Close ad

صعد المزيفون من جيل الستينيات وسقط غارقا فى أمراضه.. محمد حافظ رجب.. يصل إلى محطته الأخيرة

23-2-2021 | 17:56
صعد المزيفون من جيل الستينيات وسقط غارقا فى أمراضه محمد حافظ رجب يصل إلى محطته الأخيرةمحمد حافظ رجب
عزمى عبد الوهاب
الأهرام العربي نقلاً عن

رحل الكاتب والقاص المصرى محمد حافظ رجب، رائد أدب اللامعقول فى العالم العربى، فجر السبت الماضي، عن عمر ناهز الـ86 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، وقد عاش حياة مأساوية منذ ميلاده فى 6 مايو عام 1935، حيث عمل بائعا “سريحا” وبائعا للجرائد والمجلات، وعاملا بمصنع للحلويات.

موضوعات مقترحة

أقام حافظ رجب بالقاهرة لفترة قصيرة، ثم عاد إلى الإسكندرية فى بداية الستينيات من القرن الماضى، وأصدر مجموعاته القصصية: “غرباء” عام 1968 و”الكرة ورأس الرجل - مخلوقات براد الشاى المغلى - حماصة وقهقهات الحمير الذكية - اشتعال رأس الميت - طارق ليل الظلمات - رقصات مرحة لبغال البلدية - عشق كوب عصير الجوافة - مقاطع من جولة ميم المملة”.

شارك “محمد حافظ رجب” فى صباه فى تأسيس الرابطة الثقافية للأدباء الناشئين، وقد عرفته أرصفة الإسكندرية، وهو صبى صغير، ولم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية، ونشر قصصه الأولى فى جريدة “المساء” التى كان يشرف على ملحقها الأدبى الكاتب عبد الفتاح الجمل، ثم أسس هو وآخرون رابطة لكتّاب الطليعة بالإسكندرية عام 1956، كتب عنها الراحل “لطفى الخولي”: إن مستقبل القصة ينبع من هذه الرابطة.
“نحن جيل بلا أساتذة” جملة أشبه بطلقة الرصاص، أطلقها محمد حافظ رجب فى ستينيات القرن الماضي، ثم عاد إلى مسقط رأسه بالإسكندرية، ليختفى بعدها تماما من الساحة الثقافية، إلى أن يظهر فى إحدى ندوات أتيلييه القاهرة، قرب نهاية التسعينيات من القرن الماضي، لمناقشة مجموعة قصصية صدرت له آنذاك، بعد انقطاع عن ـ وقطيعة مع ـ أوساط المثقفين.

كان الرجل ساعتها يبدو مهزوما، تحت وطأة الزمن، كما رأيته فى أحد مؤتمرات الأقاليم ببنى سويف، اقتربت منه، وقلت له: أجيال كثيرة تعلمت من مجموعتك القصصية “الكرة ورأس الرجل” أردت أن أقول له إن ما كتبه ترك أثرا كبيرا، لكنه ظل صامتا، وكأن الأمر لا يعنيه، وفى أتيلييه القاهرة كان ينظر إلى داخله أكثر مما ينظر إلى الوجوه المحيطة به فى الندوة، وعددهم لا يتجاوز بضعة أشخاص، كانت هناك ابتسامة شاحبة على شفتيه، كان غائبا.
عاد محمد حافظ رجب على جناح “دار العين للنشر والتوزيع” بكل قصصه، التى نشرت والتى لم تنشر، عاد بما كتبه من تخطيطات أولية لسيرته الذاتية، ومعاركه الأدبية التى أثارها مع رموز الثقافة المصرية فى منتصف القرن الماضي، حيث أصدرت “دار العين” كل ما يتعلق بحافظ رجب فى مجلدين تتعدى صفحاتهما حاجز الـ 1400 صفحة.

