من ميلينا لـ فرآنز كـآفكا
موضوعات مقترحة
حتى لو كنت جثّة هامدة في هذا العـآلم، فأنا احبّك
الحب العاصف بين كافكا وميلينا كان الوقود الذي احتفظ للحكاية بمكانتها في تاريخ الأدب ووسط حكايات العاشقين، قصة حب الأديب "كافكا" وحبيبته "ميلينا"، التي عرفناها في كتاب كافكا "رسائل إلى ميلينا"، تفتح أبواب الشعف لمعرفة خباياها عند ميلينا من جديد، بعد أن فقدت كلماتها التي ردت بها على كافكا.
"بوابة الأهرام" تنشر مقاطع من الترجمة العربية لـ"نار حية".. مذكرات "ميلينا" عشيقة كافكا (1-2)
كتاب "نَــارٌ حَيَّــة، قصة حب ميلينا يسنسكا"، للكاتب ألويس برينتس، الذي قام فيه بتحقيق مذكرات حب كافكا الكبير، كاشفا عن مشاعر شخصية استثنائية أثارت فضول العالم لعقود طويلةـ وقام بترجمته "محمد رمضان حسين"، الذي تنشر "بوابة الأهرام" مقاطع جديدة منه، يكشف العديد من الخبايا.
مترجم الكتاب "محمد رمضان حسين"
مترجم الكتاب "محمد رمضان حسين" قال لـ"بوابة الأهرام"، إنه يتابع بشغف ما يصدره الكاتب الصحفي الألماني ألويس برينتس، المتخصص في كتابة السير الذاتية، حيث صدر له العديد من الأعمال منها: "هانَّا آرنت" 1998، "هرمان هِسِّه" 2000، "فرانتس كافكا" 2005. وفي هذا الأخير تحديدًا أشار لعمله منذ الثمانينيات على تتبع سيرة "ميلينا يسنسكا" واقتفاء أثرها لجمع أكبر قدر من المعلومات عن حياتها. وعندما قرأت المنشور سابقًا عنها لم أجد ما يكفي بالألمانية فضلا عن عدم معرفة أي شيء عنها لقراء العربية سوى موضوع رسائلها المتبادلة مع كافكا فبدت كإحدى شخصيات أعماله الخيالية.
ويضيف "رمضان": وقت صدور الطبعة الأولى الألمانية من كتاب "نار حية" عام 2016 سعيت فورًا للحصول على نسخة منها، وكما توقعت تمامًا وجدت فيها أفضل وأجمل ما كتب عنها، وأعددت اقتراح لترجمتها إلى العربية ثم بدأت تقديمه لدور النشر المهتمة بهذا المجال. وللأسف رُفض الاقتراح من ثلاثة ناشرين، وبعد أن يئست من محاولاتي اتصل بي أحد الناشرين الذين لم أقدم لهم هذا الاقتراح ليسألني عن أهمية الكتاب، فحكيت له قصته وأهميته وأنه سيكون أول عمل عربي كامل عن شخصية ميلينا وحياتها ونضالها المجهول لدى كثيرين، بعد أن تعاقدنا على ترجمة الكتاب وأثناء شراء حقوق الترجمة من الناشر الألماني حصل الكاتب على جائزة إيمي والوسام العالي من الأكاديمية الألمانية لأدب الشباب 2017، عن كتاب "ميلينا يسنسكا"، وأعيد طباعة النسخة الألمانية أكثر من مرة.
وعن تفاصيل الكتاب، يقول مترجم "نار حية"، إنه يضم في نهايته قائمة مهمة جدًا بكل المصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف، فقمت بالرجوع إلى معظمها مباشرة، وكذلك أمضيت بعض الوقت لمراجعة بعض المؤلفات العربية والمترجمة عن تاريخ تلك الفترة، فرغم أن "نار حية" مكتوب بشكل بسيط ويسرد قصة حياة وحب ميلينا، لكن في خلفية أحداثه تاريخ أوروبا على مدار الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
يختتم "رمضان" حديثه قائلا: استمتعت جدا بقراءة وترجمة كل فقرة من هذا العمل، وبكيت بالفعل عند وصولي لمشهد وفاة ميلينا بعد أن صحبتها على مدار أكثر من سنة كاملة، وآمل أن يستمتع به القارئ أيضًا.
مذكرات "ميلينا" عشيقة كافكا مذكرات "ميلينا" عشيقة كافكا
"بوابة الأهرام" تنشر مقاطع جديدة من "نار حية" قبل صدور الكتاب في القاهرة وبيروت
دونت ميلينا أفكارها عن الزواج بعد خمس سنوات بالتمام. وفيها كانت حريصة وسألت السؤال الذي بدا وقتها حديثا للغاية، لماذا توجد هناك الكثير من الزيجات التعيسة؟ "لماذا ينبغي عليهم أن يكونوا سعداء؟"، اعتبرت هذا خطأ عجيبًا، أن يتوقع "اثنان من البشر"، أن يحالفهما الحظ فجأة، بمجرد أنهما أصبحا زوجان، "عندما يتزوج اثنان، ويعتقدان أنهما يفعلان هذا كي يكونا سعداء سويا، فإنهما ينتزعان السعادة، ويغفلونها بسبب احتمالية الإخفاق. الزواج من أجل السعادة أمر نفعي أيضًا، كمن يتزوج لأجل مليونين، أو سيارة، أو لقب نبيل، ولأن الحظ قليلا ما يمنح أشياء مثل؛ المليونين، أو السيارة، أو اللقب النبيل، فلكي تتم مواجهة العالم، ينبغي أن تكون الحسابات والأرقام منطقية، لا ينبغي أن يُقدم اثنان على الزواج إلا لسبب وجيه، أن يكون هذا هو خيارهما الوحيد للحياة. [...] فمن غير الممكن أن يتعرف كل منهما على نفسه والطرف الآخر فقط قبيل العرس. فحتى إن كانا مدركين لأفعالهما، وشغفهما، وقناعتهما، وآرائهما، ومعتقداتهما، فهما لا يزالان يجهلان أشكال جواربهما، ومظهر أعينهما الناعسة، وطريقة كل مهما في الغرغرة بعد تنظيف الأسنان صباحًا، وسلوكهما عند منح النادل إكرامية، هذه البواطن التي لا يمكن للمرء أن يخدع بها أحد.".
كانت ميلينا تنجذب إلى أشخاص مثل باني كوهلر. تتأمل خلال سيرها ببائعة الخضراوات، وبائع الحليب، والحوذي، ومراقب التذاكر في الترام. قديمًا كانت تتجنب مد نظرها، لأنها لم تكن تستطيع احتمال كل هذا البؤس والخزي. اختلفت الآن نظرتها لذلك الشقاء، أو بالأحرى، صارت تجلّه وتكرمه، المتسول الأعمى، الذي يمتلك قيثارةً، وجرسًا صغيرًا، وبوقًا؛ يؤلف بهم موسيقى صاخبة، ليلفت نحوه انتباه المارة غير المكترثين، بائع الجرائد في زيه القديم، الذي يجر ساقيه من طاولة إلى أخرى في المقاهي، ماسح الأحذية ذي الساق الخشبية والفُرَش الكثيرة، والزجاجات، والدهانات. كانت وجوههم جميعًا تعلن بوضوح، أنه "مازال يوجد أشخاص، لا تضيرهم الحياة.".
ما الذي لم يخرج عن الإطار، وما فوتته ميلينا، أصبح واضح فجأة، عندما طرحت سؤالا بعد أسابيع قليلة، خاف منه كافكا في البداية وأصابه في النقطة الأكثر حساسية لديه: "هل تأت إلى فيينا؟".
هذا السؤال باح بسر، وهو أن كتابة الرسائل لدي ميلينا وكافكا كانت مختلفة تمامًا. فالرسائل كانت بالنسبة إليه مخبأ، ظل محميا فيه من الأذى وخيبة الأمل للقاء الحقيقي. استطاع أن يتخيل بشكل لافت، كيف أن ميلينا كانت معه في ميرانو، واستطاع أن يؤكد بشكل مصدق، كيف أنه شعر بتعلقه بها، لكن وجهه ظل على الرغم من ذلك، كما وجب عليه أن يقر، وجها من ورق، والقبلات ظلت فقط في الرسائل مجرد "قبلات مكتوبة"، لم تصل إلى هدفها، والقرب المتكل عليه كان مجرد وهم في نهاية المطاف. على النقيض كانت الرسائل إلى ميلينا دائمًا مجرد مرحلة تمهيدية للحياة. "لا نتوقع من الرسائل أيَّ مهارات"، كتبت في مقالة لها، "نتوقع من الرسائل فقط الإنسانية.". كانت معجزة لها، إمكانية وصول شخص إلى آخر، والتأثير فيه بواسطة كلمات مكتوبة. ولكن ليتها وافقت على الرأي، بأن الرسائل يمكنها أن تكون بديلا عن الحياة المعاشة. ووفقا لذلك أجابت بشكل حازم أيضًا، عندما لاحظت، أن كافكا يفضل أن تستمر علاقته بها في شكل رسائل حب. هكذا كتبت إليه؛ "الحياة لساعتين، أجدى من كتابة صفحتين.". عندئذ أجاب كافكا أيضًا بصدق، إن هذا حقيقي بالفعل؛ "الكتابة أفقر، لكنها أوضح.".
بعد ثلاثة أيام من وفاة كافكا نشرت جريدة نارودني ليستي نعيًا له كتبته ميلينا يسنسكا. جاء فيه: "توفى أمس الأول في مصحة كيرلينج الموجودة على مقربة من كلوسترنويبورج بالقرب من فيينا دكتور فرانتس كافكا، كاتب ألماني، عاش في براج. لم يعرفه هنا سوى قليلون، لأنه كان منعزلًا، واشتهر عنه خوفه من الحياة، كان مصابًا بداء الدرن لسنوات طويلة، وبالرغم من أنه كان يعالج من مرضه، إلا أنه عمل على تنمية مداركه وأفكاره. [...] وقد منحه المرض بالفعل رقة مذهلة ودقة مخيفة لا هوادة فيها. بيد أنه كإنسان؛ قد ألقى بكل مخاوفه الذهنية من الحياة على عاتق مرضه. كان خجولًا، مرتجفًا، وديعًا، وطيبًا، لكنه كَتَبَ كُتبًا قاسية ومؤلمة. [...] كان حصيفًا للغاية، للتعايش مع الضعف النبيل، ومجابهة البشر السعداء، الذين يتجنبون المعارك خوفًا من سوء الفهم، وتجنبًا للقسوة والخداع الفكري، رغم أنهم يعرفون سلفا، بعجزهم، وتعرضهم للتشهير من الطرف المنتصر. [...] لقد كان إنسانًا وفنانًا ذي ضمير حيِّ ومرهف للغاية، لدرجة أنه كان يشعر بأمور، لا يتأثر بها آخرون بشكل كبير، بل يتعايشون معها في سلام.".
مذكرات "ميلينا" عشيقة كافكا مذكرات "ميلينا" عشيقة كافكا
خاتمة: "مبدأ ميلينا"
بعد حوالي عام من انتهاء الحرب، تلقت يانا رسالة من مارجريته بوبر أخبرتها فيها عن مصير ميلينا. بعد ذلك بوقت قصير، حضرت مارجريته بوبر بنفسها إلى براج لزيارة يانا وجلبت معها هدية غريبة؛ أحد أسنان ميلينا. كان هذا كل ما تبقى منها. لم تكن يانا متأكدة مما يجب عليها فعله مع هذا "الأثر" المُروِّع، وكانت سعيدة عندما فقدت السن يومًا ولم تجده مرة أخرى.
بمهنة كعازفة بيانو لن تُصبح شيئًا. التحقت يانا بالمدرسة الثانوية ودرست الرسم وعادت مرة أخرى للإقامة مع جدها. لم يتعاف يان يسنسكي من أثر الصدمة التي تركها خبر وفاة ابنته. في البداية؛ أراد الانتحار، لكن تمَّ منعه. فواصل حياته بقلب مُنكسر. لم يكن يدعو حفيدته يانا سوى باسم "ميليكا"، وهو لقب ميلينا. توفي يان يسنسكي بعد ثلاث سنوات من وفاة ابنته، في عام 1947، عن عمر يناهز السابعة والسبعين عامًا. لقد كان الموت رحيمًا به، فقد نجا يان يسنسكي من تجربة فقد وطنه الحبيب استقلاله مرة أخرى. في عام 1948، وصل الشيوعيون إلى السلطة وقاموا بتشكيل حكومة خضعت بالكامل لسياسات ستالين.
تحققت مخاوف ميلينا. العديد من أصدقائها، الذين تعرضوا للاضطهاد على يد النازيين، تحتم عليهم الآن الفرار من الشيوعيين. لم ينجُ البعض، فسُجنوا أو قُتلوا. فَرَّ يارومير كريتسار، زوج ميلينا الثاني ووالد يانا، إلى باريس مع زوجته ريفا في الوقت المناسب. عاش لفترة قصيرة في لندن، حيث حصل على وظيفة أستاذ في العمارة قبل وفاته بأزمة قلبية في أكتوبر 1949.
وقع مصير مشابه لإرنست بولاك، الذي ساعدته ميلينا بالفعل على الهروب إلى إنجلترا في عام 1938. لم يستقر أبدًا في بلد أجنبي، وعمل أحيانًا كمحاضر مستقل. بعد أن تم تدمير شقته في لندن بسبب قنبلة أثناء الحرب، ذهب إلى اسكتلندا، وأكسفورد، حيث عاد إلى الدراسات الفلسفية. وهناك التقى أيضًا بالطيارة السابقة دوروثي رينولدز، التي تزوجها عام 1944. توفي بولاك، الذي أصيب بأزمة قلبية مثل كريتسار، في الحادي والعشرين من سبتمبر 1947 ودُفن في لندن.
قبل وقت قصير من وفاته، زار بولاك ويلي هاس، الذي طلب منه المشورة بشأن كيفية التعامل مع رسائل كافكا إلى ميلينا. كانت الرسائل محفوظة في براج خلال سنوات الحرب ثم عادت إلى هاس. أيَّد بولاك هاس في فكرة عدم إعطاء المجموعة لماكس برود كما طلب، ولكن نشرها بنفسه. فعل هاس ذلك في عام 1952، لكنه استبعد العديد من المقاطع التي اعتبرها "فانتازيَّة وغريبة".
على عكس بولاك، عاد إيفين كلينجر إلى تشيكوسلوفاكيا. ولأنه كان يُشتبه في أنه "تروتسكي" فقد أمضى عدة سنوات في السجن هناك، لكن أصبح بعد ذلك على ما يرام في الحكومة الجديدة. أصبح مسئولًا بوزارة الثقافة. كانت علاقته السابقة بميلينا عائقًا أمامه. فذكر أن ميلينا لم تكن أكثر من "خليلته"، وأنه كان يعيش معها فقط.
كل شيء كان مختلفًا من حولها، فوجب تكيف يانا على طرق عيش مختلفة. ورثت ورثت عن جدها يان يسنسكي تركة قدرها مليون كرونه، لكن استمتعت بتبديدها في وقت قصير على الحفلات وأسلوب حياتها المفرط. بعد أن استولى الشيوعيون على السلطة، سارت حياتها كشخص مُهمش. بدون عمل، عاشت مُشردة في فقر مدقع، وعملت مساعدة مطبخ، وقاطعة تذاكر ترام، وعاملة نظافة. انضمت إلى مجال الأعمال الإبداعية البديلة في براج، وأطلقت على نفسها مؤقتًا اسم "سارة سيلبرشتاين"، احتجاجًا على معاداة الشيوعيين للسامية. تزوجت أربع مرات، وأنجبت خمسة أطفال، كان عليها تركهم في الملاجئ. وعندما استعادت أطفالها إليها، كانت غارقة في اليأس. وبسبب إهمال واجبها في الرعاية، حُرمت من الحضانة وسُجنت لمدة عام. لم تكن محاولتها لطرح اسمها ككاتبة ناجحة تمامًا مثل والدتها. فكتبت أكثر من مجموعة قصصية ورواية صغيرة لكن لم يخرج شيء منها للنور. لاحقًا، عملت في الفخار والخزف، وقامت بتوصيل منتجاتها. كانت يانا تشِرنا، التي أطلقت على نفسها اسم زوجها الثاني، ميلوس تشِرني، تبلغ من العمر اثنين وخمسين عامًا فقط، عندما توفيت نتيجة لحادث سيارة في الخامس من يناير عام 1981.
لم تستفد يانا أيَّ ميزة من كونها ابنة ميلينا يسنسكا. فقط في السنوات الأولى بعد الحرب، كان اسم ميلينا لا يزال يتمتع بسمعة طيبة. بقيت ذكراها حيَّة، وأشادت زميلاتها المعتقلات السابقات في رافنسبروك بسلوكها الشجاع الواضح في معسكر الاعتقال. لكن تغير ذلك عندما وصل الشيوعيون إلى السلطة في ربيع عام 1948. فصارت ميلينا توصم من وقتها كخائنة. واتُهمت أنها بسبب آرائها قد أضعفت مقاومة الشيوعيات في معسكر الاعتقال. ثم هدأت الضجة المثارة حولها، وفي النهاية نُسيَّ أمرها برمته. لم يُغيِّر من هذا أيَّ شيء؛ سوى ظهور رسائل كافكا إلى ميلينا في ألمانيا عام 1952. بينما أصبح كافكا كاتبًا مشهورًا عالميًا، كان لا يزال في نطاق السلطة الشيوعية يُعد مؤلفًا مُنحلًا. لم يُشَر إلى الحدث الأدبي، نشر رسائله إلى ميلينا، في تشيكوسلوفاكيا، أو براج، مسقط رأس كافكا وميلينا، ولم يتم بيع نسخة واحدة من هذا الكتاب هناك. فرانتس كافكا وميلينا يسنسكا، اللذان لم يتزوجا خلال فترة حياتهما، اجتمعا تحت نبذ الحزب الشيوعي بوصفهما "الزوجين البرجوازيين المنحلَّين".
ظل الوضع هكذا حتى عام 1966، عندما أصبح الوضع السياسي في تشيكوسلوفاكيا أكثر ليبرالية، أعاد الباحث الأدبي إدوارد جولدشتوكر، اسم ميلينا إلى الساحة مرة أخرى. أراد أن يحررها من وصمة الخيانة، وفي نفس الوقت يوقف النظر إليها كمجرد ملهمة كافكا، "شهيدة المحبة".
كانت محاولة فاشلة في البداية. فرسائل كافكا أصبحت نعمة ونقمة على ميلينا. صار اسمها مشهورًا عالميًا، لكن بقيت شخصيتها مقيدة بأغلال مع كافكا، وبالتالي تم اعتبارها شخصية مصطنعة في رواية مراسلات. ظلَّ خفيًّا عن معظم قراء رسائل إلى ميلينا حقيقة أن هناك حياة حقيقية وراء اسم ميلينا، حيث توجد "امرأة مذهلة، وصِحافِيَّة أكثر إثارة للدهشة". كما هو الحال مع العديد من النساء اللائي لعبن دورًا في حياة رجال مشهورين وكادوا يختفون في ظلِّهم، كانت ميلينا مُنسحقة تقريبًا بسبب شهرة كافكا. أوائل ثمانينيات القرن الماضي بدأت في جمع وثائق عن حياة ميلينا، عندما كان لا يزال يعيش شهود العيان، الذين تمت مقابلتهم، وتُرجِمَت مقالاتهم ورسائلهم إلى لغات أخرى، وبالتدريج ظهرت أمامي شخصيتها كلها. قامت المخرجة الفرنسيَّة فيرا بِلمونت بصنع فيلم مثير للجدل حول ميلينا يسنسكا. كذلك ساهمت الرسائل التي عُثر عليها قبل بضع سنوات مصادفةً بأرشيف براج في فهم شخصيتها. تلك الرسائل التي كتبتها ميلينا من معسكر اعتقال رافنسبروك إلى والدها وإلى زوجها الثاني يارومير كريتسار.
على الرغم من أن قصة حب ميلينا مع فرانتس كافكا لا تُمثل سوى حلقة قصيرة في حياتها، إلا أن هذا اللقاء كان ذا أهمية بالغة بالنسبة لها ولكافكا أيضًا. فعلى إثره عبرت مسارها نحو شخصية مختلفة ومستقلة للغاية. في سعادة وتعاسة هذا الحب المستحيل، كُشِفَ عن حدود وإمكانيات شكلين أساسيين للحياة، والتي كانت في النهاية غير متوافقة. كتب مُدوِّن سيرة كافكا راينر شتاخ: "بدأ [كافكا] بتصميم شكل حياته، والتي يُمكن لميلينا أن تنضم لها، وهو ما يمكن تصوره؛ أن تتبعه في عالمه، ولكن لا، لم يحدث هذا. لقد أدركت ذلك وبررته أيضًا.".
كانت ميلينا تُمثل لكافكا إلزامًا كبيرًا، ولكن لتحقيق ذلك كان يفتقر القوة للتغلب على خوفه في اللحظات الحاسمة. هذا الخوف في النهاية هو ما دفعه للفرار من ميلينا والتراجع نحو "جحره" الآمن. لقد احتاج إلى تلك المسافة التي سمحت له بقدر كبير من الوضوح واليقظة الأخلاقية، لكنها عزلته عن الناس. هرب من تلك الحياة التي أوشكت ميلينا على إيقاعه فيها. عرفت ميلينا خوف كافكا قبل أن تعرفه، لكن هذا الخوف لم يمنعها من تعريض نفسها لحياته. كان من المستحيل عليها إتباع كافكا في عالمه، لأنها كانت قريبة جدًا من أرض الواقع، ومختلطة بعالم البشر، والكثير من النساء، والعشاق، والضحايا. عاشت بحماس وإسراف، لكن كانت دائمًا على استعداد لتحمل تبعات الجوع في حياتها. "أنا مَن يدفع الثمن"، هكذا وصفت المبدأ الذي أمضت عليه حياتها. وفقًا لهذا المبدأ، المرجعية الذاتية، والمليئة بالفضائح، أصبحت امرأة على دراية بمسؤوليتها الاجتماعية، وكانت مستعدة لوضعها في معسكر اعتقال. ربما بجانب "عالم كافكا" ينبغي دائمًا اعتبار "مبدأ ميلينا". فبجانب حياة مليئة بالخوف لكن تظل مع ذلك خاضعة ليقظة أخلاقية، وتوجس من السقوط في الحياة، والعمل، والعطاء، والمحبة.
في عام 1995، مُنحت ميلينا يسنسكا ويواخيم فون تسدفيتس لقب "الصالحين بين الأمم". تُكرِّم هذه الجائزة الأشخاص غير اليهود، الذين خاطروا بحياتهم في العهد النازي لإنقاذ اليهود. تم نقش اسم ميلينا وفون تسدفيتس على قائمة في نصب ياد فاشيم التذكاري للهولوكوست بالقدس. كان تسدفيتس لا يزال قادراً على حضور الاحتفال كرجل عجوز. لكنه شعر "كأنه ديناصور"، ينتقل إلى زمن كان فيه لا يزال طالبًا ساذجً. قال: "كنت صغيرًا وأحمقًا في ذلك الوقت، لكن على الأقل أدركت حينها أن ميلينا كانت شخصًا عظيمًا للغاية.".
بعد نهاية الحرب، تلقى تسدفيتس رسائل شكر من أشخاص أنقذهم مع ميلينا من النازيين. طلب منه الصحفي فالتر تشوبيك، وهو أيضًا ممن أنقذهم، أن يبعث برسالة إلى يانا ابنة ميلينا: "أخبرها بما لا يمكن وصفه بكلمات، أن ميلينا يسنسكا ستظل في ذاكرتي كأرحم وأعظم شخص التقيت به في أي وقت مضى. نُكران ذاتها، وشجاعتها، وعزمها، وجرأتها، كم كان عليها أن تبذل لتكون شخصًا غير عادي! لا يوجد تعبير يناسب لذلك.".
مذكرات "ميلينا" عشيقة كافكا مؤلف الكتاب