الكتابة الإبداعية هي الكتابة التي تُسخرُ الإبداعَ الجمالي لرصدَ الواقع منفتحًا على اللحظة الراهنة بكل أمكنتها وأزمانها العابرة.
موضوعات مقترحة
نستكشف ذلك في سرد إبداعي مغاير للكاتب المصري محمد عطية في مجموعته القصصية "عيون بيضاء"، حيث يرصد لنا بعين لاقطة لوحاتٍ حية من الواقع، وهي ممزوجةٌ بأدبية شفيفة في كتابتها؛ فاللغة عند الكاتب، هي كشفٌ مخبوء لسلسلة من المفردات يظفر بها المبدع، ووسيلة للإيحاء والدقة الفائقة في الوصف، وليست أداة لنقل معان محددة، حيث ينهض الوصف أيضًا بمنح دلالات خاصة تنسحب على تيار الحكى العام، كاشفًا عن العلاقة التفاعلية بين المكان الموصوف، والكتلة السردية.
ينثال السرد بطريقة تقوم على التداعي الحر للمعاني في ذهن الكاتب السارد المهيمن على القص الذي يتلاعب بتلابيب الحكي، فيراقب ويفسر ويعلل، حيث يجعلنا في حالة دهشة مستمرة.
هذه النصوص السردية في تلك المجموعة القصصية نجدها مسكونة بالحيرة والدهشة، حيث احتوت المجموعة على تقنيات حداثية كطرائق الحكي، وانفتاحية النص، كما أنها حافلةٌ بالحدوس اللماحة التي تجتلي واقعها من زوايا وأبعاد تعطي الدليل على قوة الانسجام والتآلف بين الوعي المبصر والحس الإبداعي النابض لصاحبها وبحسب باشلار: "يوجد نمو كينونة في كل وعي لشيء ما"، لأنّ الوعيَ معاصرٌ لصيرورة نفسانية نشيطة. حيث تشي المجموعة بحضور وعيٍ متعاظمٍ يعقد القصّ ويجريه على أنين البوح عبر خيوط دقيقة واصلة بين أطياف الذاكرة، وهذيان اللحظة.
تتسع المجموعة القصصية لإحدى وعشرين قصة منها: "حياة، الباب المغلق، غفوة، ارتعاشات، بهجة المطر،غبار الروح..."، عبر ثلاثة عناوين رئيسة يضم كل عنوان عددًا من القصص "أحوال للروح، أحوال أخرى، طقوس الصباح" في 102 صفحة من القطع المتوسط.
نحن في تلك المجموعة القصصية أمام عالم مسكون بالتنوع والتجاور، والنظر المختلف للواقع والأشياء، وهو العالم الذي ينحاز إلى السرد السلس، وتداعي المعاني، والانتقالات الذكية.
يبدو الشارع حيزًا مكانيًا لمشاهد مختلفة في تلك المجموعة، مما أعطى حركية واضحة، وانثيالًا مكانيًا توازى مع الانثيالات السردية، والسير بالرحلة السردية إلى داخل الذات ودهاليزها الغامضة.
المجموعة القصصية مهمومة بملامح إنسانية يغوص فيها الكاتب عبر نزوع إنساني آسر، لكل ما يحيط به، بعين لاقطة مغرمة بالتفصيلات الدقيقة، حيث شكلت هذه الأجواء التي خبرها الكاتب جيدًا مهارة في اختلاس أدق المشاعر الإنسانية.
تبدأ بقصة "حياة" ص(8) التي تصور حالة الطفل الرضيع مع أمه الذي "انتفض ملتقطًا بيده حافة فتحة صدرها من خلف الطرحة وتعلق بها صارخًا "ماااا... ماااا" حينها شعرت بحنين دافئ يشق صدرها.. يندفع في ثدييها. ضمته إليهما؛ فاستكان..."".
لقطة إنسانية معبرة عن الحب النقي الفطري المرتوي من ثدي الأم لرضيعها وهكذا جبلت الإنسانية على الحب.
من قصة عيون بيضاء ص(14). "تركض المشاعر المقموعة على الوجوه.. تعود للتخفي تحت غلالات الانحناء والتدبر المقيت، فرك الأصابع، تكتيف الأذرع وضمها إلى الصدور والبطون، تعصيب الأدمغة بالأكف، ومراوحة النظرات عبر زجاج الدولاب، وخلف الستائر التي تحجب ممرات البيت الذي كان مرتعًا لعيونهن وأرجلهن، وأفواههن الناهضة بالتفحص، ومحاولات استجلاب الخبيء، ونحو باب البيت الذي ما زال موصدًا ينتظر الوجوه القادمة والأنباء، و........".
ثمة حالة من الحزن الموجع تسيطر على هذه القصة ملتقطة لأدق المشاعر والأحاسيس حيث يستعير الكاتب رؤيته للحدث من خلال العرض المكثّف لهذه الأمكنة المضغوطة (بالتفحص ومحاولات استجلاب الخبيء)، يقود إلى كشف الأثر النفسي السّلبي الذي تعكسه (المشاعر المقموعة، فرك الأصابع، تكتيف الأذرع تعصيب الأدمغة بالأكف، ومراوحة النظرات عبر زجاج الدولاب) وهو أثر معقود بواقع قهري ينوء بمعنى الاختناق وانسداد اللحظة الواقعية.
من قصة بهجة المطر(ص31) "لقاؤنا الذي كان بالصيف، ممهورًا بهياج أمواج البحر، بطعم انهمار المطر. أتعجب كيف كان الصيف القائظ، شتاء حين التقينا، ولامست أقدامنا الهائمة أديم كورنيش البحر الممتد، تتناثر علينا هبات أمواجه رذاذًا ينعش الروح، يغسلها بملحه الصافي مما اعترى الروح، ويطهرها تطهيرًا!! لماذا يدفعني البحر إليك؟!! فأهرع إليه لأسامره، فأجدني أسامرك أنت لا غيرك، ويزداد توحدي بك، دون العالم.. لماذا يتحول كل زمان بيننا إلى شتاء، وتتحول كل نقطة ماء فيه إلى مطر؟!!.. هل المطر يعيد صياغة الحكاية؟!!. أم أن المطر يرتب فصولها، ويواصل الإنبات والارتقاء والوصول، وتسليم الفصول فيما بيننا لبعضها، ليهب لنا بهجته..!!
ما أحلى لحظات الحب مع زخات المطر، حيث تنثال المشاعر وتتدفق الأحاسيس فلا نشعر بالعالم من حولنا، أهو الحب الذي يستعيد فيه الإنسان نفسه؟، أهو الحب الذي يلون الحياة بألوانه الزاهية؟ فمن منا لا يحتاج الحب؟ من منا لا يشتاق للحظة حب تهفو للمحب روحًا وجسدًا، وكان اختيار كورنيش البحر كحيز مكاني رحب يشهد نبتة الحب وتدفقها، كما تنثال أمواج البحر بصوتها الهادر.
من قصة "غبار الروح" ص(34) "تُرى هل تصلُح مكنستك الكهربائية الحديثة، المعتصمة أمامك بركن الحجرة، لكنس ما تكدس من تراكمات غبار سنينك الجديدة، أم أنها صارت جزءً محبطًا من منفى بعيد اختزلك هنا؟!! "
هذا النص المسكون بالحيرة يصبح فيه الحنين إلى الماضي هاجسًا لروح قلقة ومحفزًا لها في آن، وليس محض ذكرى عابرة، بل باعث متجدد على الألم، والغربة والتساؤل. كم تكون الحياة قاسية على المرأة حينما يغتالها عشق مزيف يحطم حياتها ! ويكسو ملامح وجهها بآهاته الموجعة.
وفي القصة نفسها (ص 38) "ترتعش يدك على الهاتف.. هل تريدين الآن سماع صوته؟ أم أن صمتك مازال يخذلك.. يوخز مكامن روحك المحتبسة في جسدك.. يبطئ سير أيامك السكرى.. تنخذل روحك.. أم تتألق؟.. تشتعل جذوة عشقك.. أم تخبو؟.. فالصوت الساري في صمتك القادم من أغوار هجرانك وانكسارك، لا يشبع فيك نهم الخروج من شرنقة صمت يجثم عليكِ وعلى كل الأشياء من حولك".
يظهر في تلك القصة استنكاه النفس وما يمر بها من اختلاجات إنسانية بصورة لافتة عبر المونولوج الداخلى المعبر عن آهات موجعة تؤجج في النفس مشاعر مختلطة "تنخذل روحك.. أم تتألق؟ تشتعل جذوة عشقك.. أم تخبو؟"، حيث لعب المونولوج دورًا هو الآخر في عملية التبطئ الزمني للحدث المحوري. ونهض بالغوص داخل الشخصية. كما وضح ما يدور في ذهن الشخصية، فنجده يشارك القارئ في الأحداث كما يعكس عدم استقرار نفسي ساعد على التسلسل القصصي للحدث استطاع الكاتب أن يوظفه بحرفية بالغة.
من قصة "ألوان الغياب" ص(42) "حين ألقت رأسها على صدره، لدى لقائهما الاستثنائي الأول على أرض اهتزت تحت أقدامهما، عصفت فيها رياح النشوة بكل ما عداها.. استنامت يداها في حضن يديه اللتين طوقتا خصرها الذي ما زال لدنًا طموحًا.. أمدته بخدر لم تعهده منذ فترة ضنَّت عليها فيها الحياة بمثله..".
قصة ألوان الغياب زخمة ثرية بعطش الحب؛ كثّف الكاتب تقنية من تقنيات تيار الوعي حيث نهضت عملية التداعي الحر للمعاني في ذهن الشخصية الرئيسة بالكشف عن مكنونها الداخلي وما يعتمل في ذاتها من مشاعر ضاغطة، حيث تتدفق الأفكار بصورة حرة في عقل السارد المحوري، كما تظهر الوقفات الوصفية والاستغراق فيها.
من قصة الباب المغلق ص(89).
"تتنهد البدينة، متلمظة على قطعة لبان تحتار في كتمان صوتها بين جنبات فمها، تفسح ما بين قدميها لتخرج من شنطتها الورقية (كتالوج) لأسعار مساحيق التجميل التي أُنتجت حديثًا.. تتناقل عيناها النظرات بين الـكتالوج، وبين النظرات المسددة نحوها.. ينفلت منها صوت طرقعة اللبان.. يجذب إليها كل الأنظار.. وتنظر نحو المصباح الأحمر المطفأ الذي يعتلي الباب.. وتسحب معها نظرات الجميع نحوه".
صورة المرأة اللعوب، وبخاصة في أماكن العمل، صورة مشوهة للمرأة المستهترة نجدها بشكل واضح في صورة امرأة لا يشغلها في العمل إلا مشاهدة كتالوجات مساحيق التجميل وهي تلوك بقطعة لبان في فمها تطرقعها بين وقت وآخر، لتلفت لها الأنظار غير مبالية، وهذه الصورة السلبية للمرأة لا تعدو إلا شذرًا قليلًا بجانب ما توجد من صور إيجابية للمرأة العربية وما تقوم به في شتى المجالات المجتمعية، فإبداعها وثقافتها وفكرها وجهدها وروحها أعطت للحياة طعمها ووجودها وسر خلودها وديمومتها.
وإلى ما يذهب إليه بول ريكور في أن "الخيال لا يكتمل إلا بالحياة، والحياة لا تُفهم إلا من خلال القصص التي نرويها عنها" فقد وجدنا كاتبًا يمنحنا سردًا نابضًا بالحياة.