قد يشاركني الكثيرون القول: إن الشاعر الفرنسي آرتور رامبو الذي أنجز مهماته الشعرية خلال ثلاث سنوات تقريباً من سنوات القرن التاسع عشر 1871 ـ 1874، يعتبر مثالا أصيلاً لما يمكن أن تكون عليه مفاهيم الحداثة وأوهامها..
موضوعات مقترحة
أولاً: بتبنيه مفهوم التقدم الطبقي في تغيير العالم الذي سرعان ما انكسر لديه بانهزام كومونة باريس. وثانياً: بتبنّيه لوهم الحداثة الشكلي من خلال رسالة الرائي وفشل مهمتها في كشف عالم بديل، وذلك بلا مبالاته بنشر قصائد "الإشراقات" على اعتبار أن الأحلام قد تصير أوهاماً إذا لم تتحول الى وقائع.
وربما هذا الوعي الحاد بفشل تصورات الحداثة وأحلامها بعالم أفضل، وعادل تحديداً، هي ما دفعت آرتور رامبو لكي يتخلى عن الشعر ويبحث عن حلوله الشخصية في تجارة الذهب والأسلحة بين اليمن والحبشة.
لكنّ فشل آرتور رامبو، هذا، لا ينبغي أن يكون مسوغاً باهتاً للتغاضي عن فضيلته الأساسية، وهي تقديمه لمشروع يكاد يكون مثالياً لما ينبغي أن يكون عليه الشاعر ليكون حديثاً. فإذا كانت الحداثة، حسب الفهم العصاري الذي قرأ من خلاله جون ليشته آراء منظري الحداثة و نقادها في كتابه (خمسون مفكراً أساسياً معاصراً من البنيوية إلى ما بعد الحداثة) – ترجمة د. فاتن البستاني - تعني فيما تعنيه التغيرات الملموسة التي تحدثها تغيرات الوعي في الواقع.
بما يفسّر مقولة الشاعر شارل بودلير عن الحداثة بأنها "العابر والزائل والطارئ"، أي المتغيّر دائماً حسب تطور الوعي وتغيّره. فإنّ مشروع آرتور رامبو نظر إلى الحداثة الشعرية كتجربة موازية للعلم التجريبي، مهمتها التصنيع. فهو إضافة إلى تمجيده العلم والدعوة إليه بطريقة أو بأخرى، كدلالة واقعية على فوات الكنيسة في كتابه "فصل في الجحيم". قام بإنشاء مختبره الشعري الخاص، ليدحض كلّ الأوهام الميتافيزيقية عن الشعرية كالوحي و الإلهام و المحاكاة الأفلاطونية... إلى آخره.
وهذا واضح للمطلعين على تجربة هذا الشاعر، العبقري حقاً، من خلال رسالة الرائي التي وضع فيها ما يشبه القانون النظري العلمي للكتابة الشعرية عن طريق تشويش الحواس، لأنها الطريق الأجدى للوصول إلى الرؤى الشعرية الحقيقية. و بالفعل نجحت هذه التجربة بإنتاج عملين أساسيين في الحداثة الشعرية العالمية هما: "فصل في الجحيم" و "إشراقات". لكنّ تطور الوعي لدى آرتور رامبو، أو تغيره تجاه الشعر، أو وظيفته بالأحرى، هو ما جعله يعتبر هذه التجربة فاشلة واقعياً، و مجرّد غسالات نفسية لا أكثر.
لا تشكّل تجربة آرتور رامبو منجزاً متكاملاً لوعي الحداثة الشعرية و طموحاتها وإخفاقاتها في آن وحسب. بل هي تكاد تشكّل كناية لافتة لأزمة الحداثة الاقتصادي واندحارها الحضاري على صعيد السلم الكوني. ذلك أنّ رغبة رامبو بالتوجه إلى عالم الجنوب للحصول على الذهب ترافق مع التوسع الاستعماري للغرب، و لاسيما من قبل فرنسا و بريطانيا. و جاءت تجارته بالأسلحة من طبيعة هذا الحضور الاستعماري، و ما نتج عنه من تصدعات بنيوية في طبيعة الحداثة الامبريالية، و التي أفضت إلى الحرب العالمية الأولى.
لكن آرتور رامبو توفي قبل هذه الحرب العالمية، ولم يشهد نهاياتها ونتائجها المأساوية، وبالتالي لم يتفاعل معها أدبياً، شعراً أو نثراً.
ما ينبغي ذكره أو تذكرّه بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة هو حركة شعرية كبيرة ظهرت عام 1916في مدينة زيورخ السويسرية، أثارت لديها هذه الحرب ردودَ أفعالٍ أكثر سلبية على الوظيفة الشعرية – و ليس على الشعرية ذاتها بالضرورة - من تلك التي أثارتها إخفاقات كمونة باريس على رامبو. ربما أطلقت هذه الحركة على نفسها اسماً طريفاً ينسجم مع تمردها هو "الدادئية"، و هو اسم غير معروف الأصل، و إن كان يعتقد أنه أتى من الرومانيين ترستان تزارا ومارسيل جانكو من دا دا والتي تعني بالرومانية نعم نعم. ويقال أن الحركة عندما اجتمعت في زيورخ أرادت أن تختار اسما فأحضرت قاموساً فرنسياً ألمانياً، وبشكل عشوائي، وقعت على كلمة دادا، والتي تستخدم عند الأطفال في فرنسا للشيء المفضل. أيضاً هناك قول بأنها أتت من العبارة الألمانية "Die Welt ist da، da!" والتي تعني "العالم هنا هنا".
وهناك مصادر تقول إن كلمة دادا معناها الحصان الخشبي المتأرجح الذي يستخدمه الأطفال للتسلية. لكنّ بيانها الأول يتجاوز طرافة الاسم و معانيه المختلفة هذه، ليبرز جديّة توجهاتها و رغبتها العميقة بالتخلص من مسببات الحرب و آثارها، و قد تمت تلاوته في ملهى فولتير حين اجتماع أعضائها المؤسسيين : "لقد فقدنا الثقة في ثقافتنا، كل شيء يجب أن يهدم، سنبدأ من جديد بعد أن نمحي كل شيء، في كبريه فولتير سيبدأ صدام المنطق، الرأي العام، التعليم، المؤسسات، المتاحف، الذوق الجيد، باختصار كل شيء قائم".
كما هو واضح من هذا البيان لم تأتِ الدادائية أو لم ترغب بالقيام بأيّ مشروع إنقاذي للبشرية، أو مؤسس لشيء جديد في سبيل ذلك سوى تخريب العالم القديم و ثقافته. لولا أنّ أهميتها – إضافةً إلى تمهيدها لظهور حركة جديدة ذات مشروع واضح و محدّد الرؤى كالسريالية – برزت من خلال كونها دلالة أو مؤشر على نهاية الحداثة، وبدء عصر آخر اصطلح على تسميته ب "ما بعد الحداثة" لعدم تحدّده و فهم مساره و أنساقه بشكل واضح حتى الآن. وإذا لم تصرح الدادائية بذلك، أي بانتمائها إلى عصر ما بعد الحداثة، فإنّ شاعرها الأبرز ترستان تزارا كان قد أوضح في قصيدة قيمة أسياسية من قيم ما بعد الحداثة و قد ذكرها جون ليشته في تقديمه لمفكري ما بعد الحداثة في كتابه الأنف الذكر، و تتمحور حول إعادة الإنتاج، مقابل الإنتاج و التصنيع الذي تكفّلت به الحداثة.. يقول تريستان تزارا في هذه القصيدة - ترجمها عبدالقادر الجنابي- و عنوانها (لتأليف قصيدة دادائية):
"خُذ جريدة
خُذ مقصاً
اختر منها مقالاً له الطول الذي تريده لقصيدتك.
اقتطع المقال
قُصّ باعتناء الكلمات التي يتألف منها المقال، ضعها بعد ذلك في كيس.
خُضّه برفق.
ثم أخرِج قصاصة تلو قصاصة
استنسخها بخالص الدقّة حسب ترتيب خروجها من الكيس.
ستشبهك القصيدة.
وها أنت كاتب في منتهى الأصالة ذو إحساس ظريف وإن لا يفهمه العوام".
إضافة إلى توافق هذه القصيدة مع عصارة ليشته في كتابه الآنف الذكر حول طبيعة ما بعد الحداثة باعتبارها إعادة إنتاج لما هو مصنّع، فإنها تحتمل عدداً لابأس به من القيم الما بعد حداثوية كالعبثية و السخرية... إلى آخره. و ربما هذا ما جعل إيهاب حسن، و هو أحد كبار مفكري ما بعد الحداثة في العالم، متحمساً لأن يضع الدادئية على رأس القيم الما بعد حداثوية في جدوله الشهير المقارن ما بين قيم الحداثة و قيم ما بعد الحداثة.
غير أنّ مقولة إعادة الإنتاج التي تسم كتابات ما بعد الحداثة قد تكون أوسع من فنية الكولاج الذي اقترحته قصيدة تزارا السابقة كحالة فيزيقية خالية من الدلالة أو المعنى، بينما إعادة الإنتاج قد تطال قصائد لشعراء أو أعمالاً فنية للعبث فيها، و ذلك من أجل الحصول على دلالات و معانٍ جديدة لم يقصدها مبدعوها الأصلاء. هذا في الوقت الذي تطوّرت فيه فنية الكولاج إلى جمالية حالمة لدى السريالية كما هي بارزة في أعمال سلفادور دالي بوضوح، بينما اكتفى الفنانون متواضعو الموهبة بالسيمولاكرا (الصورة المزيف) والملصق واحتمالاتهما التشكيلية.
ذكر إيهاب حسن أنّ بعض قيم ما بعد الحداثة قد تكون منجزة في العصور الحديثة و ما قبلها، و لكن هذا لا يجعلها ما بعد حداثية لاختلاف رؤاها ووظائفها. و طالما أتحدث عن الإلصاق فقد يكون من الطريف أنّ أذكر هذا البيت الذي يصف فيه امرؤ القيس حصانه ليدلّل على جماله :
لهُ أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ
وإرخاءُ سرحانٍ وتقريبُ تتفلِ
فإخراج المشابهة في هذا البيت إلصاقي، ذلك أنّ خيال المتلقي حين قراءته سوف يلجأ إلى عملية التركيب الإلصاقية المشابهة لقصيدة تزارا و إن بأدوات مختلفة. و لكن ما يجعل البيت كلاسيكياً ليس انتماء شاعره إلى عصر ما قبل الإسلام بقدر ما يجعله كذلك وظيفته الجمالية الساعية إلى الكمال بما يناقض قيم ما بعد الحداثة كلها.
لا أظنّ أنّ الشاعر السوري هادي دانيال تقصّد في قصائده الأولى كلّ ما كتبته عن المقارنة بين الحداثة وما بعدها من خلال آرتور رامبو وتريستان تزارا، ولا يفترض منه ذلك. ولكن كان من الصعب عليّ أن أتفهّم رؤاه الشعرية بشكل واضح لو لم أطلعْ بشكل مطرد على طبيعة الرؤى المعاصرة للشعرية العالمية لأتفّهم الدوافع الموضوعية لما يكتبه، ذلك أنّ الانتقال إلى ما بعد الحداثة لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال إنجاز الحداثة، وهذا شيء لم تنجزه سورية، ولا أيّ بلد عاش فيه الشاعر من البلدان العربية. و لا أظنّ أنّ الرغبة بالحداثة، والسعي إليها، و الإخفاق في إنجازها كافياً للعبور إلى عصر ما بعد الحداثة، إلا من خلال وعي منزاح عن محيطه الموضوعي، متبصّرٌ فيما يعيشه، وناقدٌ له.
بهذا المعنى جاءت قصيدة هادي دانيال مرافقة لانكسار مشروع الحداثة العربية، و متمردة عليه، و على سلطاته بكافة تجلياتها السياسية و الاجتماعية و الثقافية، و لكنه تمرّد متشظٍّ بلا أيّ مشروع جمالي أو سياسي سوى الغضب و السخط و التدمير، و ربما كانت قصيدته (قلبي خارطة سوداء) المكتوبة سنة 1973، من أكثرها تشظياً واحتداماً و نضجاً في مرحلته الدادائية الأولى:
"قلبي يمتدُّ من البحرِ المتوسط خارطةً
عبر الصحراء تسافرُ أغنيةً يشرخُها الحزنُ
وآلامُ الفقراء
أطويها فوقَ رصيفِ الشارعِ، أحرقها
وأنام!"
ربما يبدو هذا المقطع أكثر عبيثة من قصيدة تزارا على اعتبار أنّ هذا الأخير يختط منهجاً فنياً خالياً من المعنى وإن كان يسخر في نهايتها من الذوق العام، بينما هادي دانيال يؤكّد على المعنى عبر دلالاته الرافضة لحال العرب و ما يعانونه من آلام الفقر و التشرد و التمزق. و إذا كان لا بدّ من إعادة إلصاق لهذا التمزّق فهو ينهج منهج السرياليين التشكيلي وإن كان على سبيل الكابوس لا الحلم. وهذا ما يتبدّى في قصيدته (بيان الروح) المكتوبة عام 1985 على الرغم من سخريتها المريرة من صورها ذاتها بما يتجاوز الدادائية للسؤال عن معنى غير متحقّق، وإن ما زال الشاعر هادي دانيال يطارده من خلال تأكيد غيابه:
"البحرُ لشاطئهِ،
وأمامي:
كرسيٌّ من عظمِ جوادٍ نافقْ
طاولةٌ من أثداءٍ ذابلةٍ،
ورقٌ من جلدِ امرأةٍ
كانَ صهيلُ الشهوةِ فيها
أعلى من رعدِ "الفانتومْ".
فاجلسْ بهدوءٍ
(يا أنتَ\ أنا)
واكتبْ للثورةِ أغنيةَ النصرِ على
فيضانِ الروحِ بسُدِّ "الفاليومْ".
هذا المعنى الغائب ربما ليس أكثر من مشروع معاصر متحرّر من استبداد الحداثة و أوهامها و ارتكاساتها من أجل التطلع إلى أفق جديد لم تزل تجارب عصر ما بعد الحداثة تدلّ عليه، و لكن من غير أن تصله.