Close ad

الشاعر محمد عيد إبراهيم في حواره لـ"بوابة الأهرام": لا يوجد آدم في الشعر.. ولا تهمني تهمة الغموض (2-2)

15-2-2018 | 20:46
الشاعر محمد عيد إبراهيم في حواره لـبوابة الأهرام لا يوجد آدم في الشعر ولا تهمني تهمة الغموض الشاعر محمد عيد إبراهيم
حوار: محمد حربي

* لا يوجد آدم في الشعر ولا تهمني تهمة الغموض

موضوعات مقترحة
* الشاعر صاحب المشروع الجمالي سيفوز في النهاية
* لكل شاعر قصيدة واحدة في حياته يكتبها بطرائق شتى
* في عيد النساج يلتقط الشاعر حصى الذاكرة ويكتب عن جيل السبعينيات مع رفضه للمجايلة لفكرة الأجيال


بريد عاجل إلى محمد عيد إبراهيم

يأْخُذُ الصبيُّ طينَةً بارِدَةً من النهرِ يَخْفِقُها قليلاً بِأَنامِلِهِ ويُشَكِّلُها بَشَرًا
ثُمَّ ينْفُخُ في الطينِ فيَصيرُ نَماذِجَ،
يعودُ إلى النهرِ ويُلْقى ما صَنَعَتْ يَداهُ ثم يُعيدُ الطينَ إلى سيرَتِهِ الأُولَى
ويَسْتَغْفِرُ اللَه والوطن
والعسس مختبئون في خواصِر القصائد مشغولون بإحصاء النّحيب
والجُثث الملوّنة

2
يَجْمَعُ الطفلُ حِفْنَةً من الرملِ ويَبْني بيتًا ويُسَمِّيهِ قصرا ثم يأتي بِجَرَّةِ ماءٍ يُسْقِطُه على القصرِ
ويُسَمِّيهِ مطرًا ثم يُزيحُ البيتَ والمطرَ،ويسمي ما يَبْقى وَطَناً ويَخنق خارطةً حتى لا تصرخ
فتخيف فراشات تعشقُ القراءةَ تحت الضوء

3
يجْمَعُ الطفلُ الفراشاتِ ويُحَنِّطُها لِيَصيرَ شاعرا يمْنَحُ الموْتَ لِلكائناتِ
في أوْراقِ الكُتُبِ فتأبى الكتب وتعانق ظلّ الموتى ، تمنحهم الخلود بين السطور الباهتة
وهو في اندهاشة صرخة الخلق ذاهلٌ عما جرى فقد انتشى وطار مُغمض العينين إلى حافّة النور
وعاد حافياً بحِفنة من رُطَب ونبوءةٍ لا تُفصح عن سرّها للعابرين.
فراشة تتهجى ظل الحروف عندما تنام الكتب في الهزيع الأخير

4
يجْمَعُ الطفلُ بِضْعَ حُروفٍ يَنْفُخُ في طينَهَا حتى تَحْتَرِقَ تمامًا
فتَصيرَ قصيدةً وتنتشي الطرق برذاذِ مطرٍ نسيَتْهُ الحرائق على كَتِف شجرةٍ وحيدةٍ
فتجتمع العناصرُ والفصولُ في يديْه العاريَتين وهو يضع الصّوف تحت خاصرة ذاكرةٍ
يقيها بردَ أطرافِ الكلام في شتاءٍ بليد والفراشات في دفئها تعيد صوغ الحكايات
كل ما تلمسه من سواد يصير نورا وهي تحترق

هكذا ندخل فضاء "عيد النساج" وهو يحترق كاستعارة للدأب دون انتظار الجائزة. فقد قدم محمد عيد إبراهيم حوالي ٥٠ كتابًا مترجمًا وأكثر من عشرة دواوين شعرية جرّب فيها أشكالًا وأنماطًا من الكتابة في قصيدة النثر التي أخلص لها منذ ديوانه الأول "طَوْر الوَحشة" الذي رصد تجربة السبعينات ومفاهيم السلطة والمقاومة، حتى آخر دواوينه "مجنون الصنم" الذي عاد إلى فكرة المقاومة بتيمات أكثر انفتاحًا وحداثة، بعدما اكتسب محمد عيد إبراهيم خلال رحلته الشعرية والثقافية تجربة متنوعة في التعاطي مع أشكال الكتابة الجديدة. ورغم كل هذا الإنتاج لا يزال محمد عيد إبراهيم مبعدًا ومثيرًا للجدل.

فالبعض يراه شاعرًا كبيرًا له تجربته الخاصة، والبعض يراه شاعرًا عاديًا ومعقدًا وصعب الفهم، وكذلك الأمر في الترجمة، حيث يثير إبراهيم أسئلة عن جدوى الترجمة التي تخلص لمشروع الحداثة وما بعدها في مصر. فقد قدم "منعطف الحداثة" لإيهاب حسن وقدم ترجمات لحداثيين من أمثال تيد هيوز وغيره. لكن عيد يظل مبعدًا أو بعيدًا عن دائرة الضوء.

في الجزء الثاني من الحوار، سنحاول الاقتراب من تجربة الحداثة في شعره عبر مجاولات قراءة ديواني "عيد النساج" الذي قدم فيه ما يشبه سرد السيرة الذاتية والشعرية لحياته، و"مجنون الصنم" الذي صدر منذ عام تقريبًا ولم ينتبه إليه كالعادة أحد.

أيها الشعر.. أيها الفرح المُختلَس


* في الوقت الذي قدمت فيه ترجمات عديدة للمكتبة خلال العامين الماضيين، قدمت ديوانين فقط هما "عيد النساج" و"مجنون الصنم"، هل صرت تهرب من الشعر أم أن الترجمة تستغرق المساحة المتاحة للكتابة؟


ـ لقد أصدرتُ ديواني "عيد النسّاج" في العام 2014، وأنهيت بعده ديوانًا آخر، وأنا عمومًا لستُ مكثرًا، فعلى مدار حياتي أكتب ديوانًا بمتوسط أربع أو خمس سنوات، المهم أن أكتب ما أريد، لا العدد. كما أن الترجمة تأتي من مصدر إبداعيّ آخر بعيد تمامًا، فأنت توظّف معارفك اللغوية والإبداعية في الترجمة التي قد تتخذ شكل القرار، ويمكن ممارستها يوميًا إن أحببت، لكن الشعر هبة أخرى، لا تتخذ شكل القرار ولا تستطيع أن تمارسها يوميًا، إلا من باب التخطيط لشيء ما قد يأتي وقد لا يأتي. ويمكن القول إن طرائق الإبداع عمومًا لا شأن لها بالمنتج الإبداعيّ، فلكلّ شيخ طريقة كما يُقال.

* من أطرف ما قيل عن "عيد النساج"، رغم قلة المكتوب عنه، إن محمد عيد ابراهيم يمكنه الكتابة مثلنا، أي أن الديوان بلغة البعض جاء واضحًا ومفهومًا على العكس من دواوينك السابقة، مثل "خضراء الله" وغيره من دواوين السيرة الشعرية مثل "قبر لينقض" و"بكاء بكعب خشن" و"الملاك الأحمر"، حيث تُقرأ غالبًا وتهمة الغموض جاهزة.

وإذا كنت تقبلها فهل لعب التأثر في بداية المشوار بتجربة المدرسة اللبنانية دورًا في هذا الغموض، أم أنه ابتعاد الذائقة عن الرائج في قصيدة النثر المصرية؟

ـ أنا عمومًا لا آنف من تهمة الغموض، فمنذ أول ديوان لي "طوْر الوَحشة" وبعده "قبر لينقضّ" وقد صدر ضدّي حكم بالإعدام الشعريّ، لغموضه، وإصراره على قصيدة النثر فقط، وكتابة القصيدة أحيانًا على نمط الفقرة (الباراجراف) وكان ذلك (1980) قبلما تنتشر وتشيع، فالوسط الأدبيّ انشرح قلبه لكلمة ساخرة من صديق قال عني "شعره هو إبطال الدلالة"، وراحت تتنقّل فيما بينهم بل وشجّعوها لقتل متّجهاتي الشعرية معنويًا وجسديًا، كما تفاخر أحدهم، وقد رحل منذ فترة، أنه بعدما قرأ ديواني ولم (يفهم) منه شيئًا شقّه نصفين ثم رماه من الشبّاك.

عمومًا، هذا ماض وانتهى، وأقوله الآن بلا مرارة مطلقًا، فمن ينظر يراني أكثر حضورًا شعريًا وثقافيًا من غيري، لقد واظبت على الكتابة رغم كلّ شيء، والدرس المهم هو أن نعوّل على الزمن في فرز الغثّ من السمين، ومن لديه مشروع جماليّ سيفوز في النهاية أكثر ممن لديه بضعة دواوين وحسب.

لا أنفي تأثري في البداية بمدرسة شعر، بخاصة أنسي الحاج وتوفيق صايغ وشوقي أبي شقرا، وهو أمر يحدث للجميع، ومن لا يتأثر لا يكتب شيئًا ذا قيمة، فكلنا نكتب في طروس فوق طروس، ونستفيد مما سبق لما سيلحق، فلا يوجد آدم في الشعر، مطلقًا، كلنا نكتب كما قيل قديمًا كأنه بأثر من (وضع الحافر على الحافر)، المهم كيف تكتب ولماذا وبأيّ نمط جماليّ إلخ، كما يهمّني أن أناقض السائد والرائج والشائع الذي كنتُ ولا أزال أنفر منه، بخاصة في تعاملي بأناقة مع اللغة، وسط الشكل ومناهضة المعنى المبسوط، فالانتهاك أهمّ أسس الكتابة عندي، جماليًا ومعرفيًا.

*في الديوان إشارات إلى جيل السبعينيات وما فعله في تطوير القصيدة المصرية. هل ترى أن جيل السبعينيات انتهى عمره الافتراضي مع الأجيال الأخرى، أم أنه قادر على تطوير قصيدته وتجاوز منطلقاته خاصة بعد رحيل حلمي سالم وتوقف أحمد طه وقلة إنتاج عبد المنعم رمضان وسيطرة الترجمة على نتاجك أنت وغيرك؟

ـ رحل عن عالمنا بعض مبدعي جيل السبعينيات، وتوقّف بعضهم عن الكتابة، إلا أنه قد مرّ زمان واضح يمكن التدليل من خلاله على وجود بعض السمات الجمالية المتوافقة بينهم أو حتى المتعارضة فيما بينهم، لكنها تصبح مسألة نقدية، لا تعني استمرار الجيل، فأنا أرى أن مسألة الأجيال قد انتفت، فهي تنشأ في البداية للتعاضد والمساندة والأُطر الجمالية المختلفة عن السابق عمومًا، ثم يتفرق كلّ منهم لتصبح له واحدية شعرية، هي التي يتم درسها بوضوح من خلال نصوصه، أما من يتوقّف أو يتراجع فهي مسائل فردية لا يُعوّل عليها في إطار درس جماليات الجيل ككلّ. وقد بذل ثلاثة على الأقلّ من جيل السبعينيات جهدًا بارزًا في مجال الترجمة، يؤخذ في الحسبان بدقّة، بعدما أنجز كلّ منهم عشرات الكتب، ولا يعني هذا هروبًا أو تخليًا عن الشعر، فكلّ نشاط إبداعيّ يمارسه المرء لا يأخذ من الآخر، بل يؤيده ويعززه ويرسي رواسيه، فكما قلت الترجمة تأتي من جهة باطنية معرفية مختلفة تمامًا عن جهة الإبداع الشخصيّ، فأنت حين تترجم تنقل ثقافة ما إلى ثقافة أخرى، وهي عملية إبداعية تحويلية يصبح بها النصّ المنقول في النهاية نصًا مشتركًا بين الأصل والصورة، وهو أمر عسير، على النقيض مما يظنّ الكثيرون.

مجنون للصنم

* يقول ريلكه: إن دَمي لَحَيٌّ، بالأصواتِ التي تُبلِغُني، إني مَجبولٌ من الحنين. ويقول معاوية: فأنا أطيرُ إذا وَقعتُم، وأقعُ إذا طِرتُم، ولو وافقَ طَيراني طيرانَكُم لسَقَطنا جَميعًا.

في هذا الاقتباس الذي قدمت به ديوانك الجديد "مجنون الصنم" ثمة التباس، فما العلاقة بين الشاعر الألماني والخليفة الأموي؟


- اقتباس ريلكه كان كخطاب (داخليّ) يعي ما أكتبه ومن أيّ منطلق أكتبه، ومن ثم جاء اقتباس معاوية كخطاب (خارجيّ) موجّه إلى الآخر كي يعي اختلافي معه، فأنا أطير لحظة وقوع الآخر وأقع لحظة يطير الآخر، مصداقاً لضرورة أن يختلف الشاعر عن غيره، لو ودّ أن يتغير عن سواه.

** الديوان كأنه أربع قصائد كبيرة تنقسم شكليا إلى قصائد قصيرة ومتفاوتة في الطول، لماذا استخدمت العناوين للقصائد القصيرة؟

الديوان أربعة أقسام متصلة ومنفصلة في الوقت نفسه، فهو يبدأ بقصائد ذكريات الجسد "مذكرات لا أحد" عن حالات وأشخاص وأفكار ومجازات، ثم قصائد ذكريات الغرام "مجنون الصنم" عن إحالات غرامية قد تتسع إلى مجازات وقد تضيق إلى علاقات لكن النسق كله عن غراميات ماتت أو في طريقها للزوال، ثم قصائد ذكريات الوطن "بلادي: لست بلادي" وهي عن حالات سُخط عام تصل حتى إلى مجاز نقيض يدّعي نكران البلاد بما فيها ومن فيها وقد يتمنى لها الزوال كقبر بعيد، أما القسم الأخير فهو عن ذكريات مستقبلية (أكلمكم من القبر) عن تصور مجازي لمآل الشخص وهل يندم أم يرضى، هل يستقبل نهايته في هدوء أو صخب، بمجاز كليّ شامل، عن أفكار ما بعد الموت، إن صحّ التعبير.


** كل هذه الاشكال في ديوان واحد

ثمة تنوع في طرائق الكتابة بين قصيدة الرسالة وقصيدة السرد وقصيدة البراجراف وقصيدة الومضة والإبيجرام، بل وثمة طيوف من الهايكو. لماذا تحشد كل هذه الأشكال في ديوان واحد؟ هل هي رسالة عبر شكل الكتاب عن طبيعة القصيدة الجديدة التي تستوعب أشكالًا كثيرة، أم هو استسلام فني لحَقّ القصيدة في أن ترسم شكلها شعوريًا وجماليًا؟


- الطرائق جاءت حسب الحالة الشعورية، إن كان ما يُسمّى ذلك عند الشاعر، كلّ قصيدة تكتب نفسها، وتشكّل شكلها، ولا يعرف الشاعر أصلًا شيئًا عنها حتى تكتمل بالنقطة الأخيرة، قد يهندس فيها شيئًا أو آخر، لكن فحواها ومبناها يظلان كما هما تقريبًا. لا أقصد أنها حالة جبرية، لكن لكلّ قصيدة إحالة أو إثارة استتبعتها أو أثارتها أصلًا، ولا دخل للشاعر إلا في بعض التنظيم والوعي ساعة الكتابة.

** الموت والفقد والعبث واللاجدوى قيم نفسية مسيطرة على روح معظم الديوان، هل هي مرحلة ما بعد استصفاء السيرة الذاتية التي كتبتها في عيد النساج أم هي أصداء السيرة الذاتية؟

- هذا الديوان يختلف في شكله وروحه كثيرًا عن ديوان "عيد النساج"، في طرائقه للوصول إلى القصيدة ثمة شيء مختلف، وروح مختلفة، وبناء فكريّ ونفسيّ وجماليّ متباين عما سبق، النجاح أو الإخفاق فيه متروك للقارئ والناقد، كلّ منا يكتب ما يستطيع، يكتب نفسه من دون زيف أو تزوير، لأن أقلّ زيف سيبدو لقيطًا، من هنا كان اقتباس ريلكه، صحيح أني لا أقصد ذلك بشكل رومانسيّ، لكن للتوكيد على ضرورة ألاّ يكتب المرء ما لا يعتقد أو يكون ضدّ نفسه.

* في الديوان قصيدة عن قتل الأم، وهذه من المرات النادرة التي أرى فيها شاعرا يقتل أمه وينتصر لأبيه - ليس على حسابها بالطبع ولكن ثمة انتصارًا للأب، كيف يمكن تفسير ذلك نفسيًا وجماليًا؟

القصيدة قد تكون رمزية، وهي في قسم "بلادي"، قد أكره في الأم ضعفها واستكانتها أمام الأبناء، وقد أكره في البلاد سكونها ورماديتها واستسلام أبنائها، فالقتل هنا رمزيّ نفسيّ أكثر مما هو تلميح للقتل العمد، وقد يكون فيها مقلوب فرويد أيضًا، لأسباب أراها ما بعد حداثية، تخصّ الانتهاك وغيره.

**
طيوف سيريالية

* ثمة أطياف سيريالية في الديوان، وتنكر كامل للمنطق الشعري، وثمة قصائد محكمة وكأنها حكمة، وثمة قصائد تستخدم المجاز وتبالغ في توظيفه، وثمة قصائد مشفاة من المجاز، هل يمثل الديوان رحلة وعي القصيدة بنفسها ووعي الشاعر بتجريب الطرائق، أم هي مرحلة استمرار الجوانب السوريالية التي كانت موجودة في دواوينك الأولى قبل النساج ولماذا يلجأ شاعر في العالم العربي إلى السيريالية؟


- لا أتعمد عمومًا أن أكتب عن طريق سورياليّ أو مناف للمنطق أو محكَم أو مجازيّ أو لا مجازيّ، كلّ جسد الشاعر فيه علامات تشقّ القصيدة دربها من خلاله، وكلنا نكتب قصيدة واحدة (تقريبًا) طيلة حياتنا، لكن بمظاهر شتّى، نكتب لأننا لم نقل كذا بالشكل كذا، ولم نصور كذا هكذا إلخ، نكتب لاستكمال نقصنا، ونقصنا هو ما يجعلنا نكتب من جديد، ولو اكتمل شاعر لمات في نقطة السطر الأخير، لا يوجد كمال إلا مع الله أو في الموت، لذلك نظلّ نجرب ونجرب فربما نتحقق أو نسعى لأن تتحقق القصيدة، وكله وهم قطعًا، لكن الشعر حَمّال الأوهام هو السَبّاق، من يصل إلى أرض الواقع سيسقط جثة هامدة بقصيدته الهامدة.

أما سؤالك الغريب: لماذا يلجأ شاعر عربيّ إلى السوريالية؟ فهو يحتاج كتابًا للردّ عليه، لكن ببساطة: السوريالية لم تعد اليوم منشأ غربيًا وطريقًا غريبًا، بل صارت من صميم كيان كلّ شاعر، في رأيي، فالتعامل مع اللغة هو أساس كلّ قصيدة، ويبدو جليًا هذا التعاون في السوريالية، بكلّ ما نعرفه عنها تراثيًا وأجنبيًا، حيث الأسلوب هو الشاعر، من لا يملك أسلوبًا عليه أن يبحث حتى يصل، وكما نرى التشابهات المريعة لدى كثير من الشعراء الجدد وتصل إلى حدّ المرض أحيانًا، فلا نرى فارقًا بين هذا وتلك، لا تعني إلا أنهم لم يصلوا إلى جوهر الشعر الحقّ، والذي لا يوجد إلا في التعامل بشكل مميز مع اللغة، ومن ينكر ذلك بزعم البساطة، أرد عليه إن البساطة أو التركيب في القصائد حالات عامة، يتحقق الشعر من خلالهما وخلال غيرها أيضًا، فلا يوجد شاعر بسيط فقط وغيره خارج الشعر، ولا يوجد شاعر مركّب فقط وغيره خارج الشعر، هي مسألة تراكيب وجدانية حسب تعامل كلّ شاعر مع ذكرياته وإرثه الثقافي والموسيقيّ والمعرفيّ والجماليّ.

بين التشبيه والاستعارة

* لماذا كثر اللجوء إلى التشبيه على حساب الاستعارة في الديوان وكأني بك تريد إثبات ما بعد حداثيته رغم أنه لا يحتاج إلى إثبات عن طريق الكاف التي ظهرت أكثر من أي حرف آخر في الديوان؟


- التشبيه من أهم تقنيات ما بعد الحداثة، عكس الاستعارة التي تعتبر من تقنيات الحداثة، فالتشبيه أبسط وسيلة للتخييل، بل تكاد تكون مباشرة، لكن لها جمالياتها طبعًا، سواء كانت مباشرة أو غامضة أو مركبة، أما الاستعارة فهي حلية جمالية تكاد تكون مركبة نوعًا عن التشبيه، وكانت شائعة أكثر لدى رواد الحداثة، لكن بشكل عام قد تمتزج هذه التقنيات في عالم الحداثة وما بعدها، ويعتمد ذلك على قدرة الشاعر في كيفية استعمال كل منها على حدة أو بمزيج منهما معًا. وعمومًا، هذه التقنيات تحتاج إلى قارئ ناقد يرى فيها ما يراه، حسب الحالة النفسية أو الجمالية للقصائد، ولكلّ قارئ أو ناقد مفهوم ودلالات مختلفة حسب رؤيته لتأويل كل قصيدة غير الآخر.

****
قصيدة: (أوشك أن يطير على السلالم)

شعر: محمد عيد إبراهيم

...

ليسَ غريبًا أن تُهدِّم مِعمارًا
متطاولًا، على ساكِنيهِ
قد بنيتَهُ على فتراتٍ وقمتَ بتطريزهِ من فَمكَ،
لمجرّدِ خطأٍ بسيطٍ في انحرافِ المجازِ
أدّى إلى قَطعِ المياهِ عن الصورةِ
وبثّ الإرسالِ عن غُرفِ الألفاظِ
وأيّ ربِّ بلاغةٍ كان على نيةِ أن يرى،
فليكنْ ـ
.
ظلّ يبني في ستةِ أيامٍ؛ يبني ويُهدِّم،
حتى دانَت له الدنيا،
إلى أن عَضّهُ الملِكُ بضَربةٍ في قلبهِ!

***

(موسيقَى، وخلِّصني)

...

رأيتهُ، بأمّ عيني، في الظلّ
شَبَحًا داميًا، قادمًا من
بعيدٍ، عليهِ غَبرةٌ، وفوقَ رأسهِ
وِشاحٌ كلّهُ أرقامٌ، معهُ
كلبٌ هزيلٌ كأنْ من باطنِ الأرضِ،
يظلُعُ، لكن في إثرهِ بالنزهةِ
الملعونة.

لحظةَ غضبي، وحولي
شُرَطةٌ كأرواحٍ شريرةٍ، سالَ
من السماءِ ترابٌ، وعجلاتٌ من حديدٍ
تئزُّ، كطابورِ حلَزونٍ، تُدَقدقُ في
الأرضِ، ثمةَ من نادَى، مئةً في المئة،
باسمي، وضِحكٌ خليعٌ بطرفِ امرأة،
ثم طبلٌ في عدّهُ العكسيّ؛ لكأنّي
… إلى بلادِ النسيان!

كلمات البحث
اقرأ ايضا: