بمجرد أن دخل الأب إلى البيت شعر بجو التوتر الذي يخيم عليه، نظر تجاه ابنته الصغرى علها تنطق وتخبره بما يحدث بالمنزل؛ فهي كعادتها لا تترك قصة إلا وتحكيها له.
ولكنها في تلك اللحظة قررت عدم النطق أو التفوه. فاختلس نظرة إلى ابنته الكبرى فرأى عينيها ممتلئتين بالدموع، فوجد نفسه مضطرًا للجلوس في منتصف الحجرة منتظرًا أن يستمع لصوت إحداهن، مطأطئً رأسه هامسًا: إن أرادت أحداكن أن تبوح لي بما في قلبها فعليها أن تعلم أنني هنا دائمًا كي أستمع لها.
وبينما الفتاتان تلتزمان الصمت نظرت سارة لشقيقتها نورا وهمست: لو كانت أمي هنا لكنا قصصنا لها كل ما حدث.
ولكن نورا لا تنطق، بل تفكر كيف ستستطيع إقناع والدها, كيف تستطيع إقناعه برغبتها في الزواج من رجل يكبرها بأكثر من خمسة عشر عامًا وله ابن من زوجة متوفاة ويعانى من إعاقة جزئية بقدميه؟ وقفت نورا تتلمس أية نظرة رحمة من والدها أو حتى إيماءة بسيطة من رأسه وهي تقص له ما بجعبتها عن هذا الرجل, ولكن الأب المذهول أخذته المفاجأة فألجمت لسانه، فأخذت الفتاة تحاول وتحاول إلى أن نطق صائحًا: عاجز وأرمل وله ابن تعدى العشرة سنوات,ويكبرك بخمس عشرة سنة؟
فنطقت: أبي، لا تقل عاجز؛ فهو ليس بعاجز
فصرخ الأب: إذن، علي أن أقول معاق
فخفضت الفتاة رأسها وقالت بهدوء: لقد عملت معه ورأيت فيه كل معاني الرجولة، ونظرت كيفيه معاملته للآخرين, رآيته رجلَ مواقف يسرع لنجدة من يحتاجه. شعرت به رجلًا يعطي ويحب ويحنو دون أن ينتظر مقابلا.
فرد سريعًا: حبيبتي، ليس كل رجل تعجبين به تتزوجينه.
فنطقت: أبي، عندما أُصبت، وعلى الرغم من عجزه - الذي ترفضه- هو من قام بحملي وأسرع بإيصالي من مكان عملي إلى المستشفى, حملني بين ذراعيه وكأنني طفلة صغيرة، وأسرع بي للمستشفى، ووهبني دمه، ثم عاد ليحضر ابنه من المدرسة ويعيده للمنزل، وعاد ثانية إلى المستشفى كي يطمئن علىّ، في حين أن زملائي الأصحاء لم يهتم أحد منهم بعمل ذلك, في حين لم تشكل ظروفه أو إعاقته - كما تقولها أبي- أي عائق لنجدتي, لم ينس مهامه تجاه ابنه، بل أسرع يحضره من مدرسته ويرسله لبيته حتى يطمئن عليه.
الأب:ولماذا لا تبدأي حياتك مع رجل بلا مشاكل؟ رجل بلا مسئوليات سواك أنتِ؟
فنظرت إليه الفتاة نظرة عتاب ونطقت: لأنني ببساطة أحبه, أحبه بكل ما فيه, بابنه, بظروفه, بمسئولياته.
وعندما نطقت نورا بتلك العبارة نظر الأب إليها باندهاش ووجوم وقال: تحبينه؟ إنه يكبرك بأكثر من خمسة عشر عامًا؟
فنظرت إليه نورا وهمست وهي تمسك بيد والدها بحنان: أتصدقني يا أبي لو أخبرتك أن حُلمي منذ قابلته أن أسكن بيته, ثم استطردت: وأن فارق العمر لا يشكل ثم عقبة عند رجل يعرف كيف يعطي الحب.
وعندئذ حاول الأب جذب ابنته إليه قائلًا: أعلم يا حبيبتي كم أنت رقيقة القلب، ولكن الزواج يحتاج إلى عقل وليس إلى قلب فقط .
فردت الفتاة سريعًا: أتظن أنه عطف أو شفقة يا أبي؟ لا، أقسم بالله، وأقسم بحياتك أنني أجده أكثر الرجال رجولة وأطيب الآباء حنانًاً.
فأخذ الأب يتمتم: أبعد كل ذلك يا ابنتي تتزوجين إنسانًا. . .؟
وقبل أن يكمل عبارته نطقت الفتاة وقالت: إنسان يعرف كيف يحب وكيف يعطي وكيف يكون أهلًا للمسئولية. أتسميه عاجزًا معاقًا يا أبي؟ أتعني أن الإعاقة هي الشلل أو الضرر أو الصمم؟ بل يا أبي الإعاقة هي عدم تحمل المسئولية, عدم مواجهة المواقف, عدم مجابهة الأخطار,عدم احتمال المصاعب والشدائد. الإعاقة هي الفشل.
فهل تعتقد أن إنسانًا أستطاع أن يكافح رغم ظروفه، ويحصل على شهادة جامعية ويلتحق بأعلى الوظائف هو شخص فاشل؟
نظر الأب إليها وقال: أخشى ابنتي، أنه كما يقال في الأمثال "مرآه الحب عمياء".
أما الفتاة فاقتربت من أبيها واحتضنته بحب وقالت: أبي، أعي أني لم أبلغ بعد العشرين من العمر، في حين هو قد تجاوز السادسة والثلاثين من عمره, وأعي أيضًا أنني معافاة كاملة الصحة، ولكن فلتصدقني يا أبي، علي أن أعلمك بأنني لم أجد من كافة من تقدموا لخطبتي ما يجعلهم يظهرون كرجال في عيني؛ فليس أحد منهم أهلًا أن يكون رفيقًا لحياتي, فليس منهم من يستطيع أن يكون سندًاً لي في مرضي وعكازًا لي في عجزي, ليس منهم من آمن إلى النوم بجواره, ليس منهم من أستقي راحتي من أنفاسه.
عندئذ هب الأب وصرخ: ألم تجدي من الشباب من يكون رفيقًا لك سوى هذا الـ. . .؟
فأجابته بترو: نعم يا أبي؛ فالزواج المثالي لا يقوم على الشباب الأصحاء والذين ليس لديهم مسئوليات، بل هو للرجال الأشداء الذين يكونون أهلًا للمسئوليات والشدائد.
عندئذ ابتسم الأب ونهض متسائلًا: أهو ذاك الشاب الواقف أمام سيارة بيضاء أسفل المنزل؟
فأجابته بابتسامة: وكيف علمت يا أبى؟
فَهم يقبلها: لأني رأيت في عينيه نظرة الاستعطاف ذاتها التي تنظرين بها إلىّ الآن,
فهلمِ ابنتي، فلتسأليه الصعود، فله أكثر من ساعتين واقفاً أمام البيتِ قلقًا شغوفًا متوترًا.