صدمة حقيقية سيطرت على نفسي وروحي بإعلان وفاة الكاتب والمترجم العراقي القدير، الصديق العزيز، حسين الموزاني. كان الرجل قبل ساعات قليلة يملأ الدنيا مرحًا وصخبًا وإقبالًا على الحياة. كل من اتصل بسببٍ أو صداقةٍ بحسين الموزاني، وتابع نشاطه العام على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، أدرك تمامًا أن هذا الرجل يتفجر حيوية ومحبة للحياة واستئناسًا بالأصدقاء، على الرغم من المنفى والاغتراب.
موضوعات مقترحة
عرفت حسين الموزاني قبل سنتين، أثناء زيارته لمصر، أمضى عدة أيام في جولات بمدن مصرية في الدلتا والصعيد (في دمياط والمنصورة والغردقة)، وطبعًا القاهرة، قرأ خلالها مقاطع من أعماله الروائية، وبخاصة من عمله الروائي الأخير "اعترافات تاجر لحوم" التي تدور أحداثها في القاهرة قبل خمسة وعشرين عامًا، وذلك في إطار مشروعات التبادل الثقافي التي تتبناها وتنظم فعالياتها في أنحاء مختلفة من مصر مؤسسة "روبرت بوش الثقافية" الألمانية بالقاهرة.
وكان ذلك بالتوازي مع عدد آخر من الفعاليات التي نظمها معهد جوته بالتعاون مع قسم اللغة الألمانية بكلية الألسن جامعة عين شمس، للقاء طلاب اللغة الألمانية وآدابها، والمهتمين بالثقافة الألمانية عمومًا. وأيضًا لمناقشة ترجمته العربية لرائعة جونتر جراس "الطبل الصفيح"، التي تزامن صدور طبعة ثانية منقحة منها مع زيارته. كان حريصًا على التنويه بهذه الطبعة التي قال عنها إنها "مصوبة نحويًا وبلاغيًا، رغم الصعوبة البالغة في ترجمتها. لكننا حرصنا على إبقاء الإيقاع الموسيقي في الأصل كما هو قدر المستطاع".
في الندوة التي نظمها له معهد جوته بالقاهرة، وكانت القاعة مزدحمة عن آخرها، شاكستُه بسؤالين عن الأدب العراقي المعاصر، وعن الدور الذي لعبته بعض الجوائز في السنوات الأخيرة في إلقاء الضوء على الرواية العراقية. أجابني في حدود الوقت المسموح للإجابة، وتناقشنا باستفاضة عقب الندوة، عارضتُه بأدب في رأيه حول نجيب محفوظ وحضوره في ألمانيا، استقبل معارضتي له بابتسامة ود ورحابة صدر، طلب مني أن نتواصل وأن أبعث له بما أكتب.
ومنذ اتصلت أواصر صداقة بيني وبين الموزاني، هنا في القاهرة، وعبر عشرات الرسائل المتبادلة على "الإنبوكس" (صندوق الرسائل الخاص)، أدركت أن أحد مفاتيح شخصية الرجل هي "الوجع" و"حزن مقيم راسخ" تخلل وجدانه وروحه رغم كل مظاهر المرح والانبساط التي يبديها في حركته ونشاطه وصخبه. كان يرى أن الكتابة "لم تكن يومًا فعلًا فرديًا صرفًا، رغم احترامي التام للفردية في العمل الفني، بل إنها عمل جماعي. ومعظم أفكاري لم تكن سوى حواراتٍ مع الآخرين، أصدقاء وغيرهم. وكلّ إنجاز أقوم به ما هو إلا إنجاز للآخرين ليس إلا. وكانت ثقة الآخرين بيّ الطاقة الوحيدة التي تحركني دائمًا. وهناك مثل ألماني يقول: ضع ثقتك بإنسان ما، فتضاعف من ثقته بنفسه عشر مرات".
بالضبط كان الموزاني يحيا ويعيش كما عبّر عن تصوراته في الكتابة، كان يبحث عن اللمة والأسرة والعائلة، يرغب في أن تذوب "فرديته" الوحيدة المغتربة في جمعية "عراقية" دافئة، في "عراق واحد موحد" يضم الشتات ويجمع المنافي ويبدد الاغتراب، وطوال سنتين من التواصل المتقارب، ومن مناقشات وتعليقات ومداخلات، كان نعم الصديق ونعم القارئ المتابع المهتم الشغوف بنتاج أصدقائه ودعمهم.
كان -رحمه الله- يتعامل معي بمحبة خالصة وتقدير كبير أدهشني بقدر ما أسعدني، وكان حريصًا على إهدائي نسخة من الطبعة الجديدة من الرواية في يونيو الماضي. وكنت أتابعه على صفحته الشخصية على "فيسبوك"، وكان مثيرًا للإعجاب بانطلاقه وصخبه ونشاطه الكبير، فضلًا عن ممارسته الترجمة الأدبية والصحفية عبر "فكر وفن" و"دويتشه فيله". كان عاشقًا لمصر الحضارة والثقافة والفنون والآداب، وقد أمضى شطرًا من حياته بها وكان يستعيد ذكرياته عنها بكثير من البهجة والامتنان الصادق.
رحم الله الصديق العزيز، وألهم أحبابه وأصدقاءه وأسرته الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.