلمم ملابسي ويكومها على حافة الفراش قائلا بمودة : هيا ارتدييها وتعال فكل أبطال الرواية ينتظرونك بالصالون مع ناشرك ومحررك الأدبي هيا هيا ..
صرفت جيوش غضبي وضيقي بعيدا وظللت أتفرس في وجهه وحيدا أسيرا لأوامره ورغباته، تنهد ثم قال بنبرة هامسة حتى لا يوقظ زوجتي : صدقني اعد كتابة نون مرة أخرى أعطه فرصة وامنحني حياة سعيدة في البداية على الأقل كي تبرر نظرتي السوداوية في منتصف الرواية ليس عدلا ان تخلقني مشوه كاره للحياة ثم أتزوج كي أعيش مع زوجتي حياة أكثر تعاسة بسبب عجزي ..!
- لكن ............
- أنت لم تجرب،إنما استسهلت الكتابة بعد نجاح روايتك الأخيرة ظننت انك ستجلس أي وقت إلى مكتبك وتكتب قصة محبوكة مع كثير من التشويق بتقنية الفلاش باك لجذب القارئ ، لا يا سيدي الأمر ليس بهذه البساطة أبدا ..أنت تحفر قبرك بقلمك و......
بتر "نون" حديثه فجأة وتركني ارتدي ملابسي ، خرجت على أطراف أصابعي حتى لا أوقظ زوجتي وجدت ناشري ومحرري الأدبي يضحكان مع نون بمودة كأنهما يعرفاه من زمن بعيد ، اقتربت ببطء لمجت باقي أبطال الرواية يقفون في شبه دائرة تصدر عنهم جلبة يتحدثون جميعًا في وقت واحد بعضهم يتناول مشروبا، من أين أتوا به ؟؟، لم يتركوا لي فرصة كبيرة للدهشة ،دعوني لالتقاط صورة معهم تولى "نون" أمرها، والتقط الصورة لنا وهو معنا كان يقف بجواري بيني وبين الناشر وكل لقطة يطلب مني أن أتزحزح قليلا إلى اليسار كي يظهر وجهه كله ، بعدها التفت لي قائلا بهمس وهو يودعني : لا تنس اتفاقنا ووعدك لي بإعادة الكتابة ..!

تركنا وانصرف وخرج وراءه الناشر والمحرر ولم يودعاني ـ اختفى أبطال الرواية كما ظهروا فجأة ، وقعت عيناي على مظروف ابيض متوسط على أريكة الصالون ،مدون عليه من الخارج " أفكار لتطوير الرواية " ..مع تحياتي.. المخلص " نون " .

ابتسمت وعدت لفراشي كان قد برد، وزوجتي تغظ في نوم عميق ، تمددت بجوارها وأغمضت ، لم اعرف كم مضى من الوقت لكنني شعرت بيد تهزني برقة ، فتحت عيناي لأجد زوجتي تمد يدها لي بمظروف ابيض متوسط ، انتبهت وجلست في فراشي مندهشا وانأ اقلبه متعجبا، قالت وهي على اندهاشها : الناشر أرسل لك هذا مع مندوب وهو ينتظرك بالصالون!

فتحت المظروف، كان به صور فوتوغرافية لي مع الناشر والمحرر الأدبي وبعض موظفي دار النشر بمناسبة الإعلان عن روايتي الجديدة المزمع نشرها بعد شهور ، جذبت زوجتي صورة منهم من يدي وتأملتها قليلا ثم قالت : لماذا تترك مسافة كبيرة من الفراغ هكذا بينك وبين الناشر لقد أفسدت تناسق الصورة !!

تأملت الصورة وابتسمت لكنى لم أقل لها شيئا، احتضنت المظروف وعدت لاستكمال نومي، سألتني ماذا تقول للمندوب الذي ينتظرني، فأغمضت عيناي قائلًا: اشكريه كثيرا على هذه الزيارة الرائعة!

كلمات البحث
اقرأ ايضا: