ربما يغيب عن ذهن كثيرين من المشتغلين بالفكر والثقافة مسألة مهمة فيما يخص التجديد الديني وهي أن الخطاب الديني الذي ينادي كثيرون بتجديده إنما يمثل عرضا أو جانبا مظهريا ثانويا يجب أن يسبق بتجديد الفكر الديني. فالخطاب الديني في الأساس إنما هو نتيجة أو مظهر لما هو في العمق أو البنية العميقة الأساسية التي تسود في المجتمع أو لدى المنتجين للفكر الديني والمسئولين عنه.
موضوعات مقترحة
فالخطاب الديني صادر عن الفكر الديني وأي نية في تجديد الخطاب الديني دون الاتجاه نحو تجديد الفكر الديني لن تكون ذات جدوى، لعل هذا هو الأساس المهم الذي يشكل القيمة الفكرية والأدبية الكبيرة لكتاب تجديد الفكر الديني للمفكر المصري نبيل عبد الفتاح الصادر مؤخرا عن مؤسسة بتانة للنشر، فالكتاب يعالج مسألة تجديد الفكر الديني وامتدادها في المجتمع المصري تاريخيا بشكل رأسي منذ الحملة الفرنسية وحتى اللحظة الراهنة، بما يعني أنه استغرق كافة محاولات التجديد في الفكر الديني ورصدها وقاربها على نحو بحثي متأمل ومتسائل في كل هذه المراحل التاريخية وهي مصر في العصر الحديث.
المهم كذلك في هذا الكتاب أنه يمثل الشكل البيني في الكتابة والبحث فيجمع بين الفكر والتأريخ والتحليل الاجتماعي والسياسي والثقافي ولا يخضع للحدود النوعية الضيقة التي قد لا تكون مطلوبة في مثل هذه القضايا ذات التشعب والتفرع الكبير. ومن هنا تتجلى مقدرة الكاتب على مقاربة الفكر الديني بما يتماس به من مفاهيم وبنى اجتماعية وثقافية وسياسية متنوعة وما يلعب الآخر من أدوار في تشكيلها أو يسهم في تكوينه بشكل مباشر أو غير مباشر، فمسألة التجديد في الفكر الديني ترتبط بالآخر وبعلاقة المسلمين بالغرب وتاريخنا مع الاستعمار كما أنها ترتبط بالمراحل السياسية المختلفة وما حدث من تحولات في مفاهيم الدولة المدنية ومنجزها والأيديولوجيا السياسية السائدة في كل مرحلة، كما يرتبط التجديد بالأحوال الدستورية والقانونية للدولة المصرية نظرا وتطبيقا واستيعابا جماهيريا، وهكذا نجد أن الكتاب يقارب التجديد في الفكر الديني في المراحل المفصلية سياسيا مثل الدولة الحديثة في عهد محمد علي وحركة التحديث التي كانت في مدة حكم الخديوي إسماعيل ثم في أوائل القرن العشرين وفي ثورة 19 وأثر البعثات إلى أوربا على التجديد الديني وعلاقة كل هذا بالأزهر وببعض الأعلام البارزين مثل الإمام محمد عبده أو رفاعة الطهطاوي وبعض شيوخ الأزهر ورجاله وبخاصة الأزهري المجدد الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي يتتبع الكتاب سيرته والعوامل التي صاغت ذهنيته ومسيرته في التعليم والتجديد وحربه مع الأزهر ورجاله، وغيرهم من العلماء مثل الشيخين على ومصطفى عبد الرازق وكذلك الدكتور طه حسين ومدرسة دار العلوم العليا التي كانت في موضع المقابلة مع الأزهر، ثم كذلك التجديد في المراحل التاريخية اللاحقة في ثورة يوليو 52 وسياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورجال الثورة وعلاقتهم في هذا السياق بجماعة الإخوان المسلمين ثم المرحلتين التاليتين في مدة حكم الرئيسين السادات ومبارك وكذلك علاقتهما بالإخوان وبقية التنظيمات والجماعات الإسلامية الشبيهة الأخرى، فيكون هناك دائما الخط السياسي الممتد الذي يمكن قياس التجديد في الفكر الديني عليه أو العكس، بحيث تتجلى مسألة التجديد في الفكر الديني في ظل علاقتها بالمكون السياسي والدولة المدنية والتنظيمات والمسائل الخاصة بالحكم والصراع على السلطة السياسية.
ومن هنا يمكن القول بأن الكتاب يتطرق لكافة عناصر البنية الاجتماعية الأخرى التي تتماس مع تجديد الفكر الديني، والحقيقة أن الكتاب يبحث في الفكر الديني بشكل عام بين الجمود والتجديد والعوامل أو الظواهر التي طرأت على المجتمع المصري وكانت ذات دور في مسألة التجديد أو الجمود مثل علاقة مصر في مرحلة متأخرة من تاريخها بالدول العربية ذات النفوذ الاقتصادي المعتمد على العوائد النفطية وظاهرة خروج المصريين إلي هذه الدول للعمل بها وبخاصة أساتذة الجامعات الذين بقي كثير منهم مددا طويلة في هذه الدول وأثر هذا الوضع الاجتماعي والاقتصادي بشكل مباشر على التعليم والبحث العلمي في مصر، ومن ثم على التأثير على مسألة التجديد في الفكر الديني.
وقارب الكتاب كذلك مسألة تطوير التعليم وعلاقتها بالتجديد، وكذلك أشكال التعليم وأنماطه وتنوعه بين تعليم مدني عام وتعليم ديني في الأزهر وما حدث من موجة طائفية ضد الطلاب المسيحيين في الجامعات ابتداء من الثمانينيات وامتداد الأمر إلى اللحظة الراهنة، ومن هنا يمكن القول كذلك بأن مسألة الطائفية في المجتمع المصري يتم رصدها في هذا الكتاب ومقاربتها على نحو يتسم بقدر كبير من الشجاعة والمصارحة ويرصد الكتاب العديد من الحوادث الطائفية ويقدم قراءات دقيقة فيها تكشف آثارها والأهداف التي يستهدف المنفذون تحقيقها، وهذه الحوادث تبدو مع الأسف الشديد ذات امتداد تاريخي في المجتمع المصري وقديمة وتبدو بحسب رؤية مؤلف الكتاب في موضع مفارقة مع ما كان من تلاحم بين المصريين في ثورة 19 التي تمثل نقطة مركزية في تكوين مفهوم الدولة المدنية وتذويب الفوارق بين فئات الشعب وتجاوز هذه الحسابات الأيديولوجية الضيقة التي من شأنها الارتداد إلى عصور ما قبل الدولة. فتبدو مسألة الطائفية هنا ذات طبيعة جدلية شائكة فهي في جانب منها أثر من آثار الجمود ودليل عليه وفي الوقت نفسه تصبح واحدة من عوامل الابتعاد عن تجديد الفكر الديني لأن الإنسان في هذا السياق الطائفي يصبح خاضعا لفكرة الفعل ورد الفعل، وتبدو المجتمعات في ظل هيمنة الطائفية تعيش حالا من الكراهية المتبادلة التي تغلق كافة منافذ تجديد الفكر الديني. والحقيقة أن المفكر نبيل عبد الفتاح مؤلف الكتاب يبدو على إحاطة كبيرة بالفكر الديني الإسلامي والمسيحي ويقارب الفقه الإسلامي ومنطق الإسلاميين في التشريع وتفسير النصوص الدينية، وتتجلى في الكتاب المعرفة الإسلامية الوافية التي تجعل الصورة واضحة عن الذهنية الإسلامية المشرعة أو صاحبة الإفتاء والتشريع.
يتحدث الكتاب كذلك ويتناول دور المساجد والكنسية أو دور العبادة بشكل عام وعلاقتها بمسألة التجديد. وكذلك يبحث الكتاب الحالة القبلية الكامنة في قطاع عريض من الذهنية المصرية بما تمثل القبلية من تجاوز لدولة القانون متمثلة فيما يعرف بالمجالس العرفية التي تمثل خطرا أو هدما صريحا لمفهوم الدولة المدنية بكل مفاهيمها ومعطياتها ومنجزها.
كما يتناول مفهوم المواطنة والصورة المتحققة في العقل المصري من هذا المفهوم وقدر اكتماله أو نقصانه والأسباب التي تؤدي إلى هذا، بما يعني أننا دائما ما نكون أمام وصف وكشف للأمراض أو مواضع الداء الاجتماعي والفكري والأسباب التي أنتجتها. فلا يتم طرح الظاهرة بشكل ناقص أو لمجرد الإشارة وإنما تأتي الظاهرة محاطة بكم هائل من الأسئلة والإجابات والأفكار والاحتمالات والقدرة على الربط بين ظاهرة وأخرى بما يكشف عن طبيعة يمكن وصفها بالدائرية أو بالدائرة المغلقة في بنية النسيج الاجتماعي الذي تصبح فيه كافة الأمراض والظواهر الاجتماعية سببا ونتيجة في الوقت نفسه.
فمشاكل التعليم على سبيل التمثيل هي ناتج الجمود في الفكر الديني والعكس، وكذلك مسائل تخص الحفظ والتلقين والعودة إلى عصور الماضي بشكل من الاجترار البعيد عن الإبداع، وكذلك العلاقة بالآخر التي هي نفسها عبر توترها وما يسودها من القلق نتيجة الاحتلال والصراع تصبح سببا في القطيعة مع منجز الحضارة الغربية ومن ثم الابتعاد عن التجديد في الفكر الديني. وهكذا في كافة القضايا والظواهر التي يتطرق الكتاب إليها ويتناولها بالدرس.
والحقيقة كذلك أن الكتاب يقدم قراءات وافية في عدد كبير من الحوادث الإرهابية ويتعامل مع هذه الحوادث بوصفها رسالة موجهة من أنصار السلفية والمؤمنين بها أو من تيار الجمود الديني ويتم تحليلها على المستوى الاجتماعي والمستوى الأمني وفي إطار من سياقها العام أو الأجواء السياسية الراهنة أو المتزامنة لهذه الحوادث الإرهابية، وتقريبا يقرأ الكتاب عددا كبيرا من هذه الحوادث بشكل مفرد وكذلك بشكل جمعي، ومنها القديم مثل واقعة الخانكة الشهيرة أو الكشح أو أتوبيس المنيا والحوادث القريبة جدا من الناحية الزمنية.
ينشغل الكتاب كذلك بالفكر القانوني والتشريعي ويصبح عبر هذا التأصيل القانوني مهما بالنسبة لشرائح عديدة ولا يبقى مقصورا على قارئ بعينه، بل ربما يتوجه إلى مثقف بيني وعام، فهو مفيد وثري بالنسبة للمنشغلين بهذه البنية الاجتماعية الجامدة والأسئلة العامة التي تدور حول مستقبلنا السياسي أو الاجتماعي وقضايانا المهمة وأسئلة مصيرنا في التحول السياسي أو العلاقة بالآخر ويصبح كذلك مفيدا من الناحية التأريخية ويذكّر بوقائع بعينها فيكون مهما بالنسبة للمنشغلين بالتأريخ الاجتماعي أو البحوث الاجتماعية أو فن الرواية والقصة اللذين يرصدان التحولات الاجتماعية ومشاكل الإنسان وتناقضاته، وكذلك يصبح الكتاب مفيدا للمهتمين بالصراع السياسي الداخلي أو الخارجي وعلاقات الجوار مع دول المنطقة أو المهتمين بالتعليم وقضايا التربية وتطويرهما. ويصبح في الكتاب جرعة فلسفية أو فكرية بارزة ويتسم الكتاب على هذا النحو بقدرته على إثارة فكر القارئ وتحريكه نحو عدد من الأسئلة والقضايا والانشغال بها ليشكل نوعا من الهم الخاص الذي يلازم كافة الذهنيات النخبوية أو الطامحة إلى المثالية والباحثة عن تصور أفضل لمجتمعاتنا. ويترك الكتاب للقارئ مساحة لأن يكون شريكا في تخيل الحلول أو الأزمات الحاصلة عن الميل إلى خيار التجديد أو العكس من الابتعاد عنه ومعاداة كثير من الفئات والطوائف لهذا التجديد وعدم الرغبة تماما فيه. كما ينشغل الكتاب بمسألة المصطلح في ذاتها والحقيقة أن هذا كان في بدايته ومسألة ضبط المصطلح في منتهى الأهمية لأن ضبط الفكر في الأساس إنما يكون بضبط لغة الاتصال أو لغة الفكر، ولا فكر منضبط بغير ضبط للغة وللمصطلح.
والحقيقة أن الكتاب يحفز على التساؤل عن كون غياب ضبط المصطلح هل هو أثر أم نتيجة، فهل لأجل خلافنا الفكري وخلافنا في التوجهات وقدر ما يعيشه المجتمع من الجمود لم يحدث المأمول والطبيعي من ضبط المصطلح، أم أن عدم ضبط المصطلح في ذاته سبب من أسباب غياب التجديد الحقيقي في الفكر الديني، وأن عدم ضبط المصطلح أحد العوامل المهمة وراء تخبطنا في تجديد الفكر الديني.
الكتاب كذلك يجمع بين التنظير والتطبيق والتأمل والتساؤل ويجعل من قارئه شريكا له والحقيقة أنه يصبح مفيدا لشرائح عديدة من القراء ومكتوب بلغة سهلة ومتدفقة برغم انضباطها ودقتها البحثية والعلمية، لكنها في الوقت نفسه لغة بعيدة عن اللغة الأكاديمية الجافة، ليكون الكتاب بقدر من الذكاء قد حقق معادلة صعبة من الناحية الشكلية لخطابه وهي الموازنة بين لغة الصحافة بتدفقها وسلاستها ولغة البحث والتأمل الفلسفي والدرس الأكاديمي. ويحتاج إلى مزيد من الاهتمام والدرس والمقاربات ويستحق الإشادة الكبيرة على ما فيه من جهد بحثي ضخم وعلى قدر ما به من الشجاعة الفكرية وطابع المواجهة والمصارحة.