Close ad

د.محمود الضبع يكتب: بين المتخيل والحقيقي في رواية "ابن القبطية" لوليد علاء الدين

9-7-2018 | 22:30
دمحمود الضبع يكتب بين المتخيل والحقيقي في رواية ابن القبطية لوليد علاء الدين د.محمود الضبع

هل هناك حدود فاصلة بين المتخيل والحقيقي؟ وهل هناك ثقة فكرية فيما نطلق عليه الحقائق؟ ألم تشكك الفلسفة في هذا وتقوِّض مرجعياتنا التي نحتكم إليها بشأن ما نتصوره حقائق مصدرها حواسنا الخمس (ما نسمع، ما نرى، ما نلمس، ما نشم، ما نتذوق)، وهو تاريخ طويل يمكن إرجاع أولياته في ثقافتنا العربية إلى دراسات أبي حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري، وتشكيكه في المعرفة الحسية على نحو ما أثار الجدل حتى يومنا هذا.

موضوعات مقترحة

هذه الأطروحات وغيرها، هي ما يستدعيه الذهن معرفيًا منذ قراءة الصفحة الأولى في رواية "ابن القبطية" لوليد علاء الدين، إذ تبدأ الرواية بتقرير طبي عن حالة مريض يعاني الفصام إلى الدرجة التي تجعل طبيبه يقر بأنه لم يعد يتمكن من التفرقة بين هلوسات مريضه الحقيقية والمتخيلة، إلا بالقدر القليل الذي يمكن مطابقته مع شهادات بعض المقربين ومنهم والدته.

ألا يحيلنا ذلك بداية إلى فتح أفق تأويلات قراءة العمل (وتلك غاية ما بعد حداثية للأدب) في محاولة للوقوف على موضوع الرواية؟

فهل هو حكي عن أنماط الشخصية البشرية الآن في معايشتها لحالات الفصام في سياق حياتها اليومية، وبخاصة في واقعنا العربي المأزوم؟ أم هو حكي عن نمط المثقف في معايشته لأفكاره التي قد يستقبلها الآخرون على أنها هلاوس فكرية، بفعل انحراف مسار أمتنا عن سبل العلم ووقوعها في فلك الخرافي والجاهل؟

أم أنها مجرد حكاية عن حالة من حالات المرض النفسي المتكررة، والتي تزايدت معدلاتها في واقعنا العربي في السنوات الأخيرة؟

كل ذلك وغيره يفتح الباب أما بدائل تلقي النص، لكنه يتفق في نهاية الأمر على أن كتابة الرواية ليست مجرد حكاية للتسلية أو الإمتاع كما قد يتصورها البعض، ولكنها جهد بحثي، وتوظيف فني لحقول معرفية متعددة، وتقاطعات ثقافية تجعل قراءة الرواية إضافة فكرية إلى المتلقي على نحو ما يحدث هنا.

يوسف، متناقضات المجتمع:

يبدأ الحكي عن يوسف، المرتبك في خيالاته بين عالم خارجي لايمكن إغفال رموزه (حرارة الصيف في الشارع، والقطة اللائذة بماء الحنفية المكسورة، وأرضية الغرفة التي تحاكي رقعة الشطرنج)، وبين عالم داخلي ينحو نحو الخيال الفاجر (كما يصفه بعضهم) والذي يستعيد فيه مشاهد ليلة عرس البغل (منصور بكرشه الضخم) من أمل الرقيقة التي تشبه الغزالة، والتي سيتبين فيما بعد أنها محبوبة يوسف وإحدى فجائعه. وإن كانت ليلة العرس هنا هي مركز الحكي، لكنها تتزحزح إلى الهامش لتحل بدلًا منها جلسة يوسف مع الأصدقاء في الطرف البعيد من صوان العرس وتجربته الأولى مع مخدر الحشيش والبيرة، وما يصاحب ذلك من هستيريا مشاهد العالم.

متناقضات كثيرة في الحياة هي التي شكلت شخصية يوسف أو وصلت به إلى هذا الحد من الارتباك، يكشف عنها السرد شيئًا فشيئًا:

أولها: ثقافة التحريم اليقينية، في صراعه مع أصحاب اللحى المتحدثين باسم الدين، والذين يرون الفن بدعة وضلالة، وكل ضلالة في النار، وهو ما مر به في مواقف عديدة عبر حياته، منها جاره الذي رآه يحمل العود في المصعد، فظل يهاجمه باسم ومقولات الدين، وهو ما يستدعيه في حواره مع صديقه رضا: "هؤلاء الذين يقطر اليقين منهم لا يستمعون، فقط يتكلمون، هل كان يغير من الأمر شيئًا إن قلت له إن الله لا يخلق الأشياء الجميلة ليحرمنا منها! العود جميل يا رضا، العود جميل".ص٢١.

وثانيها: تعاطي المخدر الذي يغيب العقل، فتمتزج الخيالات بالواقع ويتعاظم حجم الأفكار وتختلط مرجعياتها (صناعة الوهم والسعادة الزائفة).

وثالثها: الإخفاق في امتحان الإذاعة رغم امتلاكه للمقومات، بسبب المحسوبية والوساطة والمحاباة والفساد الواضح للعيان: "لم أكن أتصور أن الأمر كله مجرد لعبة، لعبة يتم من خلالها التضحية بمئات الشباب والفتيات، لصالح ثلاثة من ذوي الحظوة".ص٣٨.

ورابعها: تناقض التيارات الدينية التي حاولت استقطابه في أثناء دراسته الجامعية من خلال شخصية "منذر" ممثلًا للجماعات الإسلامية، ودخوله بمدخل توظيفه لهداية أمه القبطية التي تزوجت من أبيه المسلم، وهو ما اعتبرته التيارات الإسلامية جهادًا في سبيل الله أن يحولوها للإسلام: "لم أكن أدرك قبل أن يحدثني منذر بتلك الفجاجة المكشوفة أن رفيق عمري جعلني بضاعة يبادلها مع الله، هكذا قال لي مبررا بوحَه بسري الذي قلب حياتي في الجامعة إلى جحيم، صرت مستهدفا، فمنذ فترة، وأتباعه من ناحية يجتهدون في تجنيدي لأكون رسولهم إلى أخوالي من النصاري- كما يسمونهم- يهدي بي الله منهم من يشاء، ومن ناحية أخرى صرت محط أنظار الكنيسة التي توعدتني، ثم وعدتني بخدمات جليلة سوف تقدمها لي إذا ما كشفت لهم عن حملات الأسلمة التي يقوم بها منذر وأتباعه".ص٤٧، ٤٨.

ثم تأتي شخصية جورج ممثلًا للجماعات المسيحية وإسهامه في إحداث المزيد من هذا الارتباك النفسي: "فكر.. هم يعدونك بثواب الآخرة، نحن نضيف إليك المستقبل الذي تريده".ص٤٩.

وما يكشف عن هذا التناقض في نفس يوسف ويكتبه في كراسته الزرقاء: "لم يكن الله أبدًا محل خلاف بين أبي وأمي، كانت آية الكرسي معلقة قرب أيقونة المسيح المصلوب في غرفتهما، حدثني أمي عن قصة الصليب المعلق فوق سريرها، أخبرتني أن والدي اشتراه لي، وعلقه بنفسه بجوار آية الكرسي ليلة زواجهما، والدي الذي أخبرني كم أحبته وحاربت الدنيا من أجل أن تكون له، رغم اختلاف ديانتهما".ص ٥١.

ويأتي سادس هذه المتناقضات متمثلا في فشله الزواج من أمل لمجرد أنه ابن القبطية: "هل يستحق منصور أمل لمجرد أنه ليس ابن القبطية".ص ٥٢.

إن تاريخ أمه "القبطية" كان هو الأساس الذي يطارده ويحكم على حياته بهذا المصير من القلق النفسي، على الرغم من التعايش المجتمعي في مصر بين المسلمين والمسيحيين: "قال جدك لأمي أليست هذه أم حسين التي ظللت بعد ذلك ترددين "شي لله يا أم حسين" كلما أهلت عليك! وهي ترد عليك: بركات العدرا أم النور... فتضحكان؟".ص ٥٥.

ولولا التأجيج الديني الأيديولوجي السياسي لما برزت مثل هذه الخلافات، فهل يريد الكاتب أن يبلغ هذه الرسالة عبر نسيجه الروائي؟ يبدو أنها واحدة من الرسائل التي يهدف النص لنشر الوعي حولها، وأن هذه الصراعات المذهبية هي صراعات لصالح فرض السلطة وليست خالصة لوجه الله كما يدعي أصحابها.

يوسف بولكا وهافا ناجيلا:

في النصف الثاني من الرواية، يبدأ ما يمكن اعتباره رواية جديدة قصيرة، امتدادها هو يوسف (ابن القبطية)، لكنها هذه المرة تسرد الحكاية من منظور فتاة يهودية "راحيل" تسعى وراء فكرة إنجاب طفل/ طفلة تنتمي للديانات الثلاث (اليهودية) للأم، والمسيحية والإسلامية للأب (يوسف ذو الأم القبطية والأب المسلم)، فكرة تبدو صادمة للوعي، لكنها تأتي من أم درست اللاهوت وقرأت في كل الأديان بحثا عن المشترك والمختلف: "اخترت دراسة اللاهوت، وانغمست في القراءة والبحث، خرجت من دين إلى دين، ومن كتاب إلى كتاب، وجدت الفكرة دوما واحدة، إنه الخوف، الخوف يقود الإنسان إلى محاولة الوصول إلى يقين يطمئنه، يظل يقلب وجهه في السماء باحثًا عن فكرة تجعله يمضي مطمئنًا في الحياة.. ". ص ٨٢.

وعبر فصول قصيرة، وعلى أنغام البولكا والهافا ناجيلا (اليهودية)، يتم إعادة صياغة الوعي بمفاهيم الديانات الثلاث، وعلاقة الإنسان بها من منظور الغايات الكبرى التي تهدف لإقرار المحبة والسلام على الأرض: "الإسلام يا يوسف هو الاستسلام لنظام الخالق واتباع تعاليمه الكونية" ص ٩٠.

"وبذلك يكون الإسلام مجموعة القوانين المنظمة للحياة بهدف ضمان جودتها وعمرانها". ص ٩١.

"لو فكرنا في الأمر بعيدًا عن فكرة التعصب لتصور ديني بعينه والتي تؤثر على طريقة استقبال الإنسان للأفكار، فسوف تجد أن الأمور بسيطة جدًا، كما يفترض لها أن تكون، كن مسلمًا، وهو أمر ليس مقصورًا على شكل عبادة دون غيرها، أو طريقة دون طريقة، إنما أمر إلهي شريعته الوحيدة أن يسلم من شرك الكون وكائناته حتى تعمر الأرض ويعود السلام" ص ٩٠.

هكذا يتدخل الوعي في بناء السرد، فتنتقل الحكاية من مجرد كونها قصة ممتعة إلى كونها مناقشة لقضية من أعقد القضايا التي تعيشها البشرية على الأرض، وهي قصة التدين والتعصب كل لما يدين به، ورفض الآخر، اعتمادًا على مقتضيات العاطفة وليس مقتضيات العقل، فهل سيغير ذلك شيئًا من وعي المتلقي، أم أنه سيلاقي الرفض لمجرد أنه يخاطب العقل لا العاطفة؟ يبدو أن الأمور أصعب من ذلك بكثير في وعينا العربي، وهو ما يعمد الروائي للتشويش عليه في نهاية الفصل الثاني عشر، والمعنون "القروي الصغير" ليوقع المتلقي في إيهام التخييل في ذهن المتلقي، وأن هذا الجزء من القصة يحتمل صدق حدوثه ويحتمل الكذب.

رواية الأصوات:

يمكن القول بأن رواية ابن القبطية رواية أصوات على نحو ما، فيوسف يحكي بصوته بين الشك واليقين، وراحيل تحكي بصوتها بين اليقين والشك، وأمل تحكي بصوتها عن مخاوفها وأحلامها المخيفة التي تزورها تجسيدًا لواقعها المأزوم، وهروبها إلى الرسم في محاولة للانعتاق.

وأم يوسف التي تحكي بصوتها عن يوسف المنكسر بسبب زواج أمل، واستغراقه في الرقص المحموم لسنوات طويلة (رقصة جلال الدين الرومي التي صنعها الحزن والمنام)، وتحكي قصة زواجها وهي القبطية من حسين المسلم، والمحبة التي جمعت بينهما، وتحكي أحلامها التي تختلط بالتاريخ والحملة الفرنسية على مصر، والتصوف، والتدين القروي، والتسامح الديني، وغيرها مما يرصد لتحولات المجتمع المصري.

ثم يعود صوت يوسف ليحكي في الفصل الثامن عشر حكاية رقصته التي تصل به إلى الموت وتعود إلى حياة أشبه بالموت.

ثم يعود صوت الراوي ليحكي عن يوسف وأمه وظلال تطارده تجسد له كل من مروا في حياته ( أمه، راحيل، أمل، جلال الدين الرومي) وغيرهم ممن يستدعيهم عقله ليسهموا في خلط الواقعي بالمتخيل.

ثم يعود صوت يوسف ليؤكد هذا الخلط حيث يقول: "أنا كذاب بارع، ولكن خذوا حذركم، الحقيقة كلها منثورة بين تلك الأكاذيب، وهي حقائق أوحي بها إلي، سوف تعرفونها حين يحين الوقت، ولكن الوقت يحين عندما تمتلكون الإرادة، وإن لم تفعلوا فإنه أيضا يحين، ولكن سوف يكون مصيركم الجحيم، هناك حيث تعذبكم تساؤلاتكم بلا أمل في الوصول إلى إجابات، فالجحيم هو أسئلة بلا أمل في إجابة" ص ١٤٨.

فهل تريد الرواية أن تشير إلى أن الواقع هو الألم الذي نعيشه، والذي غدا مشحونًا بكل الأمراض النفسية والجسدية والعصبية، وأن الفساد يحيط به من كل جانب؟

على أية حال، فإن الرواية تحتفي بالوعي، وتعمل على تقديم نقدها للمجتمع والحياة من حولنا في كل حركة سردية من حركاتها، ومع الحكي عن كل شخصية من شخصياتها سواء بصوتها هي أم بصوت الراوي، مما يكشف عن حياة مأزومة، وأرض يلفها الصراع ويداخلها في كل حين.


رواية "ابن القبطية" لوليد علاء الدينرواية "ابن القبطية" لوليد علاء الدين
كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة