كره نيتشه التصوير طوال حياته، وبدا هاربًا ومريبًا في كل صورة استطاعت الكاميرا أن تلتقطها له، وتتجاوز الكاتبة "سو بريدو" ملامح وجهه إلى رصد هيئته ككل، التي تصفها - مندهشة- قائلة، إن :"ملابسه تبدو - دائمًا- كما لو كانت مستعارة، فالأكواع والركبة ليسوا في أماكنهم الصحيحة والسترات كبيرة وبعيدة عن أزرارها".
موضوعات مقترحة
لكن نيتشه الذي صورته بريدو، في كتابها "أنا ديناميت"، على أنه "الرجل المكسو بالثياب الخاطئة"، لم تكن الثياب أكبر مشكلاته، بل المزاعم سيئة السمعة التي ساقها للنازيين والقوميين، برعاية أخته إليزابيث المخلصة لهتلر.
ليس ثمة نقص فيما ألف سابقًا حول نيتشه أو أعماله ولا نقص كذلك في ترجماتها، لكن ذلك الرجل الذي قضي قرابة الـ16 عامًا فقط، استغرقت أخته - ربما- ضعف هذ المدة لتشويهها لصالح أغراضها النازية.
خمسون عامًا من الدراسات العلمية فعلت الكثير لإعادة سمعة نيتشه، وكشفت مدى تدخل إليزابيث أخته التي أظهرت اعتناءها به في سنواته الأخيرة، عندما كانت الشهرة قد عرفت الطريق إليه، لكن الجنون كان قد ذهب به بعيدًا.
وبموافقة ضمنية من "هيدجر" كانت إليزابيث تجمع القصاصات غير المجمعة لنيتشه وتعيد ترتيبها بطريقة سامة لتخدم لسان النظام النازي، فأفكاره عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة، تم تجريدها وأصبحت أفكارًا سلطوية بشكل فظ، فالقواعد الصعبة التي فرضها علي الأفراد- أن يكونوا شجعانًا ويبحثوا عن الأعداء ويستمتعوا بالحروب- طُبِقت بشكل عنيف وحرفي واعتمدتها دول بشكل غريب وغير معتاد، فضلًا عن أن أكثر ما كرهه نيتشه أكثر من الحروب بين الدول والتي كانت شكلًا من أشكال الجنون بالنسبة له هي فكرة الدولة/الأمة في حد ذاتها، فقد تخلي عن جنسيته البروسية (بروسيا هي مملكة ألمانية كانت تضم أجزاء من ألمانيا وبولندا وروسيا ولتوانيا والدنمارك والسويد وبلجيكا) في بداية مسيرته، وظل فخورًا بعدم انتمائه لجنسية محددة، وربما ذلك ما يبرر رواج أعماله بشكل أكبر بعد وفاته، لأنها استخدمت بشكل منتظم لتبرير شرور الإبادة الجماعية.
وبالرغم من تأثير نيتشه، إلا أن "سو بريدو" تصف حياته في كتابها -الذي وصفته النيويورك تايمز بأنه سرد نموذجي لحياته- بالـ"حياة الوحيدة والقصيرة، المليئة بالمرض والمعاناة"، وتقول إنه لم يترك سوى عدد من الملاحظات المكتوبة لكاتب السيرة الذاتية حول صداقته المكثفة مع وانجر ولو سالوم الفتاة المثقفة في ذلك الوقت، كذلك موس وريلكا وفرويد، وقد توفي والد نيتشه في وقت مبكر بعد المعاناة لسنوات من الصداع المنهك والتوتر الدوري، ومن المحتمل أن يكون نوع من المرض أو الاضطراب العصبي قد أصاب الابن كذلك، فقد كان نيتشه منذ طفولته عرضة لصداع شديد وآلام في العين لدرجة جعلت طبيب المدرسة يتوقع له العمي التام، كانت العلاجات مذلة ومؤلمة لأقصي درجة، لذا أمضى الكثير من حياته (العاقلة) متجولاً بين المنتجعات الصحية في جبال الألب، باحثًا عن عقاقير شافية، وكان يحمل معه 220 رطلًا من الكتب، وتصف بريدو ببراعة كيف "حوّل مأساته إلى ميزة" أسلوبه المشهور - أقواله المأثورة اللاذعة- أصبحت طريقة لتكثيف أفكاره خلال الأوقات البسيطة التي تتخلل هجمات الصداع العاجز وأوجاع العين "إنه طموحي أن أقول في 10 جمل ما يقوله الجميع في كتاب كامل، أو ما لا يقوله الآخرون في كتاب كامل" هكذا قال نيتشه في أحد كتبه.
في هذه السيرة الذاتية يخرج نيتشه من ضبابية الشائعات والغشاوة التي أحاطت به، وتُستدعى صورته مرة أخرى بوضوح مع أخلاقه الجميلة وشاربه المضحك وعدسات نظارته الزرقاء التي وضعها لتحمي عينيه الرقيقتين، اعتمدت بريدو على طريقة التثليث في رسم الخرائط وذلك باستخدام الزمن وليس المكان كنقطة ثابتة، وقامت برسم موضوعها عن طريق التركيز والفحص في أحداث حياته وفي كتاباته الشخصية وأعماله المنشورة، وكان من المتوقع وجود درجة معينة من الموضوعية، ليس فقط في توفير الحقائق ولكن في الإملاء والصياغة المستخدمة لنقل تلك الحقائق وقد قطعت بريدو المسافة بقدر ما عرضت من الحقائق، لكن أسلوبها كان أقرب لأسلوب قص الحكايات، المؤرخ الجيد يمكنه نسج الحقائق في سرد يتدفق على الأقل حتى لو كانت الثقوب بين الحقائق تعني أن القصة لا يمكن أن تتلاحم بشكل صحيح، لقد جدلت بريدو الفلسفة والسيرة الذاتية جنبًا إلى جنب كالضفائر مع موهبتها كمؤرخة في قص الحكايات، وقد برعت بشكل كبير في تخطي الحقائق المعلنة سابقًا للوصول لأقرب نقطة للحقيقة .
وأوضحت بريدو في مقابلة لها، أن هذا بالفعل قد يقع ضمن مغالطات السير الذاتية "لكن تبريري عبارة عن مقطع مما وراء الخير والشر" حيث يقول نيتشه "إن كل فلسفة عظيمة هي شكل من أشكال مذكرات لا إرادية وغير متيقظة، بكلمات أخرى، كل الفلسفة هي امتداد للسير الذاتية، كلاهما ينير الآخر".
لقد كانت حياته العملية استثنائية ومليئة بالتضحيات الذاتية لكنها أيضًا بها قدر كبير من التخبط العميق، قال فرويد إن نيتشه - فقط - من بين الرجال هو من يعرف نفسه وخطاباته، كان يمكن أن تكون ممتعة ومليئة بالنكات، وهو الجانب الذي أمتع بريدو من حياته، وقد كان مفيدًا كونها تعد إخصائية في حياة رجال القرن التاسع عشر العباقرة، فمؤلفاتها السابقة الفائزة بالجوائز كانت عن سترندبرج وادفارد مونش- و قد كان كلاهما من أتباع نيتشه بالمناسبة- حيث رسم مونش "الصرخة" بعد أن قدم له ستريندبرج أعمال نيتشه.
ويمكن أن تشعر كما لو أن فلسفة نيتشه الفعلية لا تلقى اهتمامًا كبيرًا في الكتاب، لكن الأسلوب كان ما عنيت به بريدو وقد كان الأسلوب بالطبع هو الذي ترك نيتشه عرضة للتشويه، فهو لم يقم بتطوير مدرسة أو نظام فكري ما، لكن روح التساؤل فقد أطلق على نفسه اسم "فيلسوف الـ"ربما" وقد أنهى ذات مرة كتابًا بـ"أو"؟
إن الكثير من الأعمال السيرة الذاتية أو الفلسفية عن نيتشه جافة ومملة، حتى عندما تقدم حججًا مؤثرة تهدف إلى تقريب كل أنواع الافتراضات السابقة. لكن هذا الكتاب كان بناؤه مرنًا ومتدفقًا بشكل ملحوظ ربما لأنه مكتوب بأسلوب يوازي بشكل غريب نيتشه نفسه، والكتابة شاعرية ومفعمة بالحيوية، متعرجة بين الاقتباسات وإعادة الصياغة والتحرير بذهول مدهش لمثل هذا الموضوع الكئيب نسبيًا في كثير من الأوقات، إن جهد بريدو سوف يرضي الفلاسفة المحنكين، ولكنه أيضًا قصة تمهيدية جميلة لأولئك الذين لا يعرفون نيتشه جيدًا.
غلاف الكتاب