Close ad

الأخسرون أعمالا (2) (قصة قصيرة)

19-6-2018 | 17:57
الأخسرون أعمالا  قصة قصيرةرءوف جنيدي
رءوف جنيدي

تزداد يومًا بعد يوم الأعباء الملقاة على عاتق محمود، بعد انشغال أخيه فى زيجته، وزيادة شراهته للمال، ليسد أطماع زوجة، راحت تثقله كل يوم بكثرة مطالبها من أشهى المأكولات، وأرقى الأزياء، وما يروق لها من مجوهرات ثمينة، يسيل لها لعابها كلما طالعتها فى ڤاترينات العرض .. تتثاقل رويدًا رويدًا همة وعزيمة عبد الحميد، بعد أن تقدم به العمر، وبات يشعر بأنه يدور فى ساقية، ليروي أرضًا ليست كلها ملكه، فتنبت زرعًا يأكله غير مستحقيه، وكأن ساقيته تخرج الماء من النهر، لتلقى به فى البحر، وتقرع طبول الحرب فى عمارة الحاج عبد الحميد، ويطل الخراب والفرقة من شقة الابن عمر، وكأنهما رءوس الشياطين .. أطلت لتفكك أواصر المودة والرحمة التى سادت الأسرة طويلًا ، ليحل محلها مشاهد الفرقة والتمزق، على يد زوجة الابن غريبة الأطوار، التى أهينت على يديها أم محمود، وسمعت منها ما لم تسمعه من قبل، من وقاحة فى الرد، وغلظة فى القول ! راحت الأم تبكى بحرقة شديدة، بعد أن صارت أطلال ابن، بات ألعوبة فى يد زوجة مستبدة .. تحرك مشاعره نحو أهله كيفما تشاء، فما رأت منه الأم إلا مناصرةً لزوجته دائمًا، حتى أنه كثيرًا ما كان يتطاول على إمه تأففًا وجهرًا بالسوء من القول، كلما اشتكت له زوجته !!

موضوعات مقترحة

خيمت على البيت أجواء البرودة والكآبة .. ماعادت العلاقات دافئة كما كانت، ففى كل مرة يعود فيها عبد الحميد من عمله، فإذا بالحزن بادٍ على وجه زوجته .. تهتز الدموع فى عينيها، وتنفجر بالبكاء إن هو سألها .. يكفكف الرجل دموعها فى صمت وحيرة .. يقضى عبد الحميد ليله مستلقيًا على ظهره، إلى جوار زوجته، وقد عقد كفيه تحت رأسه شارد الذهن .. حائرًا بين زوجته، وابنه .. ماذا هو فاعل ؟ فقد تدخل ذات مرة، ولم يلق وقتها إلا تطاولًا من عمر، بلغ منتهاه يومها، بعد أن وكزه عمر، خلال نقاش، احتد بينهما، ليقع عبد الحميد مستندًا إلى كرسى، كان خلفه .. الأمر الذى أخفاه عبد الحميد وزوجته عن ابنهما محمود، حتى لا يتقابل البر والعقوق بسيفيهما فى بيت رجل حج بيت الله الحرام، وحفظًا من عبد الحميد ماء وجهه طلب من ابنه محمود التدخل فى هذا الشأن، ولكن الأمر انتهى مع عمر بمشاجرة عنيفة، وصلت إلى حد التشابك بالأيدى، ولم تسفر عن جديد !!

لم يجد الأبوان سلواهما إلا فى زواج محمود من ابنة عمه، التى ينتظره قلبها على الرحب والسعة، لعلها تعيد للبيت بهجته ودفئه من جديد، فهى ابنة العم الحانية حنو الابنة، لتستأنس بها أم محمود، بعد خيبة أملها فى ناهد وزوجها، وبالفعل يصطحب عبد الحميد زوجته وابنه فى زيارة لبيت أخيه، الذى رحب به أيما ترحيب .. طلب عبد الحميد من أخيه، ابنته زوجة لابنه محمود، وقرأت الفاتحة، وانطلقت الزغاريد، تجلجل فى سماء البيت، وارتسمت على وجه عبد الحميد وزوجته فرحة حقيقية، علها تزيح غبار زيجة شحيحة المودة .. ضنينة الرحمة .

ينطلق محمود فى عمله بخطى أوسع .. راح يجوب الأرض شرقًا وغربًا .. ساعيًا فى عمله، بعد أن اطمأن لملامح مستقبله، التى بدأت تتشكل أمام عينيه .. المال، والمسكن، وها هى ابنة العم .. حبيبة القلب، وساكنة الوجدان منذ حين .. الأمر الذى اطمأن له عبد الحميد، لينال قسطًا أوفى من راحته الأسبوعية، بل اليومية، استنادًا إلى محمود، الذى بدأ يدير عجلة العمل، بكل همة واقتدار، ولكن ما طالت فترة السعادة هذه فى حياة الأبوين، وكأن القدر يقف لهما بالمرصاد، فقد علمت ناهد زوجة عمر بقرب قدوم ابنة العم زوجة لمحمود، فاستشاطت غضبًا، لأنها تعلم قدر، ومكانة بنت العم القادمة، وهى بعيدة، فكيف الحال عندما تكون زوجة لمحمود .. القريب من والديه، اللذين ما بقى إلا أن يغلفانه غلافًا من العطف والحنان، لئلا يهب عليه نسيم، قد يكون غير عليل ؟! وتصر ناهد على العيش منفصلة عن بيت العائلة، فى مسكن خاص، بعيدًا عن أهل عمر، فما كان من عمر إلا السمع والطاعة، ليلقى على عاتق والديه احمالًا مادية فوق أحمالهما النفسية، بمزيد من البعد، ومزيد من الخسارة، ويحزم عمر حقائبه، ويرحل هو، وزوجته عن شقته، ويقلب عبد الحميد كفيه على ما أنفق فيها بعد أن باتت خاوية على عروشها .

يمر عام .. تزف بعده ابنة العم لزوجها محمود، وسط حفاوة بالغة من الأهل والأقارب، ودعوات لا تنقطع من عمها، وزوجته، أن يجعل الله من كل منهما سكنًا للآخر، وأن يقيم بيتهما على المودة، والرحمة، وأن يرزقهما الله بالذرية الصالحة، وأن يجعل لهما من البنين والبنات قرة عين لهما، وزينة لحياتهما الدنيا، وتنقطع أيضًا، خلال هذا العام، كل أخبار عمر وزوجته، إلا من زيارات متباعدة، وطامعة، يحضرهم فيها عمر محملًا بمشاكله ، ومطالبه التى لا تنتهى، بعد أن أنفق كل ما لديه فى علاج ناهد، التى تأخر حملها لأسباب طبية جار علاجها، وينوء كاهل عبد الحميد، وزوجته بالمشاكل المادية، والنفسية التى جلبها لهم ابن، عسى الله أن يهديه، وزوجة لايلام إلا من إختارها . ولا يسأل عن تصرفاتها إلا من تربت على يديه .. يغادر عمر بيت أبيه متأففًا لقلة ما اقتنصه من مال أبيه عنوة، وهو يزمجر غضبًا، دون وداع يليق بأمه، التى انفطر قلبها على بعده، ولا بأبيه الذى يبكى قلبه كمدًا، وحسرة، على ما آل اليه حال الابن .

يخلد عبد الحميد ليلتها إلى فراشه .. ملقيًا بجسده الهزيل، الذى أعيته الحياة، وأبلاه الابن .. صامتًا .. شاردًا، وقد أخرج من طيات ملابسه صورة لعمر وهو صغير، قبل أن يقسو قلبه، وتجف روافد البر عنده .. راح الرجل يتفحصه .. يناجيه .. يتأمله .. يحادث نفسه، وولده : أليست هذه ذراعى التى حملتك صغيرًا ياعمر؟! أليس هذا كتفى الذى كثيرًا ما نمت عليه قرير العين، قبل أن أضعك فى الفراش ؟! أليس هذا ظهرى الذى امتطيته، ومشيت بك على أربع .. أطوف بك غرفات المنزل .. عساك أن تضحك فيتراقص قلبى ؟! أليست هذه يدى التى أطعمتك، وسقتك، واستندت إليها، لتخطو أولى خطواتك فى بهو عمرى، وعلى أدراج شبابى ؟! أنسيت يا عمر وقت أن كنت أسكن بلا حراك، حتى لا أزعجك، وأنت تقضى حاجتك فى حجرى .. وقت أن جعلته لك مهدًا ؟! أنسيت يا عمر وقت أن كنت أغسل بعدها نصفك الأسفل، فى غياب أمك، بماء لا هو بارد ولا هو حار ؟!ويستدير عبد الحميد على جانبه، مواجهًا الحائط .. ممسكًا بصورة ابنه .. باكيًا بكاءً مريرًا، فما سقطت دموعه على وسادته فحسب، وإنما سقطت فى كف الرحمن، لتشهد على عمر أمام الله يوم يلقاه .

يمر محمود، كعادته كل صباح، على شقة أبيه، قبل أن يتوجه إلى عمله، ليطمئن على أبويه، وليحظى منهما ببعض دعوات صالحات .. اعتاد أن يحملها معه، فتعينه على قضاء حوائجه، وتيسر له كل عسير .. دخل محمود شقة أبيه .. نادى على والده كثيرًا، فلم يرد .. دخل عليه غرفته، فإذا هو على رقدته الأولى .. ربت على كتفه، فلم يستجب .. جذبه من كتفه .. فسقط جسد أبيه على ظهره دفعة واحدة، وتمددت ذراعه إلى جواره .. يحمل فى كفه صورة عمر، مبللة بالدموع .. يتحسس محمود وجه أبيه، فتنبئ برودته الشديدة بأن الوفاة قد تمت فى الساعات الأولى من الليل، وما شعرت بها الأم .. يؤز الشيطان محمود أزًّا .. أن عمر هو من قتل أبيه، ولكنه سرعان ما استعاذ بالله، ويجهش الابن بالبكاء فوق صدر أبيه، وتأتى الأم، بآخر ما تبقى لديها من دموع، بعد أن جف العود، ونضب المعين .. ينادى محمود على زوجته، فتحضر مسرعة، لتقف إلى جوار زوجها، فتبلغ والدها ليأتى، ويبدأ محمود فى الإعداد لترتيبات الدفن، وإقامة السرادق، لتلقى العزاء ليلًا .

تنتهى مراسم الدفن، التى يحضرها عمر، ثم ينصرف بعدها، ويفتقده أخوه فى سرادق العزاء، وتنتهى الليلة، ويعود كل إلى سيرته الأولى .. أسبوع يستغرقه محمود فى استخراج بعض محررات رسمية، بعد وفاة الوالد، وينتظم محمود فى عمله من جديد .. مراعيًا أمه، التى خيرها فى أن تبقى معهم، أو يكونوا معها، أو أن تقرر ما تشاء، ويغيب عمر كعادته، ليظهر، ذات مرة، وفى أثناء وجود محمود فى عمله، ليطالب أمه بشهادة وفاة أبيه ، وبعض أوراق رسمية تخص الوالد، للبدء .. طامعًا .. متلهفًا، فى الاستحواذ .. مسعورًا على حقه فى الميراث، ويفلح فى العثور على هذه الأوراق، بعد تفتيشه كل الأرفف، والأدراج، ويخرج بها مسرعًا من شقة أمه .. مندفعًا من باب العمارة، بعد أن فقد البصر، والبصيرة، لتطيح به سيارة مسرعة، أثناء عبوره الطريق، لتلقى به على أحد جانبى الطريق .. مضرجًا فى دمائه، وتتطاير من يده الأوراق فى الهواء .. معلنة رفضها أن تشاركه العقوق، أو تقاسمه الجحود، لينهض بواب إحدى العمارات المقابلة يلملمها، ليعيدها الى بيت الحاج عبد الحميد، وينقل عمر إلى أحد المستشفيات، إنقاذ ما يمكن إنقاذه .

يبدأ عمر رحلة علاج طويلة الأجل، وفقًا لما قرره الأطباء من جراحات، ودعائم، ومسامير، وخلافه .. راح ينفق كل ما يأتيه تباعًا من أخيه محمود كدفعات من ميراث والده، ليقضى عمر أيامه على أسرة المستشفيات ، والعيادات، أو فى بيته على فراش العجز، والذبول .. طالت الأيام بعمر، على هذا الحال، حتى بلى جسده، وتحطمت معنوياته، وذات يوم، وفى محاولة منها، لإحياء الأمل فيه، أحبت ناهد أن تزف إليه خبرًا سعيدًا، ولكن بماذا تنفع الأخبار السعيدة إن أتت فى غير موعدها ؟َ فبينما هو مستلق على فراش عجزه، تهمس فى أذنه مداعبة، لتخبره بأن طبيبها المعالج قد طمأنها بأنها تعافت تمامًا، وطبقًا لآخر التحاليل التى أجرتها، لم يعد لديها ما يمنع الحمل، لينفجر عمر فى البكاء|، فزوجته ناهد لا تعلم أن الحادث الذى تعرض له قد قضى تمامًا على كل أمل له فى الإنجاب، وفقًا لكلام أطبائه، ليبقى عمر وحيدًا .. طريد الرحمة الإلهية .. طريد رضا الوالدين .. فلا مال، ولا بنون، وحتى إن وجدا، فلا ينفع مال، ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم .

لم يأت عمر ربه بقلب سليم، وأبى إلا أن يكون، وكل من على شاكلته، هم الأخسرين أعمالًا .. الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .. ليت عمر قرأ قول الله تعالى : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا .. إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما .. فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما .. وقل لهما قولاً كريمًا) صدق الله العظيم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة