كان البحر الأحمر والحقد والكراهية لدى الحبشة تجاه سيطرة مصر في إمبراطوريتها الممتدة من السودان وأجزاء من أوغندا وأريتيريا والصومال وجيبوتي وتحكمها في التجارة الدولية في البحر الاحمر آنذاك سببًا للعداء الذي شنته الحبشة على مصر في صراع أدى لنزاع عسكري بين الطرفين بين أعوام 1869 و1876م.
موضوعات مقترحة
كانت الحبشة، إثيوبيا حاليًا، رافضة لتحكم مصر في السيطرة على البحر الأحمر، باحثة لها عن ميناء، فافتعلت الكثير من المشاكل وانتهزت وقوع مصر في أزمة اقتصادية حادة وخانقة في عهد الخديو إسماعيل وافتعلت المشاكل بقيادة إمبراطورها يوحنا طامعة في ميناء، وبالأخص موانىء جيبوتي وإرتيريا.
الحرب التي مر عليها أكثر من 140 سنة، قضت على آلاف الجنود من المصريين والأحباش، والتي تعيش أهوالها في ذاكرة التاريخ، قدمت لنا وثيقة الشهيد اليوزباشي محمد أفندي ووالدته مسعده، من مديرية البحيرة، والتي تنفرد "بوابة الأهرام" بنشرها.
يؤكد المؤرخون أن حركة نقل التجارة من خلال السفن المصرية في البحر الأحمر، التي كانت تضاهي السفن الأجنبية وتتفوق عليها، كانت تؤكد الامتداد للنفوذ المصري من جهة، وتساعد على التمصير والتمدن في مناطق إفريقيا.
حيث تم وضع جدول للسفن المصرية التي تبحر من السويس لجدة لعدن باليمن لسواكن في السودان لموانىء جيبوتي حتى مصوع في أريتريا، التي قامت مصر بتعميرها، وهو ما جعل إثيوبيا بالاتفاق مع قوي أوروبية ومنها إنجلترا تحاول جر مصر للحرب، وهذا ماحدث.
تخرج الشهيد محمد أفندي عبد ربه في مدرسة البيادة الحربية التي أنشأها محمد علي باشا بعد مدرسة أسوان الحربية، وتدرج عبد ربه في الرتب العسكرية حتى وصل لرتبة يوزباشي "رتبة نقيب حاليًا"، ومدرسة البيادة التي أنشأها محمد علي باشا عام 1832م كان منوطًا بها تخريج فرق المشاة التي أتى منها المسمى البيادة "وكان مقرها في الخانكة، وبلغ تلاميذها المئات من المصريين، قسموا إلى ثلاثة بلوكات، يتعلمون فيها التمرينات والهندسة والإدارة الحربية، واللغات العربية بالإضافة للتركية والفارسية".
نقلت المدرسة إلى دمياط سنة 1834، وكان ناظرها ضابطًا من إيطاليا ويدعى المسيو بولونيني، وكان من ضباط الإمبراطورية النابليونية فاستخدمه محمد علي ورقاه إلى رتبة قائم مقام، وقد نقلت المدرسة إلى أبي زعبل سنة 1841م، أي قبل نشوب الحرب بين مصر وإثيوبيا بسنوات عديدة.
تصر الوثيقة على إعطاء لقب أفندي للشهيد عبد ربه، وهو إصرار يعرف منه مدى المؤهلات العلمية التي حازها الشهيد قبل أن يخوض الحرب في الحبشة، إلا أن الوثيقة لا تكشف لنا هل تعلم في مدرسة البيادة بدمياط، القريبة من موطنه في الدلتا، أم تعلم في الخانكة، كما لاتكشف لنا الوثيقة أيضًا عن حياته الأسرية سوى أمه العجوز "الست مسعده" وشقيقه علي عبد ربه.
بلوغ مسعده عمرًا طويلًا مديدًا جعلها تقوم بتحرير توكيل لابنها الثاني علي عبد ربه لصرف معاش من وزارة المالية نظير خدمة ابنها الشهيد في الجيش المصري، وكان المعاش يقدر بمبلغ 833 مليم أي 8 جنيهات مصرية آنذاك.
يدل اسم مسعده "المكتوب بالهاء" على أنها مصرية خالصة مثل ابنها الذي تعلم في مدرسة ضمت المصريين فقط، وهو التقليد الذي أرساه محمد علي باشا في الجيش المصري بعد فشل استخدام السودانيين وغير المصريين في أول مدرسة حربية أنشأها في أسوان، والتي كانت النواة الأولى للجيش المصري في العصر الحديث.
يقول الأثري د.راجح محمد لـ"بوابة الأهرام" إن محمد علي باشا أراد وضع بذرة الجيش في محافظة أسوان أولًا وقام باستقدام 30 ألف سوداني حتى يتم تدريبهم في مدرسة أسوان لوضع يده على هذه المنطقة التي هي مفتاح السودان، ومنابع نهر النيل في إفريقيا، ولكن الأمراض تتفشى فيهم فيجبر على استبدالهم بمصريين في ذات المنطقة التي تتواجد في البوابة الجنوبية لمصر".
كون محمد علي الجيش من قبل الجنود والضباط المصريين، وهم الضباط والجنود الذين خاض بهم الحروب في إفريقيا وفي أوروبا وحققوا انتصارات باهرة، وهم الجنود الذين كانوا من آباء وأمهات مصريين مثل مسعده التي كانت تقطن مديرية البحيرة.
لا نعلم السنة التي ولدت فيها مسعده والدة الشهيد العجوز، والتي عاشت حزينة بعد استشهاد ولدها بمدة تصل لأكثر من 20 سنة في عام 1889م، إلا أنها من المؤكد كانت سيدة محظوظة في الحياة؛ فقد نجت من الطاعون الذي ضرب البحيرة في وقت حفر ترعة المحمودية، والذي بدأ في عام 1807م أيام محمد علي في طفولتها، كما نجت من أهوال الحياة حتى وصولها لعمر متأخر، وهي تعيش بآلام الفقد واللوعة لفقد وليدها.
من المؤكد أن مسعده الطفلة احتوت في ذاكرتها وقائع حفر ترعة المحمودية الذي حولها من صحراء قاحلة لا ينبت فيها زرع، كما يؤكد المؤرخون، إلى بلاد عامرة بالزروع والخيرات؛ حيث أدي حفر الترعة لموت 12 ألف مصري في مدة 10 أشهر، و تم دفن الموتى على ضفتي الترعة تحت أكداس التراب الذي كانوا يرفعونه من قاعها، كما يقول المؤرخ الجبرتي في تاريخه.
لا تحوي الوثيقة أيضًا العمر الذي استشهد فيه اليوزباشي محمد أفندي عبد ربه ولا تاريخ ميلاده، إلا أنها تدل على أنه كان الوحيد الذي سلك التعليم في أسرته طبقًا لديوان المدارس الذي أسسه محمد علي باشا، والذي قرر من خلال مجلسه المؤلف من العلماء المصريين الذين رجعوا من البعثات العلمية بأوروبا إنشاء 50 مدرسة في كافة مديريات مصر.
شقيق الشهيد، ويدعى علي عبد ربه، والذي تم تحرير توكيل شرعي له من خلال والدته، وصفته الوثيقة بأنه خمري اللون، ولم تعط له مثل شقيقه الشهيد لقب أفندي، ثم حددت له أن يبصم بختمه الشخصي كمعظم الأميين في ذيل إمضاءات السركي التي حررتها وزارة المالية المصرية برقم 2451 لكل الشهداء المصريين الذين دافعوا عن مصر إزاء حقد وكراهية وغطرسة الأحباش. ## ## ## ## ## ## ##