ألقى حافظ رجب حجرا فى بركة الكبار الراكدة ومضى، كان المناخ الثقافي، كما يصفه، عندما أطلق مقولته الشهيرة “نحن جيل بلا أساتذة” فى العام 1958، على النحو التالى:”كنا وقتها صغارا، كنا لا ندرى أين المستقر، عبد الرحمن الخميسى وعبد الرحمن الشرقاوى نجمان بزغا مبكرا، يقدمان ما لديهما باسم الواقعية المصرية، من بعيد جاءنا ضوء الواقعية الاشتراكية البعيدة، مكسيم جوركى وخلفه يتوارى تشيكوف كاتب روسيا الإنسان، ولأننا كنا صغارا فقد عبدنا مكسيم جوركي، ورفعنا صورته وعلقناها فى المعبد، حيث نقرأ ونكتب، كما اتجهت عواطفنا الحارة إلى الخميسى وعبد الرحمن الشرقاوي، تلاحقهما حيث كانا، ولم يكن يوسف إدريس قد ترك علامة بصمته بعد”.

أصحاب الأدب الأسود

وقتها كان جيل الشباب يقلد هؤلاء الكبار، وكان يوسف السباعى يصفهم بـ “أصحاب الأدب الأسود” وكان حافظ رجب قد شد الرحال إلى العاصمة التى قال عنها: “فى القاهرة كتبت الحقيقة، هؤلاء وهؤلاء يعبرون اليم بسفن واحدة، أمامنا يقولون الشعب الكادح ودموع الآهات، وأمامنا يقول الأعداء التسلية هى الهدف والوسيلة، وأمام أنفسهم يتبادلون العناق”... “ولأننا كنا فى السوق نبيع ونشتري، ونحن صغار الحال والأحوال، فقد تبينا أننا غرباء، غرباء إلى حد القهر، كذلك كان الناس غرباء معنا، وكانت هناك ثورة، ودخل كل الكتاب فى مصر طابور العرض السريع، وأدركنا أننا والناس: جيل بلا أساتذة، لم تكن هناك أبوة تنصحنا، لم يكن هناك أهل يبحثون عنا، حتى إن الناس أخذهم الكابوس، فتركونا نعوى فى الساحة وحدنا”.
فى هذا الزمن أصدر مجموعة من الكتاب، مجموعة قصصية بعنوان “عيش وملح” وضمت قصصا لحافظ رجب وعباس محمد عباس ومحمد جاد والدسوقى فهمى وعز الدين نجيب والسيد خميس، استقبل الكاتب الكبير يحيى حقى هذه الكتابات قائلا: “إنها واقعية جديدة” ودارت مناقشات بين رشدى صالح وحافظ رجب، وسرعان ما جاء المد حافلا: مدرسة جديدة فى القصة، تغير فى الشكل والمضمون والأسلوب، بدأها حافظ رجب، ولحق به بعض الكتاب.

وبدأت الأسئلة: لماذا تكتبون هذه الكتابة والمناخ لا يسمح؟ لماذا تخرجون من الصف؟ لماذا تتمردون؟ لماذا تواجهون الكل؟ لماذا لا تحترمون السائد؟ كانت لهذه الكتابة ملامح مختلفة، رصدها د. صبرى حافظ فى مقال كتبه عن مجموعات حافظ رجب “عيش وملح” و”الكرة ورأس الرجل” و”غرباء”.

يقول:”يقدم الكاتب فى أقاصيصه كلها نمطا إنسانيا يكاد يكون هو الكاتب نفسه، نمط الإنسان المسحوق المقهور، سواء أكان بائعا جائلا، وقد كان الكاتب نفسه فى بداية حياته بائعا متجولا ـ أو عاملا فى مطعم، وقد عمل الكاتب فى بواكير حياته عاملا فى مطعم أبيه، أو موظفا صغيرا، ولا يزال الكاتب حتى اليوم موظفا صغيرا، يعانى من سخافات القبوع بالقرب من قاع السلم الوظيفى أو كاتبا شابا فى عالم منصرف عن الاهتمام بالكلمة أو متجه إلى المتاجرة بها، هذا النمط الواحد المتعدد الوجوه، يغامر به الكاتب مجموعة من المغامرات ويخوض به عدة تجارب تبلور لنا الكثير من القضايا الشخصية المصرية فى الستينيات”.

يؤكد د. صبرى حافظ أن أى دارسة جادة عن أدب الستينيات لا بد أن تبدأ بحافظ رجب، لأنه أول من فجر قضية الأدب الجديد، وطرح الأسئلة حول هويته، ولأنه أول من استشعر ضرورة البحث عن أساليب تعبيرية ومنطلقات بنائيه طازجة تتمكن الأقصوصة عبرها من استيعاب هذا التغيير الشامل فى الحساسية وهذا الانقلاب الجذرى فى النمط البشرى الذى تستقطب همومه.

قدر من الحقيقة

يرى د. صبرى حافظ أن صرخة رجب الشهيرة:”نحن جيل بلا أساتذة” تنطوى على قدر من الحقيقة ومقدار من الافتعال، وتتجلى حقيقتها فى أنها كانت بالفعل تعبيرا عن نزوع له جذوره العميقة لتجاوز الجمود المكرور فى الإبداع الأدبى، وهو يعالج قضايا مطالع الستينيات بنفس الأسلوب الذى تناول به هموم الأربعينيات، وتجسيدا لحنين هذا الجيل الجديد إلى التحرر من قبضته الجيل القديم، والانفلات من إسار رؤاه وأساليبه التى تشكلت فى مناخ قيمى مغاير إلى أقصى حد، لذلك المناخ الذى يعيشه أبناء الستينيات، كما أنها كانت صرخة ضرورية لتنبيه الواقع الأدبى إلى أن ثمة رؤى جديدة تحلق بعيدا عن كل التصورات القديمة.

كتب حافظ رجب قصصه، وصرخ صرخته الشهيرة فى زمن كان يعيش فيه الكبير يحيى حقى، ذلك الأب الحانى العطوف قبل أن يكون الفنان والمبدع الكبير، الذى قدم أجيالا من الكتاب، حين كان رئيسا لتحرير مجلة “المجلة”.
يرى يحيى حقى أن رجب “كسر السرد الرتيب المألوف فى القصة القصيرة، واعتمد على الجمل القصيرة غير المترابطة، كأنها لمسات من فرشات مرتعشة متقدة الأعصاب، ليس همه أن ينقل إلينا الفهم، بل ينقل إلينا الإحساس، لماذا هذا كله؟ لأن عهد الاسترخاء قد انقضى، وانقضى عهد الاسترسال وتركيب الكلام وتعشيقه، كأنه بناء من حجر الدومينو”.

يشير يحيى حقى إلى أن رجب كان سابقا لزمانه، لذلك نصحه بعد المعركة التى خاضها مع رموز القديم بشيئين: أن يصبر على سماع كل ما يقال عنه وأن يفهمه، ثم يجمعه كله، ويلقيه تحت قدميه، ويدوسه إن كان مؤمنا بنفسه.
واختتم قائلا:”يكفيك الصدق، لقد عرفت كيف تضع قدمك على أول الطريق الجديد، ويبقى عليك أن تحرث أرضه، بكل ما لديك من موهبة، وقوة القول فى الذين يرفضون قصصك اليوم أنهم يعيشون فى زمانهم”.
المزيفون

وقف حافظ رجب فى صدارة كتاب القصة فى مرحلة الستينيات وكان فارسا من فرسان التجديد الفني، ومع ذلك أغفل النقاد اسمه وإنتاجه، ونسبوا محاولات التجديد لغيره، لأنه لم يكن من محترفى العلاقات العامة، ولم يكن ذا وظيفة مرموقة تجذب إليه الوصوليين ليكتبوا عنه.

مرارة التجاهل التى تجرعها حافظ رجب حتى الثمالة، ينقلها لنا د. سيد حامد النساج فى مقال كتبه عام 1993، صدره بقوله إن رجب “ذاق طعم الأيام ملحا مصفى، ومرارة فى الحلق، وغصة فى القلب، وعذابا متصلا من أجل لقمة العيش، ويكفى أنه عانى وحده فى سبيل ما دعا إليه، ومع ذلك لم يكتب اسمه ـ ولو ذرا للرماد العيون ـ ضمن كتاب الستينيات.

اقتنص المزيفون ادعاء الريادة، وأصاب عيون النقاد المنحازين قذى، فلم يروا إلا ثلاث ثمار مزهرة فوق شجرة القصة القصيرة والرواية الطويلة، وزيف الآخرون أدوارا وأسماء، وانتحلوا كتابا لا قيمة لهم، ولا موهبة لديهم، لا يملكون القدرة على المواجهة أو الإبداع أو الرؤية الصحيحة، وإنما أجادوا القنص بليل».

يحكى القاص والروائى إبراهيم أصلان جانبا من سيرة حافظ رجب، الذى عرفته حوارى الإسكندرية وأرصفة المحطات بائعا للب والسجائر، وأوراق اليانصيب، وطاردته شرطة البلدية عبر ملاحقات، تركت فى نفسه أثرا داميا، وعندما نشر أولى قصصه فى جريدة “المساء” تناوله مفكرو اليسار ونقاده باعتباره ظاهرة مهمة ومدهشة: بائع اللب الذى يكتب القصص، وترتب عن هذا الاهتمام النقدى أن أرسل إليه يوسف السباعى مندوبا خاصا، يستدعيه إلى القاهرة، فترك عرض أبيه بأن يعاونه فى مطعم جديد افتتحه منذ أيام.

وكما يقول أصلان:”جاء ـ رجب ـ محملا بالآمال الكبيرة إلى المدينة التى استدعته باسم أحد كبار مسئوليها، فاتحة ذراعيها لموهبته الغالية، وهى الآمال الواهية، التى أدت إلى البداية الحقيقية لمأساته”.
عينه السباعى موظفا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وسكن حجرة على سطح عمارة قديمة، لكن “المدينة التى استدعته فاتحة ذراعيها تجاهلته، وكشر الواقع عن جهامته القاسية، ولم يكن محمد حافظ رجب موهوبا كبيرا فقط، بل كان يتمتع بقدر هائل من الحساسية والطهارة الروحية النادرة، رغم أنه لم يكن يخلو من فظاظة حيال أنصاف الموهوبين والأشباه”.

يحمل أصلان ما جرى لحافظ رجب إلى القاهرة حين يقول”إذا كان بوسع أحد مثلى أن يظن بأنه كان من الناجين، فلقد حدث ذلك لأننا كنا أبناء شرعيين لهذه “القاهرة” وليس بالتبني، لم نتوقع منها شيئا، لذلك فوتنا عليها وعلى أنفسنا مشاعر الخيبة والمرارة”.
ويقول أيضا:”ما أعاننا على الاستمرار أننا كنا أقل طيبة منك وأكثر قسوة” لكن حافظ رجب يمنحنا تفسيرا آخر حين يوضح فى أحد الحوارات المنشورة معه: “قد يحاط الشخص بظروف مستبدة ومشوهة، تضطره للدخول فى صمت، وأنا بطبيعتى إذا وجدت فى بيئة مستبدة، تتزعمها قوة خفية، أجد نفسى محاطا بحصار صمت دائم”.

فى كل الأحوال تبقى كلمة يحيى حقى الساطعة: “إن محمد حافظ رجب غير من شكل ومضمون القصة القصيرة، وأنه يسبق زمانه بأكثر من ثلاثين سنة”.

اقرأ أيضًا: