يظل الكاتب الصحفي علي أمين، الذي تحل اليوم، 28 من مارس، ذكرى وفاته، مثالا للعلاقة بين الكاتب والسلطة باختلاف أشكالها، وتبقى حياته نموذجا لتلك العلاقة شديدة التعقيد، والخطورة، التي إما أن تدخل صاحبها الجنة، جنة السلطة، أو أن تلقي به إلى هاوية نيرانها.
موضوعات مقترحة
التوأمان أمين، مصطفى وعلي، تربيا في بيت الأمة؛ لقرابتهما من زعيم الوفد سعد زغلول، لذلك كان من الطبيعي أن يكونا وفديين شرسين، يدخلان في معارك ضارية دفاعا عن الحزب الأكثر شعبية في مصر.
ورغم بعض المشاحنات مع الملك فاروق، التي وصلت إلى حبس مصطفى أمين بتهمة العيب في الذات الملكية، فإن العلاقة بين التوأمين وبين السلطة أخذت منحى خطرا في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث تم اعتقالهما بعد أيام قليلة من الانقلاب على الملك، ليتم الإفراج عنها نظرا لعدم وجود أدلة.
عندما قرر عبد الناصر أن يؤمم "أخبار اليوم"، رحب أمين بشدة، كما يروي الكاتب الصحفي عبد الناصر النشاشيبي في مقال نشر بجريدة الشرق الأوسط، قائلا: إنه يأسف أن تكون المؤسسة مكونة من عشرة طوابق فقط، وأنه كان يتمنى أن يكون لها مائة طابق حتى يهديها للشعب.
ورغم ما في قرار تأميم الصحافة من خطورة، أبسطها انفراد السلطة بتوجيه الرأي العام، فإن علي أمين، الذي رأس تحرير أخبار اليوم بعد تأميمها بثلاث سنوات فقط، أي عام 1963، لم يجد حرجا في تأييد القرار.
بيد أن الوفاق لم يدم بين التوأمين وبين نظام ناصر؛ إذ تم إبعاد علي عن الصحافة بعد ذلك، أو بالأحرى نفيه، ومحاكمة مصطفى بتهمة التخابر، ليقضيا حياتهما منعزلين، ينعيان تاريخا راح أدراج الريح.
قصة علي ومصطفى أمين لم تكن مرشدا لغيرهما من الكتاب والصحفيين، الذين آثروا أن يخوضوا لعبة السلطة، إما عن إيمان داخلي، أو خوفا من سيف المعز.
أحد هؤلاء الكتاب كان الكاتب الصحفي، بأخبار اليوم أيضا، أنيس منصور، الذي لم يكن على وفاق إطلاقا مع عبد الناصر، لدرجة أن النظام قام بفصله بعد سوء فهم لأحد مقالات منصور، ليتحول منصور بعدها إلى الذراع اليمنى كما يقولون للرئيس أنور السادات، حيث صار متحدثا باسمه، ومستشارا إعلاميا، ورفيقا في رحلات المفاوضات، بل ووسيطا أحيانا بين السادات والكيان الصهيوني.
العلاقة بين محمد حسنين هيكل وبين السلطة اختلفت قليلا عن أنيس منصور؛ فالعلاقة بين هيكل وبين القصر لم تكن سيئة أبدا، بل على العكس ينسب البعض مقالات لهيكل تمدح القصر، ورغم ذلك صار أحد رجال عبد الناصر، مستشارا له، وكاتبا للعديد من خطاباته، وقلما معبرا عن سياسته.
كما تبقى علاقة يوسف السباعي بالسلطة محيرة؛ فالسباعي الذي كتب رواية، "رد قلبي"، لتبشر بالثورة، وتصفها بالخلاص من عهد الملكية البائد، سرعان ما انضم إلى قافلة السادات، الذي كان واضحا أن عهده يحمل في طياته محو ما خطته يد ناصر.
السباعي، الذي رأس تحرير جريدة "الأهرام" في عهد السادات، كما شغل منصب وزير الثقافة، يتهمه العديد من الكتاب بأنه كان سيفا في يد السادات، مسلطا على رقاب المثقفين، وليس ما كتبته الكاتبة والناقدة صافيناز كاظم في "تلابيب الكتابة" بقليل.
بعد وفاة السادات اختلفت الأمور كثيرا، ففي عهد مبارك لم يشأ النظام أن يتقرب من المثقفين، أو بالأحرى آثر أن يبقى على علاقة طيبة معهم، لكن دون إقحامهم في أمور السياسة والحكم، كما كان من الصعب التنكيل بالمثقفين المعارضين كما اعتادوا سابقا.
بيد أن العلاقة بين الثقافة والسلطة، خلال هذا العهد، وحتى الآن، لم تغلق بابها أبدا، لتبقى علاقة المثقفين بالسلطة محيرة، كما كانت دائما، وليدخل عدد من الكتاب ضمن قوائم المثقفين الذين بقوا في علاقة مع السلطة سواء بالمعارضة الواضحة، أو التأييد الواضح، أو التفاوت بينهما.
أحد هؤلاء الكتاب هو الروائي بهاء طاهر، الذي كان معارضا لنظم مبارك، ومقاتلا شرسا في صفوف حرية التعبير.
كان موقف طاهر من قضايا حرية التعبير صادما للعديد من محبيه في الفترة الأخيرة، فبعد حبس الروائي أحمد ناجي بتهمة خدش الحياء بسبب روايته "استخدام الحياة"، كان من المتوقع أن ينتفض دفاعا عن ناجي، وهو المعروف دائما بليبراليته الشديدة، وهجومه الدائم على المتطرفين، بيد أنه خرج بتعليق لا يسمن ولا يغني من جوع؛ إذ صرح لإحدى الصحف قائلا "لا أعلق على أحكام القضاء".
ومن عجب أن المطلوب من طاهر لم يكن التعليق على حكم قضائي، وإنما التعليق على صلاحية إحالة كاتب للقضاء بسبب عمل أدبي من الأصل.
ويرجع الكثيرون موقف صاحب "نقطة النور" إلى كونه مؤيدا للسلطة السياسية في مصر، وفي حالة هجومه على قرار حبس ناجي، يكون بذلك قد هاجم السلطة السياسية نفسها، التي لطالما تغنت بحرصها على "الثورة الدينية"، ومواجهة التطرف.
أما الدهشة من مواقف صنع الله إبراهيم فكانت أكثر عنفا وقسوة؛ فصاحب "ذات"، الذي عاش حياته معارضا للأنظمة في مصر، وتحديدا للحكم العسكري، بادر بتأييد نظام ما بعد 30 يونيو رغم خلفيته العسكرية قائلا عن الرئيس السيسي، الذي لم يكن قد أعلن ترشحه بعد للرئاسة "أعتقد أنه مكسب للحياة السياسية المصرية، ولهذا فأرى أن فكرة ترشيح السيسي لانتخابات الرئاسة حق أصيل".
تصريحات صنع الله لم تكن لتثير جدلا لو لم يكن له هذا التاريخ الطويل في معارضة الرؤساء أصحاب الخلفية العسكرية.
وينضم إلى صنع الله إبراهيم الكاتب الراحل جمال الغيطاني، والكاتب يوسف القعيد، وهما المعارضان الشديدان، اللذان كان صمتهما إزاء العديد من القضايا التي تخص حرية الرأي، محيرا، ودافعا للهجوم عليهما ممن تعلموا منهما المعارضة، والدفاع باستماتة عن الحرية.
وتبقى القائمة مفتوحة، وغير قابلة أبدا لأن تغلق، فما دامت هناك سلطة، وما دام هناك مثقفون، فإن العلاقة بينهما ستبقى لغزا أبديا، لا يفهمه إلا من دخل بقدميه المعركة.