نجيب محفوظ، هو الأب الروحي للرواية العربية، والمؤرخ الأدبي، والمثقف الموسوعي. ويعده كثير من الناس لسان حالهم، والراصد لآمالهم وآلامهم. عاش بينهم، لهم وبهم، ومن نسيجهم خرجت رواياته، ومن أجلهم ذاعت شهرته حتى وصلت للعالمية، بترجمة أعماله وحصوله على جائزة نوبل.
موضوعات مقترحة
في 30 من أغسطس 2006 رحل الأديب الأكبر، ونحن في ذكراه التاسعة على موعد متجدد معه، لكن من خلال محبيه وقرائه من النقاد، الغواصين في بحره الثري.
في حديثه لـ"بوابة الأهرام"، يقول الناقد عبد الهادي عباس: نجيب محفوظ قُنَّةٌ سامقةٌ في الأدبين العربي والعالمي.. نتيجة لا يُماريها إلا مُخاتلٌ غابنٌ، والمخاتلون لا ملتحد لهم ولا وزر من قمامات التاريخ.
ففي الأدب العربي، الأدلة على علوّ كعب محفوظ أكبر من أن تُحصى كمًّا وكيفًا، إذ كان طلعةً لجيل كامل ورأسًا لرءوس أناروا عصرنا الناهض، ولا يزالون. وعالميًّا، دالةٌ عليه الترجمات الطامة لأعماله، مختارات قصصية، وروايات كاملة، أظهرها زقاق المدق التي أبهرت الفرنسيين فترجموها عدة مرات، ثم نقلها عنهم الإسبان في ترجمات عدة.. حيث كان محفوظ العلامة الأكبر للغرب بأن في العرب أدبًا روائيًّا وقصصيًّا رائدًا.
ويُمثل إبداع نجيب محفوظ تأريخًا للفن الروائي المصري والعربي، وكذلك الفن القصصي، والفلسفي منه على وجه الخصوص.
ويضيف عباس: لا شك في أن الفترة الأولى من بواكير محفوظ أثَّرت أيما تأثير في عقليته الإبداعية.. ونظرة واحدة إلى الأسماء المصطرعة على الساحة وقتها تُدهشنا بهذا الكم من الأدباء والمبدعين والنقاد، لا نزال نقتات منهم حتى الآن وننزل ضيوفًا على موائدهم.. كل ذلك أثر في إبداع محفوظ، كما أثرت فيه دراسته للفلسفة.
وبالطبع، هو الأب الحقيقي للرواية التي يترك المثقف كل وجوه الإبداع ليخلص لها فتخلص له، وإن كان للرواية آباءٌ آخرون أسبق زمنًا، وإن لم يكونوا أكثر جودة وأخصب فكرا وأوفر عددًا.
إن أراد باحثٌ في الحياة الاجتماعية المصرية في القرن الماضي، أو دارسٌ للثورات المصرية، ما لها وما عليها، فإنني زعيمٌ بأن روايات وقصص محفوظ كافية لهما ومغنية عن عدد كبير من المراجع التاريخية الصرفة.
لا أحسب -حسبما أعلم- أن لمحفوظ إسهامًا في الدراسات النقدية أو الأدبية.. وإن مثلت رواياته وقصصه كنزًا لا ينضب للنقاد والدارسين، في حياته وبعد مماته.
ويؤكد عباس أن محفوظ تناول كل طبقات المجتمع المصري وطوائفه، لأنه وصف ما رأى بعينيه، ولم يتناول الفقراء والبسطاء فقط، وإن كان لهم نصيب الضِّعف في أعماله، ويقول: لا أعتقد أن هذا التناول كان السبب الرئيسي في ذيوع أعماله، وإن كان سببًا ضمن أسباب أخرى، وإلا فكيف نُفسر ذيوع أعماله بين المترفين والمثقفين، وهي فئات بعيدة كل البعد، عن الشحاذين وصانعي العاهات والبائعين والحلاقين وأرباب هذه المهن. إنه صدق التناول وجودة التركيب، ويُخطئ من يحسب أن لغة محفوظ سهلة التناول أو قريبة المأخذ، بل هي لغة فلسفية أقرب إلى الشعر.
ويقول الناقد د.محمد عبد الباسط: نجيب محفوظ هو بحق شيخ الرواية العربية، وهو أحد أهم كبار الروائيين في العالم، هذه حقيقة يسلم بها الجميع.
والأدب في جانب منه تأريخي بطبيعة الحال، ولا يمكننا أن نضع منجز محفوظ كله في سلة واحدة، فالتأكيد تختلف الإحالة إلى الواقع في المرحلة الواقعية عن "الإحالة" إلى الواقع في المرحلة الرمزية، ففي الأولى يبدو الحس التأريخي عاليا، وفي الأخرى يبدو الحس الاستعاري الرؤيوي أعلى، وفي هذا وذاك، نحن أمام نصوص يلتقي فيها التاريخي بالخيالي على نحو مخصوص وذلك وفق رؤية مخصوصة أيضا.
أما التأثير في الواقع، فلا أحد يمكنه الحديث عن أثر مباشر للفنون عامة في الواقع، وإنما يمكننا الحديث عن تأثير غير مباشر، الفنون عامة ومنها الرواية والشعر تفتح الوعي الفردي والجمعي على أفضية جديدة، ومن ثم فهي - عبر عمليات التراكم - تبدو قادرة على تغيير الوعي، حين يعي المتلقي عالمه، ويعي حقه في حياة أفضل وأجمل.
ويضيف د.محمدعبد الباسط: لا يمكننا الحديث عن دور مباشر لنصوص محفوظ في إثراء النقد ونظرياته، كما لا يمكننا الحديث عن أعمال غيره في ذلك، تأثيرات الأعمال الإبداعية لا تكون مباشرة في النظرية النقدية، أضف إلى ذلك أن النقد ومناهجه اليوم ينبثقان مباشرة من النظرية الفلسفية، والحراك الاجتماعي الذي يؤسس لقيم العقلانية والحرية والمساواة والعالم العربي يعيش حالة أخرى، ومن ثم كان النقد العربي في العقود الأخيرة تابعا للنقد الغربي.
نجيب محفوظ لا يتحدث عن المهمشين والبسطاء فحسب، نجيب محفوظ يتحدث بصدق فني عن الواقع المصري، لقد أخلص لعمله، وطور أدواته، واستمر على ذلك طوال عقود ليست قليلة ومن ثم كان بدهيا أن يكون نجيب محفوظ.
ويقول الناقد أحمد حسن عوض عن الأدب المحفوظي: يمثّل أديبنا العالمي الكبير نجيب محفوظ الواجهة المشرقة الممتدة بعمق في أدبنا العربي الحديث، والمشاركة باقتدار في المشهد الروائي العالمي المعاصر. ومنذ بداياته السرديّة الأولى، نستطيع أن نلمح ذلك الولع باستبطان التاريخ والكتابة عن الهُوية المصريةِ عبر ثلاثيته التاريخيةِ المبكرةِ " رادوبيس" و" عبث الأقدار" و"كفاح طيبة".
وقد تطور مفهوم المؤرخ لديه ليتحرّك عرضًا وطولا، ويرصد بوعي فائق تجليات المشهد المصري الحديث منذ ثورة 1919 وحتى عصر مبارك مركّزًا على البطانة الاجتماعيّة الملاصقة للحدث التاريخي والوعي النفسي الذي يشكّل أفق الشخصيات الروائية المنفعلة والمتفاعلة مع الأحداث التاريخيّة الكبرى والتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتلاحقة.
ويضيف أحمد حسن: يعدُّ نجيب محفوظ بحق الأبَ الروحي للرواية العربية إذ نقلها من رخاوة البدايات الأولى على أيدي محمد حسين هيكل وطه حسين والعقّاد إلى الانضباط المعماري والأبنية الواعية بمسألة الشكل الروائي الذي بدأ بالكتابة على النمط البلزاكي، وانتهى بالحراك التجريبي وتوظيف تقنيات حديثة مثل: تيار الوعي، وتعدد الأصوات، والسرد الروائي من خلال وعي الشخصية، واستلهام البنى المسرحية. وهي تقنيات وأساليب أسهمت بشكل كبير في إثراء الدراسات النقديّة وتطوير نظريات السرد الحديثة، ليجمع نجيب محفوظ في قبضة واحدة بين وعيه الفائق بمسألة التكنيك وقدرته الباهرة على تمثيل شرائح المجتمع المتعدّدة، ابتداءً من الزعماء والقادة الكبار والمثقفين وانتهاء بالبسطاء والمهمّشين.