لشريف عبدالمجيد تجربة ممتدة مع كتابة القصة يستأنفها بمجموعته السادسة "صولو الخليفة"، التي يتخذ فيها من حي الخليفة مسرحًا لمعظم أحداث سرده ومدارًا لأغلب حكاياته التي يبثها عبر قصصه.
موضوعات مقترحة
والمتابع لكتابة عبد المجيد القصصية يجد سمتًا عامًا وسمات خاصة ترسم ملامح سرده القصصي في مجموعاته الست؛ إذ يبدو قص شريف عبد المجيد معنيًّا، في صياغاته الفنية، بسرد التفاصيل والنثريات الدقيقة التي تُمشهد فضاءات السرد، كما يبدو منهمًا، على صعيد صياغاته الموضوعاتية، بمتابعة التحولات الزمكانية، وبملاحقة دورة الزمن وملامسة إيقاعه وتبين آثاره على الذوات والأمكنة.
التحولات الفارقة
يبدو قص شريف عبد المجيد لاهثًا وراء الزمن وحركته، ملاحقًا تحولاته المتدبية آثارها على المكان وشخوصه، تلك التحولات التي تُمثِّل لتغير أوجه الحياة، ففي نص "عزف منفرد" المتفرع عن نص "صوصو الخليفة" الضام عددًا من المقاطع القصصية يبدو بطله "الأستاذ كمال مغني الكورال بفرقة الموسيقى العربية" الذي "افتتح في تسعينيات القرن الماضي- بعد بلوغه سن المعاش- أول وأشهر محل آلات موسيقية في شارع الخليفة، حيث يؤجر لفرق الأفراح والزفاف تلك الآت، لكنّ تجارته بارت مع بدايات القرن الواحد والعشرين بعد ظهور فرق المهرجانات" (ص ص19-20). فقصص عبد المجيد تتابع التحوّل في أنماط الحياة المادية والتقنية كتبدّ واضح للتحولات السيسوثقافية في تجلياتها المادية، أما "الأسطى عربي" صاحب نصبة الشاي "تلك النصبة التي ورثها عن والده"، فإنّه "يأتي من بيته القريب من المسجد ذلك البيت القديم الواقع في قلعة الكبش خلف مسجد أحمد بن طولون، يمشي كل يوم في الطريق المتعرج ليصل إلى سوق الركبية، سوق الخضار الوحيد بالمنطقة ويكمل بعده ويشتري طلبات اليوم من سيد رزق صاحب السوبر ماركت الكبير الذي يوجد أمام مسجد صرغتمش، حيث غيَّر محل البقالة القديم الذي كان يتعامل معه والده". (ص25)، فترصد قصص عبد المجيد تبدلات أنماط وأشكال الاستهلاك الاقتصادي في المجتمع، خصوصًا، في البيئات الشعبية، بعد فرض الرأسمالية الجديدة، أنماطها، فحل "السوبر ماركت الكبير" محل "محل البقالة القديم" في إشارة إلى أنماط "الاستعراض السلعي" الذي تمارسه الرأسمالية الجديدة بما يؤثر على أنماط الاستهلاك وأشكال الحياة الاجتماعية، بما يجعل لهذا النمط من الاستعراض السلعي الرأسمالي المتجدد سطوة على الذوات مساهمًا في استلابهم ومفاقمة اغتراباتهم باستدراجهم المستمر وتوريطهم المستدام في هذا السباق الدائم للاستحواز السلعي المُصَاحَب بتطوُّر مستمر ومتسارع في أشكال الإلهاء الرأسمالي والجذب الاستعراضي لوسائل عرض السلع.
وفي مقابل انجذاب الذوات للتحول التقني والاجتماعي فإنّ البعض منهم يبدو مستمسكًا بأنماط قديمة للعيش، مصرًا عليها، كـ"الأسطى ربيع النجار" في قصة "سماعي" حيث "يشرب الأسطى قهوته المضبوطة التي يصنعها بنفسه على السبرتاية القديمة التي لم تعد تُباع الآن". (ص23)، فيبدو استمساك البعض بأساليب ووسائل حياتية قديمة شكلاً من أشكال مقاومة الزمن الذي يشعرون باغتراب ما فيه مفتقدين أزمنتهم القديمة التي يلامسونها أو بالأحرى يلامسون أطيافًا منهم باستعمالهم أشياءً من تلك الأزمان.
غير أنّ ثمة شكلاً من أشكال مقاومة الزمن يكون تمثيلاً للأصولية المتطرفة التي أخذت تهب رياح بداوتها على المجتمع المصري في أعقاب ارتماء شريحة من المصريين من الطبقى الوسطى والدنيا في أحضان الثقافة الآتية من بعض الدول النفطية التي سافر المصريون للعمل بها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وعادوا منها محملين بردة ثقافية، مثلما يبدو ذلك في قصة "فيديو قديم": في صمت تام تسلّم أوراقه وما كان يقوم بإيداعه في الأمانات من أموال، وسلمهم الملابس الخاصة بالسجن ووقع على أوراق الخروج. لأول مرة منذ 25 عامًا سيرى النور والشوارع والمدينة وأقاربه الذين لم يرهم منذ سنوات طوال... كان تكرر في ذهنه حكم محكمة الاستئناف "مشاركته في جماعة على خلاف القانون، والقيام بمهاجمة محال الفيديو بالخليفة، وترويع الآمنين وحرق محال عملهم وقتل بعض العاملين في محال بيع الفيديو"... كان يؤنب نفسه، فهو لم يكن يريد أن يقتل أحدًا، كل ما كان يرغب به هو حماية المجتمع من الرذيلة المتمثلة في المساخر التي يرونها في الفيديو... وصل إلى بيت العائلة في شارع الأشراف، وبينما هو في الطريق كان يشاهد الفسق والفجور المنتشر في كل مكان حوله، فقد انتشرت أطباق الدش في كل بيت وفي كل مقهى، كيف صار الفسق والفجور في كل مكان هكذا؟! ذلك الجهاز العجيب الذي جعل الفيديو بلا قيمة، فالناس تشاهد كل القنوات الفاسدة طوال الوقت، لو كانت نجحت هذه العمليات التي قام بها في ردع الناس لما اشترى مواطن واحد جهاز دش، لقد ضاعت سنوات الكفاح من أجل الدين هباءً، والناس في غيهم يعمهون ولا حول ولا قوة إلا بالله، كان يعرف من خلال المساجين الجدد أنّ الفيديو قد انتهى وقته، ولم يعد يشتريه أحد بل أُغلقت محال الفيديو في كل ربوع مصر، وهلل لذلك الانتصار، ولكنه عرف منهم قصة وجود اطباق البث، التي لم يكن يعرف أنّها انتشرت هكذا كالنار في الهشيم، أما ذلك الجهاز الغريب الذي حلّ محل التليفونات الأرضية فقد أصبح في كل يد، لقد ضاعت الدعوة إلى الأبد. (ص ص55-56).
تكشف هذه القصة عن ربع قرن من صراع القوى الراديكالية في مصر ضد المدنية والتحضر باسم حماية الدين والمجتمع من تفشي الرذيلة، فقص شريف عبد المجيد، على ما يحمله من طروحات للأيديولوجية فإنّه، في الوقت نفسه، يترسربل بالحكاية بما يحميه من التفاف الخطابية والمباشرة عليه.
لقد استحال هذا السجن الذي هو- في الأساس- سجن مكاني- سجنًا زمنيًّا، لذات أمست خارج الزمن، بتوهمها أنها تمثل الدين وتدافع عنه وتحميه والمجتمع من المساخر والرذيلة. كذلك، لا تخلو صياغات عبدالمجيد من مسحة سخرية ونزعة تهكم تتوارى خلف سرده لأحداث حكايته.
عالم السينما
في قص شريف عبدالمجيد حضور خاص لعالم السينما، ففي غير قصة وغير مجموعة لعبد المجيد تحضر "السينما" بعوالمها المدهشة للذوات بوصفها موضوعًا لدهشة الذوات وتأملهم واستمتاعهم بوجودهم، فيقول الصوت السارد في مقطع بعنوان "سينما الهلال (1)" من قصة بعنوان "سينما صيفي":
اليوم أكملت عامك التاسع وذهبت مع أخيك الكبير لترى فيلم الباطنية، ذلك الفيلم الذي حقق إيرادات خيالية وعرض بعد ذلك في وسط البلد بشبرا وبولاق، وحضرت عرضه الأول في سينما الهلال الصيفي، وكان يحضر العديد من أبناء الحي لمشاهدة ذلك الفيلم الذي كان بطولة نادية الجندي وفريد شوقي ومحمود ياسين والممثل الشاب أحمد زكي الذي أحببته جدًا، وكنت تعتبره بعد ذلك عندما كبرت ممثلك المفضل والمعبر عنك على الشاشة الكبيرة.... تتذكر الآن تلك الفترة بوضوح جلي، هل لأنك قاربت على الخمسين وصرت كهلاً لا يرى السينما أم لأنّ تلك الأيام لا يتذكرها أحد سوى أبناء جيلك. (ص ص37- 38).
تبدو في استعادة الذات لتاريخ قديم لعلاقتها بالسينما إنّما هي استعادة لزمن طفولي حميم، واسترداد للذات الأولى، ومما يتبدى من افتتاح النص بالظرف الزمني (اليوم) الذي من المفترض أن يشير إلى (الآنية)، في حين أنّه يشير لما يناهز أربعين سنة إلى الوراء، بأنّ ثمة نوعًا من التراكب الزمني الذي تقيمه الذات في وعيها عند استعادتها الذاكراتية لعلاقتها بفن السينما.
ومما يتبدى من هذه القصة وغير قصة في غير مجموعة لشريف عبد المجيد أنّ عالم السينما رُبما يُمثِّل عالمًا تتماهى فيه الذات مندمجة مع أبطاله ومنخرطة في صراعاتهم الوجودية، فيمسي عالم السينما بفاعليته التخييلية هو مجاز رمزي للوجود، ترى فيه الذات فلسفة الوجود.
دور الضمائر
رغم أنّ القص لدى شريف عبدالمجيد يعتمد- في الأغلب- على ضمير الغائب، الـ"هو"، الضمير السردي الثالث، لا سيما حينما يتموقع الصوت السارد متخذًا وضعية الراوي من الخلف، إلا أنّه ثمة تنوّع في استعمال ضمائر السرد لا سيما، ضمير المخاطب، الـ"أنت"، الضمير السردي الثاني، فيقول الصوت السارد في مقطع بعنوان "سينما الهلال (4)" من قصة بعنوان "سينما صيفي":
ها أنت تعود وقد شارفت على الخمسين، بعد أن تركت شارع الخليفة بعد تنكيس بيتك في زلزال 1992، ثم انهياره في عام 2000.
...تعود لتجلس هناك في مقهى السيدة جوار محل السوبيا القديم، تتذكر كيف كنت تقف لما يقرب من ساعة قبل الإفطار لتشتري من محل (سوبيا توتو) كوبين متتالين، وتتلفت حولك باحثًا عن سينما الهلال الصيفي لنجم أيام طفولتك فريد شوقي وغريمه الأبدي محمود المليجي، فلا تجد لها أثرًا سوى تلك الأرض المهجورة التي أجابك أحد العاملين بالمقهى أنّها ستتحول لمول متخصص في الملابس المستوردة من الصين. (ص44).
في هذه المجموعة لعبد المجيد التي يلوح فيها نزعة طللية إذ تبكي الذات أماكن أو بالأحرى زمكانات الصبا والطفولة المهجورة التي باتت طللاً دراسًا يحضر ضمير المخاطب، بوصفه ضميرًا لتعري الذات وانكشافها أمام نفسها، في انشطارها ووعيها التعس، ويمثل ضمير المخاطب- هنا- المسافة بين الذات الموضوعية والذات الفارة من آنيها وواقعها المحايث إلى ماضيها وزمكانات حداثتها وطفولتها الأولى في ارتداد نوستالجي.
شريف عبد المجيد .