فقط في طبعته الأولى، الهواء جدير بالقراءة.
موضوعات مقترحة
فقط خارج الحوائط، يمكن أن تصدر تلك الطبعة، ويتحرك الهواء.
المتنفس ضيق بلا شك، وقليلة الاجتهادات، والمحاولات التي نجحت، وأسفرت عن منتج ثقافي حر، متفاعل غير منعزل، حيوي غير متجمد، خالص غير موجه.
محدودة الأسماء، على أهميتها، التي تحقق لها الاستقلال، ففتحت النوافذ، وصنعت ذلك الفضاء، بمعزل عن جاذبية الأرض، الأرض التي لا ضير أن تحكمها قوانين، لكن قد يفسد حركتها الطبيعية أن تديرها سلطات.
هل كافية تلك النجاحات؟ هل اتسعت دائرة التحقق والإنجاز، لتتجاوز ما هو نخبوي ضيق إلى ما هو شعبي متسع؟ هل هناك ضوء أبيض يبرز تلك الإرهاصات، التي تبدو كفعل نضالي وسط زعيق جارف لا مسمى له سوى "السباحة مع التيار"؟ تساؤلات كثيرة، الإجابة عنها كلها بـ"لا"، تقود إلى السؤال الإشكالية: "الثقافة المصرية، أين هي؟".
ليست المقارنة المقصودة هنا بالماضي القريب، أي فترة حكم "الإخوان" المعادية للإبداع، ولا بالفترة الأسبق التي تكلست فيها العروق النابضة. المراد ببساطة: رصد موقع الثقافة المصرية الحالي، قياسًا إلى ما هو متحقق لدى غيرنا، ومأمول لدينا.
انطلاقًا من وقائع ثابتة، غير بعيدة، يمكن ـ ببساطة أيضًا ـ قراءة ما حدث، ويحدث، وسيحدث، من التضييق على بعض أصحاب الرأي، وإحالة آخرين إلى القضاء، وإغلاق عدد من المراكز الثقافية، وغيرها من المنهجيات، في ضوء قراءة مفهوم الثقافة ذاتها، وطبيعة الدور المراد للمثقف أن يلعبه، وفق برمجيات الحُكم.
لا نزال بعيدين جدًّا عما تطمح إليه اللحظة الراهنة، وذلك لأن الانقسام الأخطر لا يزال قائمًا، وبقوة، أعني ذلك الحائط الفولاذي، الذي يفصل بين المثقف السلطوي المدجن، والمثقف الحر.
منذ يوليو 1952، وما يلي ذلك من تبلور الاصطلاح البائس "الإرشاد القومي"، وهناك معنيان للثقافة؛ معنى سياسي، ومعنى فني. هناك "الثقافة": الهيكل، الوزارة، الجدران، وهناك "الثقافة": الفعل، ونادرًا ما يلتقيان. هناك "الثقافة" الدولوية، "الإرشادية"، إذا جاز التعبير، وهناك "الثقافة" كنشاط إنساني فردي، وجماعات تواصل محدودة.
المفهوم الأول، الرسمي، السلطوي، للثقافة، لم يتطور، ولن يتطور، لأن المطلب الإصلاحي الحقيقي الجاد (كما تردد عقب يناير 2011) هو نسفه، وليس تطويره.
الإدارة، للأسف، لا تكاد ترى "الثقافة" إلا من خلال هذا المنظور، الذي لا تملك ولا تعي غيره. فالمثقف خلية تتغذى من قلب السلطة، وشرايينها، ومن ثم فإن الدور المنوط به هو دور خدمي، وظيفي.
هذا الدور تحتفي به السلطة، أية سلطة، ومفهومة أسباب الاحتفاء. كما أنه دور ملائم لكثيرين من المنتفعين المنتسبين إلى "الثقافة"، الذين يدركون أن حقيقة وجودهم واستثماراتهم المعنوية والمادية مرهونة بمدى استبسالهم في الدفاع عن حوائط الوزارة، وقوائمها السلطوية.
ثمة أحلام ترددت على ألسنة البعض في أعقاب 25 يناير 2011، بشأن إلغاء وزارة الثقافة، ونفض الدولة يدها عن الهيمنة الإدارية المباشرة على قطاعات الوزارة الكبرى، التي من الممكن أن تحظى بدعم غير مشروط مثلاً، أو تدار كمؤسسات بآليات أخرى تضمن استقلالية المثقف الحر، وتصون كرامة أصحاب الأقلام المتنزهين عن الاستجداء.
هذه الأحلام تبخرت للأسف الشديد، مع الوقت، وبالتجربة. فلا السلطة زاهدة في استقطاب المدجنين، ولا الصوت الأعلى بين أصحاب الأقلام هو صوت الأحرار. فليبق الوضع كما هو عليه، وليكن الاستثناء هو صوت الناحتين في الصخر، الذين يفرضون حضورهم على المشهد الثقافي كمغردين خارج السرب.
وعادة يتأتى لهؤلاء ذلك الحضور في وطنهم بعد تحققهم على الصعيد الدولي أولاً، قبل بزوغ نجمهم في مصر، رغمًا عن السلطة، التي لا تكتفي بعدم رؤيتهم، بل تبذل جهدها كي لا يراهم الآخرون، وربما تفرط في بذل هذا الجهد، بملاحقتهم قضائيًّا، أملاً في تغييبهم.
..
فقط في طبعته الأولى
الهواء جدير بالقراءة
..
لا خوف من الموت كفكرة
الخوف من موت الفكرة
للتواصل:
[email protected]