Close ad
5-3-2017 | 10:02
زحامأرشيفية
عبد الله سرمد الجميل

طوابيرُ منَ السيّاراتِ المُعفَّرَةِ بالمعاطفِ البيضاءِ ،
وما فَتِئَ الطاهي يُحزِّزُ الغمامَ ،
فرصةٌ لِيَحيدَ موكبُ المُحافِظِ عن الطريقِ الرئيسةِ ،
إلى طرقٍ فرعيّةٍ ضيّقةٍ لا تطأُها القدمانِ إلا وهما ملتصقتانِ ،
فرصةٌ لِتُطفئَ المُحرِّكَ وتُشغِّلَ المذياعِ هازئاً بتوبيخِ المديرِ ،
فهذهِ إجازةٌ ،
فرصةٌ لِيسألَكَ طفلكُ من المَقْعَدِ الخلفيِّ :
ما شعورُ تلكِ النخلةِ المُغطّاةِ بالثلجِ وهيَ ابنةُ الصحراءِ ؟
فتجيبُهُ: لا شعورَ لها فهيَ نخلةُ زينةٍ ،
فرصةٌ لِتفُكَّ أزرارَ رقبتِكَ ،
ترجَّلْتُ وتعجّبُ المارّةُ لمّا رَأَوْني مُتَّزِناً وأنا واقفٌ بصورةٍ مائلةٍ ،
كانَ ظلُّكِ مسندي ،
أيُّها المطرُ المشاكسُ ،
أمَّلْتَ الصُّداةَ ففتّحوا أشداقَهم ،
فهطلْتَ لكنْ من السماءِ إلى السماءِ ،
ثمّ ارتددْتَ عنهم ولم تلمِسِ الأرضَ ،
أيُّها المطرُ المشاكسُ ،
تُبلّلُ حياتي كزجاجِ سيّارتي الأماميِّ وقد تعطّلتِ الماسحتانِ ،
أيُّها المطرُ المشاكسُ ،
تعلِّمُنا كيفَ تتحوّلُ الغرفةُ العراقيّةُ إلى بئرٍ ،
فتحةٌ في السقفِ نتيجةُ القصفِ ،
ودمٌ يطفَحُ من القاعِ ،
أيُّها المطرُ المشاكسُ ،
كافياً كنْتَ لتنفُثَ في كلِّ شجرةٍ غابةً مُصغَّرةً ،
كثيفاً كنْتَ لتُعلِّقَ في مُنحدَرِ النهرِ حصاناً أسودَ ،
طوابيرُ منَ السيّاراتِ المُعفَّرَةِ بالمعاطفِ البيضاءِ ،
وما فَتِئَ الطاهي يُحزِّزُ الغمامَ ،
وزلزالٌ يرُجُّ الراكبينَ ،
تسقطُ العِمارةُ الأولى ،
تسقطُ العِمارةُ الثانيةُ ،
وأربعُ حمائمَ فوقَ سطحِ العِمارةِ الثالثةِ يُثبِّتْنَها ،
لماذا قامتي برجُ الحَمَامِ ؟
أنا المنشغلُ بالتفتيشِ عنِ الرعدِ الذي لم يتبعِ البرقَ ،
والبرقِ الذي لم يسبِقِ الرعدَ ،
إلى الشمسِ رمى الأطفالُ أسنانَهم فلم تُعِدْها إليهم ،
ورميْتُ فوهبَتْني علبةً ،
قالت الشمسُ: لا تفتحَنَّها ،
وفي ليلةٍ ذاتِ شغفٍ أزحْتُ غطاءَها ،
وما زالتِ القصيدةُ تنبعثُ من تلكَ العلبةِ ،
زِحامٌ زِحامٌ زِحامٌ ،
ويُهْرَعُ الناسُ حينَ تُلقي امرأةٌ سلّةً وتركضُ ،
يَحْسَبُونَها عَبْوَةً ،
وحدي أقتربُ من السلّةِ ،
وحدي أرفعُ الطفلَ الرضيعَ ،
زِحامٌ زِحامٌ زِحامٌ ،
معكِ أختصرُ الطريقَ بالحديثِ ،
ويتضاعفُ بَصَرُنا يتضاعفُ ،
فنُبصِرُ حتّى مُحْتَوَيَاتِ المَحَلّاتِ المغلقةِ ،
سمَّيْتُكِ منارتي ،
وأجَّلْتُ حبَّكِ مثلَما يؤَجِّلُ الموتُ كلَّ شيءٍ في هذا الوطنِ ،
أنتِ لا تسخرينَ ،
هم يسخرونَ ،
أنتِ تعلمينِ ،
هم لا يعلمونَ أنَّ بعضَ البشرِ كائناتٌ من زجاجٍ ،
لا تصلُحُ لغيرِ القراءةِ والكِتابةِ ،
كنْتُ أبتدئُ كلامي معَها عن الحربِ التي في رأسي ،
تَكْفَهِرُّ المسافةُ بينَ فمي وفمِها بالدخانِ ،
فتضغُ قشورَ البُرْتُقالِ على المِدْفأةِ ،
ما أقسى أن تكونَ مُعلَّقاً كمدينةٍ نصفِ مُحرَّرةٍ ،
كشيخٍ دُفِنَ في الجانبِ الأيمنِ ،
وأهلُهُ في الجانبِ الأيسرِ ينتظرونَ ،
لِيَفتحوا القبرَ ويُعيدوهُ إلى مقبرةِ العائلةِ !
- لماذا بُنِيَتِ المنارةُ الحدباءُ في المَوْصِلِ ولا بحرٌ لتلكَ المدينةِ ؟
- بلى يا صديقي، بحرُ دمائِنا ،
طوابيرُ منَ السيّاراتِ المُعفَّرَةِ بالمعاطفِ البيضاءِ ،
وما فَتِئَ الطاهي يُحزِّزُ الغمامَ ،
والعائدونَ ليلاً من الجريمةِ وَشَتْ بهم عينُ البومةِ ،
والنهرُ وشى بهم ،
النهرُ لا ينامُ ،
النهرُ يُزعِجُهُ خريرُهُ ،
النهرُ يكرَهُ نفسَهُ ،
لا يَأْلَفُ أطفالُنا النسيمَ ،
يأْلَفونَ عَصْفَ الانفجارِ ،
الهواءُ الصيفيُّ الساكنُ لا يُرقِّصُ الوُرَيقَاتِ ،
أمّا هاماتُنا فتتمايَلُ ،
هاماتُنا الأخفُّ ،
ونحنُ صِغارٌ كانَ أهلونا يُغطّونَ عيونَنا بأياديهم ،
أمامَ مشاهدِ القُبُلاتِ في التِّلْفازِ ،
كبِرْنا فأينَ أياديهم لِتحجُبَ عنّا مشاهدَ القتلِ في شوارعِنا ؟!
الآخرُ لا يسألُني: في أيِّ حَيٍّ بيتُكَ ؟
بل: من أيَّةِ مقبرةٍ أقبلْتَ ؟
أمسِ رأيْتُهم ،
أهلَ مدينتي بعدَ حصارٍ دامَ ثلاثَ سنينَ ،
كلَّمْتُهم ولم يكلِّموني بأفواهِهم ،
صافحْتُهم ولم يُصافحوني بأصابعِهم ،
ها هوَ جلدُهُمُ المُتقرِّحُ من ماءِ البئرِ ،
قد نبَتَتْ عليهِ طحالبُ العطشِ ،
ها هيَ عيونُهُمُ الجائعةُ حَدَّ التماعِها عندَ مرورِ الكلابِ والقططِ ،
أبصارُهم صارَتْ مناظيرَ حربيّةً ،
أسماعُهم تجفَلُ من عُلُوِّ صوتِ الموسيقى ،
هُمُ الرافضونَ القُمصانَ فالسياطُ على ظهورِهم ما زالَتْ طريّةً ،
هنَّ الساهراتُ بناتُ عَمِّ النجمةِ ،
نجمةٌ في سُرَّتِكِ وأخلعُها ،
يتدفَّقُ نهرٌ من اللازَوَرْدِ ،
مهلاً فعاصفتي تغيِّرُ اتجاهَ تيّارِ النهرِ ،
هل أمدحُ الجبالَ ؟
الجبالُ سدودُ الهواءِ ،
فوقَ حَلْبَةِ الاختناقِ غلبَتْكَ الطبيعةُ أيُّها الإنسانُ ،
إنَّ الخيانةَ انبثقَتْ حينَ لم يَعُد المطّاطُ مُطاوِعاً ،
سلامٌ على تشبيهاتِ بائعِ الخَضْرَاواتِ والفواكهِ ،
عشرُ أشجارٍ متماثلاتٍ ،
واحدةٌ منهنَّ نسيَتْ صوتَ لِحائِها ،
حيثُ أصنافُ الطيورِ تغرِّدُ في أغصانِها ،
والتِّسْعُ الأخرياتُ لا يزورُهنَّ طائرٌ واحدٌ ،
هيَ هكذا ،
ممشىً أحمرُ يُحيطُ الحديقةَ ،
فلا تلمِسَنَّ إِخوةَ هذا اللونِ ،
مثلاً رأيْتُ الأخضرَ يتقمَّصُ حيلةَ العَدُوِّ ،
ما النباتُ المتسلِّقُ على الحائطِ إلا مغولٌ يتسوَّرونَ قلعةَ بغدادَ ،
مثلاً رأيْتُ أزرقَ الماءِ وأزرقَ السماءِ يتعاركانِ ،
ثُمَّ بغيمةٍ يتصالحانِ ،
إذ انتماءُ الغيمةِ ليسَ لهذا ولا لتلكَ ،
من رَحِمِ الماءِ تُولَدُ ،
ولولا عتلةُ السماءِ أعني الريحَ لما ارتفعَتْ ،
مثلاً رأيْتُ الأسودَ يتبرَّأُ منهُ الفحمُ والليلُ والعيونُ السومريّةُ ،
_____
(عبد الله سرمد الجميل - شاعر من العراق)

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة