فعل القراءة فعل لا نهائى، قرين القلق المعرفى، ديمومة تسلمك كل يوم إلى بداية جديدة كنت تظنها أمس مسلمة، انطلاقا من وجهة نظر كاتبها، واستحالت اليوم إلى سؤال بفضل ممارستك لهذا الفعل بشكل منتظم ومتنام، نعم فعل القراءة فعل متنام، مثل أى موهبة لدى الإنسان، تصقل بالممارسة، والممارسة، تتطور يوما بعد يوم، فعل القراءة فعل قادر بشكل مستمر أن يشعرك أنك إنسان حى ترزق التفكيروالحوار.
موضوعات مقترحة
أظن أننا فى حاجة ملحة إلى غرسه، ومتابعة نموه، بشكل يجمع بين الهمة والسعى الدؤوب، إيمانا منا بأهميته وإدراكًا لخطورة إهماله، ثم المتابعة المستمرة لنتائج هذا الغرس، لأن ما نشكو منه ومانحن عليه الآن، نحن شركاء فى صنعه بسبب إهمال أغلبنا غرس فعل القراءة فى نفس المتلقى على اختلاف شرائحه فى حوارنا معه، وفى كتاباتنا على تنوع فروعها وأشكالها.
أغلبنا يمارس فعل الكتابة من منطلق اليقين، يؤكد دوما على كل ما يكتبه، ولا يطرحه بوصفه وجهة نظر، أو تأويل، قد نقبله أو نرفضه أو نختلف مع بعض جوانبه، لأنه تلقى فى الأساس عن كتب تنتهج الفعل نفسه، اليقين فى الكتابة الناتج عن اليقين فى القراءة، كأننا جبلنا على الدخول فى دوائر لامتناهية من المسلمات، والأصل أن فعل القراءة محفز لكل قارئ على السؤال والتدبر والتأمل وإعادة النظر فى كل شىء، لا تكرارأحكام مسبقة تستهدف اصطفاف المزيد من القراء تحت سقف واحد، امتثالا لطاعة غرست وكرست من قديم.
فعل القراءة فعل يجعلك تقدر الكتابة التى تثير فيك التساؤل، تخلخل الثوابت التى اكتسبت قداستها بفعل الزمن فقط، لتتجلى عبقرية الإجابة فى قدرتها على عدم إغلاق دائرة السؤال، بل إثارتها لعدة أسئلة جديدة تدفعنا لمحاولات متنامية للفهم، فإغلاق دائرة السؤال أشبه ما يكون بذاك الخط المستقيم الذى يظهر فى رسم القلب، ويؤذن برحيل صاحبه، ولكن ومع كل ماسبق، يمكننا أن ننعش القلب ثانية إذا أكسبنا الإجابة حيوية إثارة سؤال جديد لندخل فى دوائر لامتناهية من الفكر والسؤال والقلق والحوار، لنعيد النظر فى أنفسنا وفى فهمنا، وفى علاقاتنا بكل شىء حولنا.
فالأسئلة لا تسكن بالإجابات، الإجابة مسكن قصير المفعول نبتلعه برغبتنا، لنلتقط أنفاسنا ثم نطرح أسئلة جديدة نناوئ فيها ثبات الحقيقة التى يسطرها من يظنون أنهم وضعوا نقطة فى آخر السطر، لنثير أسئلة جديدة تفتح لنا آفاقا أرحب للتفكير وللحوار.
والقراءة الحقيقية تبنى ولاتهدم، تعيدك للمدار لتكمل دورتك فى فلك السؤال ناعما بجنته، وجنته هى خلاياك الجديدة التى تنبئ بعالم جديد داخلك ينتج من تجدد خلاياك بشكل يتزامن مع تطور فعل القراءة، ذلك التطور سيدفعك بشكل خفى ومعلن إلى البحث عن مضمون جديد كلما زادت الكرنفالات حولك، سيرسخ مفهوم فعل القراءة وسيغرس داخلك وعيا يجعلك لا تحتفى بكل مايكتب، وستدرك فى الوقت نفسه أن أكثر إنسان جرأة على الظلم من لا يقرأ قراءة فاعلة.
نحن مأمورون بالتدبر والتأمل والاستبصار، وهذه المصادر قرينة إعادة الكشف النابع من الحوار المستمر مع ما نقرأ، ومن ثم علينا قبول الاختلاف النابع من تعدد مرجعيات كل قراءة، ثم محاولة الإفادة منها مناقشة وتطويرا، فعل القراءة لا يعترف بتكييل المدح أو حملات الهجوم والذم، فكل منهما يعتبره مؤشرا مهما وضروريا لإعادة القراءة والنظر من جديد فلا مسلمات فى آراء البشر.
فعل القراءة لا يعمل بمعزل عن تفعيل حواس تتضافر معه غرسا وتنمية، لا ينشأ منعزلا عن تذوقنا للفنون بشكل عام فالعلاقة بينهما طردية، وفى ظنى أن النفس السوية مجبولة على تفاعلها مع الفنون على اختلاف أشكالها، مستوعبة أنها مهما قرأت فما تعلمه أقل بكثير مما لاتعلمه، غير مكتفية بالتلقى بل مشاركة فى طرح السؤال بشكل جاد.
نحن مسئولون عن تقلص فعل القراءة فى عقول شرائح مختلفة، بداية من الكتابة الآمنة التى لاتحمل سؤالا، ومرورا بعدم تقبل الكتابة التى تحمل اسئلة، وانتهاء بمحاكمة من يسأل أو التركيز على تصنيفه أيدلوجيا، أو إرهابه حتى لا يسأل ثانية.
فعل القراءة يخلف وعيا متناميا، لا يغرس فجأة ولا تؤتى ثماره فجأة، هو فعل يسرى فينا حاملا التقسيم الثلاثى للزمن داخله، ماض وحاضر ومستقبل فى نسيج واحد، رغم تفعيل من يزعمون نشره لزمن واحد أو زمنين فقط بحثا عن الأمان والحماية، وأحيانا فرض الهيمنة، لكن طبيعة الغرس تفرض علينا أن نعمل وفق ثلاثة أزمنة، تهيئة لنتيجة نصبو إليها غير متعجلين رغم تأخرنا الشديد، لأننا نعالج آثارا لفعل أهمل على مدار طويل عاملناه بشكل استياتيكى ثابت مغاير لطبيعته، وهو فى شوق دائم للحركة الدينامية الحرة التى تشعره بحيوية وجوده على قيد الحياة.