فوجئت به أمامها، لم تشعر بدخوله البيت، احتضنها ثم قال: «نوميني، مرهق للغاية» لكلمته وقع جميل على أذنيها، ربما أشعرتها بموجة ود وحميمية تعلو بينهما بداية من ارتباطهما، افتقدته طيلة النهار، شعرت بوحشة الساعات التي تمر دون صوته أو أنفاسه رغم انشغالها بعملها.
موضوعات مقترحة
عاد منهكا بعد يوم طويل من الاجتماعات، وصفقات محتملة بعد توقف الشركة طويلا.
ربما ارتطمت كلماته أيضا بجدار عقلها وأيقظت هواجسها، أعليها أن تُخرج عباءة "شهرزاد" من صندوقها الذي ورثته عن جدتها وأمها، ربما عليها أن تطير به على البساط السحري لينام، تحكي له قصص الجن والإنس، العبيد والأحرار، الحكّام والرعايا؟ أتعيش للحظة التي تخاف فيها من سيافه إن أغضبته؟ أو أن تعتاده وتتعلق به ثم يبتعد ويفترقان؟ كيف ستتشكل العلاقة بينهما حيث تتكشف أشكالها يوما بعد آخر؟.
ارتبطا في ظروف غريبة، تقابلا في عمل لفترة مؤقته، شعرا بانجذاب فبدآ يتحدثان، تقدم للزواج منها، ولاضطرار أهلها للسفر والخوف عليها من العيش بمفردها عجل والداها بزواجهما، خاصة أن كليهما يخوض الارتباط للمرة الثانية، فكانت حفلة عائلية بسيطة منذ ما يقرب من أسبوع.
كيف يراها، وماذا ترتضي هي لنفسها، كأننا نحن من نبحث عن قيودنا، كانت لسنوات ترفض أي ارتباط دون تروٍ ومعرفة تامة بالطرف الآخر بعد تجربتها الأولى؟ ترانا يمكن أن نمرر ما كنا نرفضه لو شعرنا بالانجذاب لأحدهم، أنستطيب قيودنا بمرور الوقت!؟ أنعيش عواطفنا بموروثاتنا، أم بثقافتنا التي حصلناها وتحت وقع إخفاق تجاربنا السابقة؟.
طردت أفكارها المتوجسة لتكتشف أنه يتحدث إليها، يحكي لها عن يومه والانشغالات التي لم تمكّنه من مهاتفتها، أخذت رأسه بين راحتيها، ومسحت أصابعها على وجهه بحنو، راحت تفكك العلامات المتصلبة التي تعقدت بملامحه في مواجهة هذا العالم الشديد التراكب والتناقضات.
لثمت شفتاها منابت شعره، ثم مررتها على أنفه وأذنيه، همست على استحياء بشعورها ببرودة البيت دونه، ضمها إليه وابتسم، ثم أشار بسبابته إلى عقلها كأنه يقرأ ما به، قال:" كفى سيدة الأسئلة، استريحي، للحب ضرائب ندفعها صاغرين، اتركينا نعش دون أن نسأل، دون أن يتمكن الخوف من ماضينا في قتل لحظتنا الحالية، أنت لا تخافين من الماضي فقط، بل من القادم أيضا".
كانت قد عقدت معه اتفاقا ألا يتعجلا علاقتهما كزوجين ليتركا الوقت والمعاملات بينهما توطد ارتباطهما. وافق ليشعرها بالأمان، شعر وهي تودع عائلتها ثم ترتمي في صدره أنها صارت بعضه.
غمست أطراف أصابعها بكريم مرطب ووزعته على ملامحه التي تستهويها، كانت قد أدارت أسطوانة لعبد الوهاب فإذا به يصدح " كل ده كان ليه" فقفزت إلى ذهنها عبارة شبيهة، معناها أننا نخصم من حرياتنا ونحن راضون، لماذا؟.
تعلم المشقة التي يلقاها بعمله طوال اليوم لذا تجنبت الجدل، داعبت زوايا شفتيه الصامتتين بأصبعها ومضت لتعود إلى عملها الذي تؤديه أون لاين منذ أيام.
ودت لو نبهته أنها لا تريد علاقة تقليدية، لن يكون زواجهما هو النهاية، هي ليست هذا الجبل الشاهق الذي رآه بعيدا في طفولته وحلم بالوصول إليه كما حكى، كما أنها ليست الجبل الذي يليه، ولا الشواهق كلها التي أمكنه أن يجتازها بعد مغادرته قريته الجنوبية المتطرفة، ترفض أيضا أن تكون هدفا يتم الزهد فيها بعد الوصول إليها، أبدا لم تسأله عن تفاصيل قصته القديمة، وصمتت حين سألها عن بعض التفاصيل في قصتها.
ليته يدرك أنها الرحلة التي عليهما أن يقطعاها معا، هما الطريق دون انتظار لوصول، ربما عليهما أن يبحثا معا كيف لا يتضاءل الشغف لو قررا الاستمرار، تدرك ملل الإنسان سريعا مما يستحوذ عليه، تمنت لو انتبه لقصيدة "إيثاكا" حين قرأتها له ذات مرة. لم يعلق عليها فشعرت أنها لم ترقه أو لم يلتقطها.
لطالما عشقت الماوراء، هذا الكيان الذي نتطلع إليه لكننا أبدا لا نقبض عليه، ليس بوسعنا الزهد فيه لأنه لن يقع في حوزتنا قط. تمنت لو أنها ظلت تراه في الأفق البعيد، بين البحر والسماء، فوق حواف السحاب المنثور باتساع السماوات التي قطعتها عدوا، ثم عودة دون يقين.
تركته ينام بعد أن خفّضت الإضاءة كما يفضلها، علقت معطفه ثم غابت في عالمها الداخلي لدقائق، انتبهت على خزانته تنفتح على مصراعيها، يمتلئ فضاء الغرفة عن آخره أمامها، تُغرقها أشياؤه التي انسكبت وتزحف نحوها: فتلك شهاداته من أعرق الجامعات الغربية، هذه بعض ملفاته، وتلك عمائم لشيوخ بلا حصر، وقبعات أيضا، هذه طفولته وهو يرعى أغنامه، وتلك صخوره السوداء الصغيرة التي اقتطعها من الجبل وعبأها بجيوبه حين همَّ بالرحيل. لم تكن تتوقع أنها حادة وباترة على هذا النحو، وتلك زوجته الأولى، وأخريات، هذا مجلس أبيه شيخ قبيلته، صورة لهما معا حين التقيا في المرة الأولى، سي دي لمحاضراته حول دور الإعلام في تسويق أفكار الليبرالية الحديثة، صوته وهو يقطع المعاني سريعا حين يقول في أذنيها: "ما أروعك"، وتلك بعض قطع الشوكولاه التي كان ينثرها على مكتبها صباحا حين شعر أنها تروقها، هذا خيلاؤه وخطوه الواثق، وتلك بسمته اللزجة الكاشفة حينما يجبر من يحاوره أن يكف عن المزايدات.
عاودتْ النظر إليه فرأت عينيه تناديها أن تقترب، فمن أجله فاحت أنوثتها بعطور لم تعهدها، لكن الأسئلة التي تحتلها وتتساقط من أظافرها تدعوها للتجاهل، الأسئلة التي تقع من خصلات شعرها، طبقات من الخوف تهجم من كهوفهما العميقة الموروثة، فالشرقي يظل شرقيا مهما مُهرت شهاداته بأعرق الجامعات الغربية.
تمتلئ أكوابها بالاحتمالات وتفرغ، وصفحاتها كذلك، وتظل مسكونة بمخاوفها التي تقاسمها نفس المقاعد، علامات الاستفهام التي تغلق حقائبها وتأبى أن تفرغها حتى هذه اللحظة، قفص عصفورها الوحيد الذي لم تعلقه، وأمشاط شعرها العاجية التي تسألها كلما أمسكت بها: متى سيغرق ما بينكما في اللامبالاة؟.
غفت على مقعدها، ربما نامت ساعات، عندما استيقظت وجدته يروح ويجيء أمامها، أفرغ ملابسها في خزانتها، وصنف كتبها على الأرفف، شحن لها حاسوبها وهاتفها، وطرح عليها غطاءً.
نظرت نحوه طويلا وهي لا تعرف ملامح القادم، سألته ماذا يفضل أن يأكل؟ أجاب أي شيء تُعدينه، وجدته يلحق بها يرفع شعرها بأحد أمشاطها، ثم يعرض المساعدة.