Close ad

شريف صالح يكتب: "سيد الوكيل" القلب النقي على الميزان

9-7-2018 | 21:42
شريف صالح يكتب سيد الوكيل القلب النقي على الميزانسيد الوكيل

1-

موضوعات مقترحة
أؤمن أن لنا من أسمائنا نصيبًا. فـ"سيد" من المكانة والاحترام، لقب الأنبياء مثل "السيد المسيح"، والشهداء مثل الحسين رضي الله عنه "سيد شباب أهل الجنة"، وعم أبيه حمزة "سيد الشهداء". والسيادة هي الرفعة من كل شيء، فالقرآن "سيد الكلام" والرجل الشريف "سيد الناس"، وهي الموهبة، فيقال للاعب الموهوب "سيد الملعب".

والجد بوصفه الجذر هو "سيدي".. ولا تذكر أسماء الأولياء إلا مطرزة بلقب "سيدي" أو "سيد العباد".

و"الوكيل" اسم من أسماء الله الحسنى بمعنى المحيط والحافظ والحفيظ من كل سوء، والكفيل بالرزق. هذا الاسم القرآني يعني أيضًا المفوض بعمل غيره ومن ينوب عن كل قاصر، ومن يسعى لخدمة الآخرين.

وأحسب أن اسم الناقد والكاتب المبدع "سيد الوكيل" الذي يحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده السابع والستين، متحقق تمامًا في طباع شخصيته وصيرورة حياته، فهو السيد في ترفعه ونزاهته واحترامه لذاته، وهو "الوكيل" في سعيه الدؤوب إلى دعم ومساندة عشرات الشباب.

2-
أسماء قليلة عرفتها الثقافة المصرية أعطت من روحها ووقتها للشباب، فكانت تسمع وتقرأ لهم وتكتب عنهم بمحبة، وتساعدهم في النشر. يمكننا أن نتكلم عن يحيى حقي أو عبد الفتاح الجمل أو محمد جبريل، لنصل إلى سيد الوكيل الذي ربما يتفوق عليهم في كونه يدعم من موقع حر، فهو لا يملك صفحة ثقافية في جريدة ولا وظيفة كبيرة في مؤسسة ثقافية أو إعلامية.

هذه الطبيعة الآتية من لقبه "الوكيل"، القاضي والساعي بالخير من أجل غيره، والتي تدفع المظلوم والمكروب دائمًا إلى الاستنجاد بالله "الوكيل". هي أيضًا من صميم وجوهر الشخصية المصرية. فالمصري الفلاح الحامل جيناته عبر آلاف السنين يؤمن بأنه يبني حتى لو لم يسكن في المبنى. ويزرع حتى لو كان الحصاد من نصيب غيره.

وهذا هو سيد الوكيل تمامًا، الكاتب المبدع الذي تطهر من نرجسيته، فلن يشغل باله بأن يسألك: هل قرأت روايتي الأخيرة؟ أو يخبرك بثقة وتباه: هذا الكلام قلته في روايتي الفلانية!

فمنذ عرفت الوكيل وهو يمارس ما يقتضي اسمه وصفته، فيكون سؤاله الأول لي: "فين شغلك الجديد عاوز أقراه؟" أو يعبر عن سعادته وإعجابه برواية شاب أو شابة.

وعندما أتيحت له المسئولية عن إدارة بعض سلاسل النشر الحكومية، وبإمكانات شبه معدومة، كان له فضل في إطلاق الكتابات الأولى لعشرات الشباب من صعيد مصر إلى بحرها.

3-

رغم أنني لم تتح لي فرصة النشر معه، فقد كنت أحد المستفيدين كثيرًا من محبته ومساندته لي.

أذكر عندما تواصلنا عبر الفضاء الافتراضي من خلال موقع "القصة العربية" عام 2006، كنت أيامها قررت التوقف نهائيًا عن الكتابة، وتحاشيت إصدار مجموعتي الأولى. لكنني وجدت تشجيعًا كبيرًا منه، ومن عدد من الأصدقاء الذين تعرفت عليهم في الموقع، واحتفظنا بالود والمحبة رغم الصداقة الإلكترونية لأكثر من 12 سنة.

أيامها أبدى إعجابه بنصوصي واستفدت من ملاحظاته، وأهديته بالفعل إحدى القصص في مجموعتي الثانية "مثلث العشق"، وبعد صدورها، استأذنته للمشاركة في ندوة عنها في ورشة الزيتون فرحب جدًا، وكان معه الصديق والأكاديمي المحترم د.مصطفى الضبع.

يومها أخبرني أنه لا يملك نسخة من المجموعة، فاتفقنا أن أذهب إليه في مقر عمله في جامعة عين، كنا في عام 2011، ويصادف حينما ذهبت إليه أن يكون في الأسبوع الأخير له قبل تقاعده: الجو مشحون بعواطف الفراق وعشرة الأيام والأسى، لكنني لاحظت أنه يتعامل مع المسألة ببساطة جدًا. محطة من محطات مضت وأخرى آتية.

ولا أنسى حين قال في الندوة، إن قصتي "شعر غجري تتطاير منه الحجارة" من النصوص القليلة التي كان يتمنى أن يكون كاتبها. كانت شهادة كبيرة من أستاذ لتلميذ.

ثم تشرفت بمشاركته في أكتر من ندوة عن شغلي، وأكثر من مقال، بمنطق الفلاح المصري الفصيح الذي لا يعرف سوى أن يزرع ويبني، والذي يُعطي ولا يهتم أن يأخذ، قبل أن تصاب مصر بوحل ثقافة السمسرة والهليبة وهبش نهب ما ليس حقًا.

ومثلما ساندني، ساند العشرات غيري منذ ثمانينيات القرن الماضي، وحتمًا لديهم شهادات أهم من شهادتي، وهو في ذلك متسق تمامًا مع اسمه، ومع نبل ونزاهة روحه.

في آخر مرة التقينا من عام خلال زيارتي إلى القاهرة، واستأذنته لضيق الوقت أن أدعو بعض الأصدقاء والزملاء للانضمام إلينا، ويومها أصر بشكل قاطع أن يعزمني أنا وأصحابي على حسابه.

موقف آخر بسيط يكشف نزاهة معدنه، وأن معن العطاء والكرم لا يتجزأ، وهو أمر لا يعرفه فقراء الأرواح وليس الجيوب.

ولعل تلك النزاهة لن ترضي وتعجب الكثيرين من منظمي الجوائز ولجان الثقافة، ممن أعمى الفساد أرواحهم قبل عيونهم، لدرجة أنهم لم يلتفتوا إلى جمال إبداع وكتابة سيد الوكيل روائيًا وناقدًا، في: "أيام هند" و"فوق الحياة بقليل" و"للروح غناها" و"أفضية الذات" و"شارع بسادة" و"تذويب العالم".

كما لن يسعدهم مشروعه وعطاؤه المهم في الثقافة المصرية، دعمًا للأصوات والأجيال الشابة، المغاير لمنطق الشللية والمصالح.

لذلك عندما يطالع المرء الأسماء التي تنضح من "بكابورت" الجوائز، يشعر أنه من الأفضل ألا تلوث تلك الجوائز المشبوهة والمطعون في شرفها والمشكوك في نسبها، سيرة مبدعين مثل سيد الوكيل أو الراحل عبد الحكيم قاسم، فللأسف عندما تصبح الجائزة عطية لمريض أو ترضية لغاضب أو مجاملة لأحد أبناء الشلة، فإن النأي عنها هو الجائزة الكبرى، رغم الإقرار بفوز أسماء محترمة ـ أحيانًا ـ ولا خلاف على استحقاقها.

لذلك قناعتي أن سيد الوكيل وعطاءه هما الجائزة.

4-
من أهم مزايا سيد الوكيل النادرة، أنه صاحب وعي نقدي مضيء لا يستسلم لغبار الزمن، وعقل منفتح على أسئلة المستقبل وليس اجترار الماضي. يكفي أن يقرأ المرء له مقالًا أو "بوست على الفيسبوك" حتى يدرك أنه أمام كاتب لا يردد كليشهات ولا يجتر الصدأ والتكلس. لأنه لم يتوقف عند قراءاته في صباه وشبابه في الستينيات والسبعينيات. بالعكس يملك القدرة والوعي على مناقشة قضايا الفلسفة والرسم والسينما وأحدث نظريات النقد، بروح شاب أكثر من بعض الشباب.

وأحدث دليل على ذلك ما كتبه عن استحقاق فوز الكاتب أحمد مراد بجائزة الدولة، حتى لو كانت كتابة مراد ليست النموذج المفضل بالنسبة إليه. لأنه ببساطة قادر طوال الوقت على مراجعة وتنقيح ذاته وخطاباته وأفكاره. مثلما هو قادر على طرح الأسئلة والانفتاح على آراء الآخرين من دون ذلك الحس السلفي والمتعصب الذي يدور بصاحبه في حلقة مفرغة.

5-
ومن الصعب تلخيص انطباعات سريعة عن مشروعه السردي والنقدي. لكن كانت مفاجأة حلوة لي أن نتشارك معًا في تدوين أحلامنا، هو رصدها في كتابه البديع " لمح البصر" بينما سجلتها في كتابي "دفتر النائم".

كلانا مشغول بالصور ومنطقها الخاص الموازي للواقع، ومن تجلياته الأحلام وسحر السينما.

مثلما أن كلينا مشغول بسؤال الموت، نهاية الفيلم الخاص بنا، وهو ما رصده في كتابه المهم "الحالة دايت". نص مفتوح ليس بالنقد ولا السيرة ولا الرواية، لكنه كل ذلك وأكثر. نصوص تتأمل ظاهرة الموت في الإبداع وفي الحياة. رفاق درب كانوا بجواره يومًا ما، وتجمعهم صورة مشتركة ثم فقدهم وأصبحوا في الغياب.

"الحالة دايت" من أعذب الكتب التي قرأتها رغم كآبة موضوعه. خصوصًا الفصل الخاص بوالده الذي هرب من قريته بسبب ولعه بعبد الوهاب. وهذا سبب آخر مهم لمحبة سيد الوكيل أنه ابن لرجل يقدس صوت عبد الوهاب.

رغم خفة عنوان الكتاب لكنها خفة النضج والتصالح مع الغياب من مسرح الحياة، فسيد الوكيل كمصري خالص المصرية يدرك أن الموت بالنسبة إلى المصري القديم هو "خروج إلى النهار" مرحلة تالية في قصة وجودنا لا تستحق الشعور بالرعب وكل تلك الميلودراما.

6-
بوجه عام، أسلوب سيد الوكيل يتسم بالذكاء والرهافة والكثافة، فمعظم أعماله نصوص قصيرة نسبيًا، وروايته تدور في فلك المائة صفحة. وهذا عمومًا أسلوب كُتاب القصة القصيرة العظام.

وهذا أحد أسباب كونه من الكتاب المفضلين، الذي ينتقي الكلمة بعين الجواهرجي، ولا يتورط في الحشو والثرثرة واجترار الذات، لقناعته أن حمولة النصوص فيما وراء سطورها، وأن النص علاقة حرة وتفاعلية مع قارئ نشط.

7-
ثمة نقطة قد تكون هامشية في محبتي لسيد الوكيل، كونه أحد المصريين الذين شاركوا في حرب أكتوبر، وكنت وما زلت ضعيفًا روحيا أمام كل جندي شارك في حروبنا. وبالطبع على رأسهم أبي رغم أنه أكبر من الوكيل ببضع سنوات.

هل لأنه شارك في الحرب مثل أبي؟ أو شيء آخر لا أستطيع أن أحدده بالضبط هو ما يجعلني بوجود شبه بينه وبين أبي؟ ثمة شخصيات قليلة عندما أراها أحس بأن فيها شيئًا ما من أبي لا أستطيع تحديده. وهذا يضاعف ارتباطي به عاطفيًا. وغالبًا لا أخبر هذه الشخصيات بذلك لأنني أصلًا لا أعرف أين وجه الشبه بدقة كي أخبرهم به.

8-
في كتاب المصريين القدماء الشهير "الخروج إلى النهار" نقرأ عبارات مثل " قلبه كان نقيًا على الميزان"، وعلى لسان أوزيريس يقول: "ليست هناك خطيئة عالقة بي. لم أقل كذبًا أدريه.. ولا فعلت شيئًا بقلب غاش".

هذا بالضبط هو سيد الوكيل بمصريته الصميمة المعطاءة، التي قاومت الأنانية والكذب والغش، حيث حافظ على قلبه نقيًا في الميزان. زاهدًا أو ناجيًا بنفسه من مغريات وسط ثقافي يدرك تمامًا حجم التردي والفساد والوحل الذي يغمره، محترمًا ذاته، ونصه فقط.


شريف صالح شريف صالح
كلمات البحث
اقرأ ايضا: