Close ad
30-6-2016 | 20:15
جنيه أعمىأرشيفية
محمد فرحات
أشارت الطالبةُ بيدها لتوقف الصندوق المعدني الأبيض المتهالك الذي سيوصلها إلى كُليتها..
موضوعات مقترحة


وقف الصندوق مرة واحدة أمامها وسائقه يضغط فوق مكابحه بقوة؛ فاهتز بشدةٍ كل ركابه، وهم يحاولون التشبث بأقرب ما تلمسه أيديهم، والسائق يُرخي كفه فوق آلة التنبيه يتعجل ركوب الطالبة..

دفعت الطالبة جَسدها المنحني بسرعة داخل الصندوق لتنفذ إلى داخله.. فتحركتْ سيدة بدينة تملأ الكرسي خلف السائق غير المثبت جيدًا..

سحبتْ جسدها قليلًا فأفرغت مساحة صغيرة للطالبة لتجلس بجوارها - بنصفها الأيسر فقط - نصف جلسة..

مدتْ الطالبةُ يدها اليمنى داخل حقيبتها لتخرج جنيهًا معدنيًّا، ويدها اليسرى تحاول التشبث بالكرسي المُفكك..

كان السائق يحاول إنقاذهم من أن تتخطاهم السيارات المارة بجوارهم في مغامرةٍ شيقة مَليئة بالمخاطر..

هناك أخطار حولهم ولكنهم لا يرونها..

لذلك فهو يحاول الهرب منها بسرعة..

فيتحرك بهم فجأة شمالًا أو يمينًا وهو لا يترك آلة التنبيه تلتقط أنفاسها وهم جميعًا يُحاولون التشبث بالكراسي المُفككة التي يجلسون عليها..

أخرجت الطالبة الجنيه المعدني ونادت على السائق تحاول تنبيهه ليأخذه منها؛ ولكنه لم يسمعها من انهماكه في قيادةِ المغامرة وهو يحاول أن يجعل الصندوق الأبيض يرقص على صوتِ طبول الأغاني المُتتالي الخارج من السماعات - وهي الشيء الوحيد المُثبت – خلف الركاب وكأنَّ هذا الصوت المُزعج لهم يُساعده على التركيز في قيادته..

رأى السائق الطالبة في المرآة تحاول أن تعطيه أجرته في محاولة يائسة؛ فمد يده اليمنى إلى الخلف وهو لا يزال ينظر أمامه واضعًا كفه الأيسر الذي يغرس فيه سيجارته البدينة على المقود، ويُحاول الهرب من الأخطار الوهمية..

إن أرواح ركاب الصندوق ليست في أهمية الوقت، الذي يعرف السائق قيمته جيدًا.. فهو مؤمن تمامًا بأننا نعيش في عصر السرعة، ولا في أهمية شخصيته التي لا تُقهر، بتخطي صندوق آخر لصندوقه..

ولأجل ما يؤمن به فهو لا يريد إضاعة وقته.. ولا إضاعة تكشيرته التي صنعتها سيجارة الصباح..

**
لم يُوقف هذا التجلي الصباحي لديه إلا إشارة سيدة عجوز له تقف على يمينِ الطريق..

ضغط السائق مكابح سيارته مرة واحدة ليُكمل من بداخلها رقصهم الجماعي العشوائي للأمام والخلف..

وقف السائق لثانيةٍ واحدة رأى فيها بجوار السيدة حقيبتين كبيرتين ممتلئتين بحاجيات منزلها..

وسريعًا جدًّا جدًّا عادت قدمه اليمنى تضغط بشدة على مقودِ البنزين، ويده تُدير عجلة القيادة مبتعدة شمالاً عن السيدة..

دون أن يُجيب سؤال العجوز له عن وِجهته..

أو يُعرها أي اهتمام حتى..

وكأنه لم يرها..

سألته الطالبة رافعة صوتها قليلًا بغيظٍ، لماذا لم يدعها تستقل الصندوق معهم..

فأجابها السائق بتلقائية رافعًا يده للخلف أمام وجهها:

"إيه يا آنسة.. هي ناقصة عَطلة!

ده جنيه أعمى"..

أبعدتْ وجهها مِن فَظَاظته، وأخرجت نظرها خارج الشباك..

وتمنت لو أخبرته من هو الأعمى..

------
محمد فرحات
(قاص مصري)
كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة