5 مباني فقط هي كل ما تبقي من قرية (القرنة ) التي بناها المعماري الكبير حسن فتحي قبل أكثر 70 عاما، بعد انتظار الترميم لأكثر من عشر سنوات انتهت الآن بكارثة حقيقية تهدد بخروج القرية من قوائم التراث العالمي لليونسكو بعدما دخل الطوب الأحمر والأسمنت في قلب عمارة الطين متحديا فلسفة وفكر مهندس الفقراء وضاربا عرض الحائط بكل قواعد الترميم المتعارف عليها .
موضوعات مقترحة
تلاميذ المعماري العظيم حسن فتحي أدركوا أن كارثة ما تحدث بالقرية، وتحركوا سريعا ليصدر قرار بإيقاف أعمال الترميم الخاطئ, ورغم أن قرار الإيقاف صدر من المسئولين واليونسكو بعد أقل من شهر من بداية الترميم إلا أن جزءا مهما من التراث قد طمست معالمه.
ما الذي حدث في "قرنة حسن فتحي" وما الذي سيحدث لو تم تجميد الوضع مرة أخري هذا ما كشفته (بوابة الأهرام (
في أكتوبر من عام 2010 وبعد حوالي 20 عاما من أخر ترميم لقرية القرنة قام به المعماري حسن فتحي, تم عقد مؤتمر دولي بالأقصر تحت عنوان (إحياء قرية حسن فتحي ) شارك فيه أكثر من 40 عالما وخبيرا دوليا في مجال العمارة بدعوة من منظمه اليونسكو، وكان على رأس المؤتمر (فرانسيسكو بندرين) رئيس مركز التراث العالمي ونائب رئيس المنظمة الذي قال وقتها "إن إحياء تراث حسن فتحي يعد حلما، ونحن بصدد أن نجعله حقيقة فهو ليس مجرد مهندس وفنان عالمي فقط، بل هو إنسان اهتم بالفقراء وبني لهم منازل صحية ومنخفضة التكلفة، وسوف نقوم بترميم القرية وتطويرها بما يتناسب والتراث الموجود فيها ".
بيت المعماري حسن فتحي
وبعد جدال وتعطل وتراجع استمر حوالي 8 سنوات بدأ اتخاذ الخطوات الرئيسية للترميم, بعد أن اندثرت بيوت القرية السبعون بما فيهم بيت حسن فتحي نفسه الذي سقط أكثر من نصفه ,ولم يتبق سوي أربعة مباني أخري وهي المسجد والسوق والمسرح وورش الحرف الفنية .لكن ما أن بدأ مشروع الترميم في ديسمبر 2016 ومع بداية التنفيذ تحول الحلم لكابوس وجاء قرار الإيقاف الفوري له .. بعد أن ظهر الطوب الأحمر وكتل الأسمنت.
المهندس عصام صفي الدين أحد تلاميذ الراحل حسن فتحي، وأحد رعاة مدرسته في البناء كان علي رأس من تحركوا سريعا للمطالبة بإيقاف ما يحدث في قرية حسن فتحي من عمليات ترميم يراها تقتل فلسفة البناء التي قامت عليها مدرسة حسن فتحي.
المهندس حسن فتحي
يقول المهندس صفي الدين:" فلسفة حسن فتحي في البناء كانت تقوم علي استخدام الخامات الموجودة في الطبيعة والقريبة من مكان البناء, ليكون بأقل تكلفة ممكنة وبأفضل خامات طبيعية يمكن استخدامها ,, وعلي هذا الأساس أقام مدرسته المعمارية التي اعترف بها العالم كله والتي وضعت القرنة التي بدأ بناءها في منتصف الأربعينات ضمن مناطق التراث العالمي".
وتابع "ما اكتشفنا حدوثه مؤخرا في عملية الترميم يهدم هذه الفلسفة من الأساس كيف يمكن أن استخدم الطوب الأحمر والاسمنت في ترميم جدار أو مبني بالطوب اللبن, بالإضافة إلى أن عملية الترميم لم تكتف بالبناء بتلك المواد التي رفضها حسن فتحي تماما بل اعتمدت بناء حوائط جديدة لتدعم الحوائط القائمة وبالتالي فنحن نغير تماما في الطريقة الإنشائية التي استخدمها حسن فتحي".
وأشار إلى أن من سيرى البناء الجديد لن يصدق أن حسن فتحي يمكن أن يستخدم أكتاف وأعمدة بكل هذا العرض , ما حدث في سوق القرية وهو الجزء الذي بدأ به الترميم الكارثي تشويه كامل لقرية حسن فتحي ولفلسفته في البناء, كما أنه سيؤدي لاختفاء هذا التراث تماما، فأبسط قواعد الترميم هو ألا ترمم مبني بمادة أقوي منه لأن المادة الأصلية للبناء ستتآكل وتسقط وتظل المادة الجديدة وبالتالي فما سيقي هو التقليد وليس الأصل.
المهندس حسن فتحي
وأضاف "كان لابد أن ندرك أن ترميم مباني حسن فتحي يحتاج لمن يفهم ولمن درس عمارة حسن فتحي، ولمن لديه تخصص حقيقي في البناء بالطين، وهؤلاء موجودون في مصر وخارجها فترميم مباني كهذه يحتاج مدرسة خاصة في الترميم والبناء وليس مجرد مهندس أو استشاري مهما كان عظيما في تخصصه "
استشاري اليونسكو ينفي علاقته بالكارثة
الصور التي حصلنا عليها من قرية (القرنة )عما حدث من عمليات ترميم بالطوب الأحمر والأسمنت كانت بالفعل صادمة, وعلي الرغم من أنها تم إخفاءها فيما بعد بوضع دهانات بيضاء ثم استكمال جزء علوي باستخدام طوب من الطين إلا أن هذا لم يخف الكارثة.
سألت المهندس الاستشاري طارق المري، الذي يفترض أنه المسئول عن مشروع الترميم باعتباره الاستشاري الذي رشحته اليونسكو للقيام بالعمل في ديسمبر 2016، إلا أن المفاجأة كانت نفيه أي علاقة له بما حدث في (القرنة ).
قال المري لـ"بوابة الأهرام ":كان يفترض فعلا أن أقوم بعملية الترميم، وخاصة أني بدأت العمل علي المشروع قبل أن يتم إقراره رسميا بسنوات، وكانت المشكلة في البداية توفير الاعتماد المالية اللازمة وهو ما حدث أواخر عام 2016 عبر صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة علي أن تكون العملية برمتها تحت إشراف اليونسكو باعتبار أن القرية تقع ضمن قائمة التراث العالمي".
القرنة الآن
وأضاف "بالفعل توليت الأمر في البداية وقمنا بعمل توثيق للمباني التي سيتم ترميمها وهي خمس مباني فقط كل ما تبقي من القرية, وكان جزءًا من أهداف المشروع بالإضافة للترميم وإحياء الأنشطة تشغيل أهالي القرية لتوفير فرص عمل والاستفادة من خبرتهم في هذا المجال وهو ما فعله حسن فتحي تماما عندما بني القرنة قبل ما يزيد عن 70 عامًا, وقتها كان معي أحد أهم الخبراء الجزائريين في مجال صناعة الطوب من الطين، وانتدبه اليونسكو لمساعدتنا علي اعتبار أن الترميم لابد أن يتم من نفس خامة البناء وهي قاعدة علمية معروفة تماما لدي المرممين, فالهدف ليس فقط الحفاظ علي المباني بل الحفاظ عليها في إطار نفس الطراز وطريقة البناء وإلا فقدت قيمتها التراثية وفلسفة بنائها.
وتابع "وقتها نفذنا عملية صلب مؤقت لقبة بيت حسن فتحي حيث كانت مهددة بالانهيار ونفذنا المقايسات الخاصة بعمليات صلب باقي المباني لضمان عدم سقوط أي منها أثناء عملية الترميم وظللنا علي هذا الوضع حتى نهاية عام 2016, في انتظار أن تقدم وزارة الثقافة الميزانية اللازمة لبدء عمليات الترميم , وسرعان ما بدأت الخلافات تظهر وخاصة مع تدخل بعض الأفراد ومطالبتهم بهدم المباني أصلا وإعادة بناءها لصعوبة ترميمها وهو الآمر الذي رفضه اليونسكو تماما وهددوا بالانسحاب لو تم تنفيذه لأنه بمثابة قضاء علي القرية وتراثها بالكامل ومع تعاقب الانهيارات الجزئية في تلك المباني كان لابد أن تبدأ عملية الترميم بشكل فوري وللأسف بمجرد أن وصلت الاعتمادات اللازمة".
خان الحرف اليدوية
واستطرد "بعد أن انتهيت تماما من عمليات استكشاف التربة والتي أدهشني فيها أن أساسات المباني بحالة جيدة جدا ولا يوجد بها أي مشاكل كما كان يشاع فوجئت بظهور اسم جديد وهو المهندس طارق والي الذي تم ترشيحه من قبل محافظ القاهرة وجهاز التنسيق الحضاري ليتولي عملية الترميم معي باعتباري أمثل اليونسكو، وهو يمثل الجانب الحكومي، وهو أمر لم اعترض عليه إجرائيًا رغم أن تلك الصيغة لم تكن مطروحة أصلا, ولكن ما اعترضت عليه أن عملية ترميم بيوت الطين خارج تخصصه أصلاً فهو مهندس معماري ولا علاقة له بمجال الترميم".
ويستكمل "بدأت بعدها محاولات استبعادي والحمد لله أنه وضع يافطة علي المكان تحدد مسؤوليته عما يحدث حيث أنني انسحبت تماما من المشروع قبل ستة أشهر حتى فوجئت بما يحدث من حفر للأساسات ووضع خرسانة وبناء بالطوب الحمر والاسمنت بل وباستخدام حوائط داعمة للحوائط الأصلية مما شوه طراز البناء وقضي علي فلسفة حسن فتحي وربما يهدد برفع القرية أو ما تبقي من مبانيها من قائمة التراث العالمي ".
الترميم الخاطئ للقرنة
انتهي كلام طارق المري ولكن بقي تحذير أخير فيما يتعلق بالموقف الآن حيث أكد أن المسرح وهو أحد أهم معالم القرية وتحديدًا واجهته في حالة يُرثي لها وكانت هي الأولي أن يبدأ بها الترميم حيث قال إنه يتوقع أن تسقط في أي لحظة .
لجنة المعماريين ترفض الترميم الأسمنتي
رد فعل المعماريين وتحديدا المهتمين بالترميم وبتراث حسن فتحي وعلي رأسها شعبة المعماريين بنقابة المهندسين وجمعية المعماريين المصريين وبمجرد أن تسربت صور وأخبار عملية الترميم الكارثية في بداية يناير الماضي تحركت وخاطبت المهندس محمد أبو سعدة رئيس جهاز التنسيق الحضاري والتقت به لمناقشته حول ما يحدث ونتائجه.
وقرر رئيس الجهاز تشكيل لجنة استشارية من 9 مختصين علي رأسهم المهندس هادي حسني مدير المكتب الفني للجهاز، ودكتور خالد العادي أستاذ التخطيط العمراني، والمهندس ماجد سامي رئيس شعبة المعماريين بنقابة المهندسين، والمهندس سيف أبو النجا رئيس جمعية المعماريين المصريين، والمهندس الاستشاري حمدي ألسطوحي، ودكتور علاء الحبشي أستاذ الترميم بجامعة الزقازيق .. في نفس الوقت الذي بدأ فيه الكلام عن أخطاء الترميم تلك تحرك المهندس المسئول عن الترميم بسرعة دهان حوائط الطوب الأحمر والأسمنت التي كان قد تم الانتهاء منها فعليا وبدأ في أنشاء أحواض لصناعة الطوب الطيني الذي كان يفترض أن تتم به العملية برمتها.
استخدام الطوب الأحمر للترميم
وطالب المهندس محمد أبو سعده - حسب كلام أحد أعضاء اللجنة- من الأعضاء كتابة تقرير مفصل عن رؤيتهم ومطالبهم لليونسكو فيما يتعلق بإعادة عمل دراسات علمية وبحثية مطلوب تنفيذها ليتحدد بناء عليها منهجية الترميم بعد أن تأكد أن ما يحدث خاطئ تمامًا منهجًا وأسلوبًا علي حد قوله وعندما وصل الخطاب لليونسكو كما قال لنا طالبت اليونسكو جهاز التنسيق الحضاري بإيقاف أي أعمال ترميم داخل القرية .
طوب أحمر وأسمنت في ترميم القرنة
إيقاف الأعمال
وكما قال لنا مهندس محمد أبو سعدة وقف الأعمال هو قرار مؤقت لحين الانتهاء من الدراسات، مضيفًا أن الوقف بناء علي قرار شخصي منه لحين الانتهاء من الدراسات المطلوبة فيما يتعلق بطبيعة الخامات المستخدمة والمياه الجوفية وتأثيرها وكما قال " طالبنا من اليونسكو أن يكلفوا مركز بحوث الدراسات بكلية الهندسة بدراسة المكان وطبيعته لتحديد الإستراتيجية التي سنبدأ العمل عليها .
وقد فضلنا الانتظار لحين الانتهاء من هذا حتى لا نندفع في عمل قد يراه البعض مخالف لقواعد الترميم أو لا يتفق مع روح البناء وطبيعته .. وبشكل عام هناك أراء متعددة ومختلفة ولابد أن نصل للرأي الأفضل للحفاظ علي ما تبقي من القرنة وكذلك تتفق مع فكر اليونسكو الذي يحدد في النهاية ما يتفق مع الحفاظ علي المكان طبقا لقواعد حماية التراث العالمي.