Close ad

الشاعر محمد عيد إبراهيم في حواره لـ"بوابة الأهرام": الطريق أهم من الوصول (1-2)

11-2-2018 | 16:37
الشاعر محمد عيد إبراهيم في حواره لـبوابة الأهرام الطريق أهم من الوصول  الشاعر محمد عيد إبراهيم
حوار - محمد حربي

 *الشاعر ضمير أبيض وعليه أن يكون يساريًا بعيدا عن الأحزاب.

موضوعات مقترحة

 *أطير عند وقوع الآخر وأقع عندما يطير وبقيت دائما في يسار حركة السبعينات.

 * كان صلاح عبد الصبور في القلب لكنني احببت أنسي الحاج لأنه غير عندي مفهوم اللغة.

 *أقف ضد أي سلطة تضطهد خيالي في الشعر والحياة.

* لا يهمني أين يضعني النقاد في المتن أم في الهامش، المهم ان اكون نفسي
.

"طينة رحبة تُسامح الحصى
ثم تتوكأ على الحواريين في الطواف:
أنسي الحاج وهو يرصد ماضي الأيام التالية
الماغوط فارطًا لغة على أرصفة الكلام ولوركا ورامبو
وبورخيس اللعين لم يغب عن حفل الشواء
صلاح فائق جندي يرابط في تخوم الخيال
كي لا تخطفه غيمة إلى ما لا يريد
وحتى باتاي الرجيم يسنده إلى جدار، كي لا يقع على ظل
نائم عند حافة المقهى وهو يترجم معوذة في حضرة العواء
وترنيمة بإيقاع المقامرة ورعشة الجنون"
....
"
طينة رحبة ترقب الفراغ الذي يمر في طوابير تذهب إلى حتفها
تبتسم للنادل برضا يليق بأنبياء الصمت في شجرة الغواية المقدسة
وظل اللعنة المؤجلة ليوم الغضب
دخان نارجيلة سَكرى
تنصت للموسيقى في كل شيء
حتى تخلص الإيقاع من المخاتلة
وتصفي القصيدة من شوائب المجاز
فلا يبقى في البحر ملح كاذب يصطاد نهرًا في الخواتيم"
....
"
طينة رحبة تغسل يديها كمن يهم بالوضوء لصلاة الحقيقة
لترضى القصيدة بملامسة الذاكرة وتنسج علمًا
ذاكرة لأب يغزل وطنًا من غبار الطرق بجوار القطارات المسرعة
ويعلم الصغار عفة القلب وهو يعبر الحقيقة عاريًا بلا رصيد
ثم تعلن القصيدة "عيدًا للنساج" أو ترنيمة لـ"مجنون الصنم"
فادخلوها قارئين"
..

هكذا يمكن أن أدخل بقصيدتي  فضاء المبدع المصري محمد عيد إبراهيم وتطوحات الشاعر عنده بين "قبر لينقضّ" في السبعينيات، و"مجنون الصنم" في العشرية الثانية من الألفية الثالثة.

وهكذا يمكن أن نفهم صيرورة الكتابة بين الإبداع الشعري وترجمة الإبداع العالمي، على مدى أربعين عامًا، أرهقت الجسد حتى اشتكى مؤخرًا بآلام العظام التي وهنت، والشَّعر الذي اشتعل شيبًا، والشِعر الذي اشتعل رفضًا وحكمة، والقلب الذي كاد يتوقف عن النبض بعدما ضاقت الشرايين عن استيعاب لحظة مخاتلة تمر بها القصيدة والبلاد العربية.

في هذا الحوار تحية لأربعين عامًا من الإبداع ووقفة مع الجسد الذي يشتكي والقلب الذي يعاود صحوه على إيقاع صنم غريب، يجر مجنونًا ودرويشًا إلى قصيدة مغايرة.

* في البدء كانت القصيدة وهمًا، ثم جالت خاطرًا، ثم أدركها نشيش الاختمار، فصارت "قبرًا لينقض" أو "طيورًا للوحشة" في زغب الكلام..
يصعُب أن أتذكّر كيف كانت البداية. فهي مجموعة إشارات دلّتني إلى طريق، قد سرتُ فيه، ولا أزال، ولا أعرف المستقرّ كيف ولا النهاية. كنتُ أذهب وأنا طفل صغير إلى مكتبة عامة في منطقة (دير الملاك) بالقاهرة، قُرب بيت عائلتي القديم، ومن هناك، بدلًا من اللعب مع أقراني، اكتفيت بالوحدة مع الكتب في تلك المكتبة، قبلما أبدأ اقتناء الكتب.

 - لكن ثمة كتابة أولى.. تخطيط أولي – شخبطة بطبشور الروح إن صح التعبير؟
 - أذكر بين أولى محاولاتي ما كتبتُ عن الناشطة الزنجية الأمريكية، آنجيلا دافيس، زعيمة الحزب الشيوعيّ، التي اعتُقلت لنشاطها ضدّ التمييز العنصريّ في الستينيات من القرن الماضي ، وكذلك عن أول رجل صعد إلى القمر، فلم يكن والدي - رحمه الله- يصدّق هذه الحكاية. لا أذكر أني يومًا أردتُ شيئًا من الشعر، مجرد رغبة في الكتابة تضغط عليّ، فأقوم بتفريغها كبداياتي مع الحبّ.

لكني عمومًا كنتُ - ولا أزال- ضدّ أيّة سلطة تضطهد خيالي، حتى ولو في الشعر، فعلى كلّ مثقف أن يناهض السلطة، يكتب وفي خياله (اليسار) منها دائمًا، ا)ليسار) بمعناه الواسع لا السياسيّ المباشر. وقد عانيتُ جرّاء ذلك كثيرًا، فقد كنتُ أكتب بشكل مُغاير نسبيًا لجيلي، وهناك سخرية مما أُنشئ من نصوص، لكن دار الزمن بنا وبقصائدنا إلى أن صار ما أكتبه هو المتن، وصار غيره هامشًا، وهي دورة الزمن التي لا يأمنها أحد.

تعرّفت إلى الرومانسيين وأبغضتُهم، ثم الرمزيين وأحببتُهم، من ثم اتجهت إلى السورياليين واقتديتُ بهم. وكان صلاح عبد الصبور هو الرأس في أيامي الأولى، وفي ظلّه حجازي، ولم يفتنّي استعمالهما مع غيرهما للّغة، ثم وقعت في غرام (مدرسة شعر) التي اقتديت منها بالتمرّد العالي والتأنق في اللغة والرؤية الفوضوية للعالم، مع أني استفدت كثيرًا من: الرافعي، طه حسين، الجاحظ، النفّري، أدونيس، عفيفي مطر، لكني أحببتُ أُنسي الحاج، فهو الذي غيّر عندي، ضمن عوامل أخرى كثيرة، مفهوم اللغة إلى النقيض تقريبًا، وهو ما كنتُ مستعدًا له من البداية.

 - لكنك تنكرت لبداياتك في أسلوب الكتابة وصرت تجرب أكثر مما تستقر على نمط؟
بمرور الوقت، نكبر فجأة، ولا يرضينا ما كنا نكتبه قديمًا، فلا تعود تقنياتي سابقًا من أساسياتي لاحقًا: حذف حروف الجرّ والعطف وقطع السياق، وترك الكثير للقارئ خارج القصيدة، وكلّ امرئ يتغيّر ويُبدّل جلده مثل الحيّة بين كلّ حين وآخر، مع أن العمود الفقريّ للشعر يظلّ واحدًا تقريبًا، لكن اللّباس مختلف.

 - وأين يمضي بك الحال بعد ستين من العمر ولّت وأربعين عامًا في بلاط القصيدة؟
لا أظنني سأعرف المآل حتى أضع آخر نقطة في حياتي، هناك وعي قطعًا بما أفعل في القصيدة، لكنك لا تعرف أين يودي بك دائمًا، وإن عرفت فقد تتوقّف، لكن المجهول يظلّ أمامي فلاةً واسعةً مما يجعلني أكتب، ثم أنقّح في كلّ جديد ما كتبت سابقًا، وهكذا. ولم يحدث أن توقّفت في حياتي عن كتابة الشعر، لكني مقلّ بشكل عام، أنتج ديوانًا كل أربع أو خمس سنوات، لكن فترة التوقّف بين كل ديوان وآخر لا تعني التخلّي أو الهجر، بل التجهّز لما أبحث والاستعداد لما أريد.

يجب على الشاعر، في ظني، أن يقرأ أكثر مما يكتب، ويبحث أكثر مما يجد، ويظلّ يسأل ليرى ويستوعب أكثر، فالشعر لن يعطيك إلا كلّما أجهدت نفسك في طلبه، بالقراءة والوعي والخبرة والتجربة، وفوق ذلك وتحته وأمامه وخلفه التجريب، التجريب دائمًا كالجثّة النازفة، أن تسمع نبضها عبر شرايين روحك وهي تنطلق بين شفتيك الحارقتين.

 - بين المركز والأطراف ثمة صراع خفي ومعلن في آن، وأنت ابن هامش جغرافي من حيث النشأة والميلاد لأب من ضواحي القاهرة وقد اخترت هامشًا في المتن الشعري هو قصيدة النثر، واخترت في متن النثر هامشًا هو المدرسة اللبنانية وبخاصة أنسي الحاج، فما علاقتكم بالمركز شعريًا واجتماعيًا.. كيف جزت المسافة وعبرت الجسر؟
ـ ربما كان لنشأتي دور في هذا، فلم يكن أبي - رحمه الله- متعلّمًا ولا كذلك والدتي، وقد نحَتُّ مكانًا كمن يحفر في صخر بركانيّ، بجهد بالغ، وحاولتُ أن أتميّز في شيء، فنحّيتُ نفسي جانبًا عن مسير القطيع، واخترتُ لغةً عصية في نوع من التحدّي، أما إعجابي في البداية بلغة مدرسة شعر، فهو لأنَفَتي من اللغة البسيطة العاجزة، حيث آمنتُ ولا أزال أن للغة العربية مجالات واسعة ضيّعناها ونواصل، وكلّ شاعر يختار في البداية ما يروق لذائقته، فقراءاتي المتعددة في كلّ شيء تقريبًا ودرسي للغة القرآن وللشعر ما يُسمّى الجاهليّ جعل مني هاضمًا لمفردات أكبر وقاموس أوسع، وكنتُ أحلم أحيانًا بمفردات معينة تستلهمني قصائد، وهي فكرة ربما تكون متطرّفة، لكنها أفادتني في تكوين العملية الشعرية، وكيف أطوّر نفسي يومًا بعد يوم.

 
مسألة أن قصيدة النثر تحوّلت إلى المتن، ولم أتحوّل أنا، فهي دور النقّاد لا دور الشاعر، أيّ شاعر، فهناك تضامنات معينة بين مجموعات أدبية تسعى للتركيز على منتج بعضهم دون الآخر، وربما كان سيئًا أني لم أسع لمثل هذه الترابطات، لكني في النهاية أنقذت نفسي من التزوير، وصرتُ نفسي كليًا، لا يهمّ أنهم وضعوني هنا أو هناك، لكني سعيتُ وقطعًا لي ذات شعرية سيعترفون بها عاجلًا أو آجلًا. ولا أظنّ أن التاريخ الأدبيّ في مصر يستطيع أن يتجاهلني، لما قدّمت له، شعريًا أو عبر الترجمة، من مشروعي الجماليّ، وكما يقول المتصوّفة: المهم هو الطريق، لا الوصول.

 - لم تذكر ماعانيته مع الشعر والنشر في السبعينيات من القرن الماضي.. هل يمكن أن نعود إلى تلك الحقبة ونقارنها بما يحدث الآن؟
كنّا في جيل السبعينيات أيام حكم السادات من دون منابر ثقافية، فرحنا نصدر مطبوعاتنا بأيدينا، وبرزت ظاهرة "الماستر"، لم تكن هناك آلات نسخ ولا كمبيوتر ولا إنترنت، ولا مجلاّت ولا صحف ترضى بنصوصنا، وكنا ننسخ دواوين الكبار التي لا نستطيع شراءها ونتبادلها بيننا فحاولنا إيصال ما نكتب بوسائل بدائية مستعصية الآن، لكنها كانت زادنا، وأنجزنا بها شيئًا لنا وللشعر في مصر تلك الفترة.

لكن الزمن تغيّر، فلم تعد تلك الوسائل القديمة مجدية، بل صار النشر سهلًا إلى حدّ الابتذال أحيانًا، فاختلط الحابل بالنابل، وصار الشعر على الأرصفة، بعضه جيد وكثير منه غثّ. وزاد الوحل نشر الخواطر على أنها شعر، من غير خبرة ولا قراءة ولا وعي لا بالتراث ولا غيره، وعليك أن تفتّش في القشّ لتبحث عن إبرة ولو صدئة. كنتُ دائمًا على يسار جيل السبعينيات، أسعى بقدر إلى التمايز عنهم، وسواءً نجحت أو أخفقت لا تعنيني، المهم أني أرضيت ذائقتي الجمالية بما أريد، جماعة (أصوات) كانت تسعى لأن تتخفّف من القيم التراثية في الشعر أكثر من جماعة (إضاءة)، لكن هذا المسعى توفّق عند بعضهم، وأخفق عند آخرين، والعجيب أنهم في النهاية قد كفّ البعض عن اللحاق بالجديد في الشعر ولم يعد يواكب، بينما واصل البعض في محاولة منهم لخلق ذات إبداعية تعاصر الزمن، والزمن مفرمة لكلّ تقليد إبداعيّ، إن لم تنتبه، فقد تصبح كمن جاء إلى العُرس وجلبابه متّسخ وبنعل مهترئ، أو كمن جاء بعدما أنجبت العروس أو ماتت.

- كيف تدخل أرض القصيدة وبأي هجرة تبتدىء؟
يكتب الشاعر ليقول شيئًا، بل ويشمّه يتحسّسه ويتذوّقه قبل أن يكتمل، كلّ امرئ مجبول على مجموعة أفكار أو رؤى أو أحلام وذكريات ومشاهد وأفراح وأتراح وغيرها مما يسمع ويرى ويشمّ، تحرّكه وتثير فيه أن يكتب، فقصيدة النثر اليوم لا تعتمد كثيرًا على خبرات حياتية جبّارة مثلما كانت للشاعر القديم، حيث تتكفّل الميديا الآن بالعديد مما كان يؤديه الشاعر القديم. على الشاعر اليوم أن يقوم بما كنتُ أدعو إليه سابقًا "الهجرة إلى الداخل"، (وهو عنوان إحدى قصائدي المبكّرة)، حتى يرى ما لم يره أحد قبله، ولو كان أمرًا بسيطًا كشرح منظر الماء مندفقًا من منبعه، أو التطلّع في راحة يدك كأنك تراها للمرة الأولى، وترى الحبيبة كما يراها الخالق، لا المخلوق.

يتكلّم الشاعر بأيّ ضمير كان، المهم أن يكتب شعرًا، لا يعني أن أكتب بالضمير الأول (الفاعل) أني أتكلّم عن نفسي، فالقصيدة كالمرآة تعكس عدّة ذوات، بعدد قرائها، أما ماهية الشعر فهي تختلف من شاعر إلى شاعر، فلا يستطيع أحد أن يقوم بتعريف موحّد للشعر، وإلا استطاع المحبّون تقديم تعريف موحّد للحبّ، فالشعر مجموعة لغات قد تجمع ما بين المقدّس والعاهر، بين العقل والجنون، بين المرأة والأمّ، بين الكتاب والصورة، بين أن تكون نفسك وتمحق نفسك معًا.

 - ولماذا تتنكر القصيدة للإيقاع والمشافهة؟
قد نحسّ بالصمت في لغة شاعر قصيدة النثر، مع بروز بقية العناصر، لأنها لغة لا تستدعي الخطابة ولا الشفاهة ولا القيم المتعارف عليها، بل يُفترض أن تكتب كأنك تكتب للمرة الأولى، أقول كأنك، لنرى شكلاً جديداً في مضمون جديد، في رؤية للعالم غير التي كان يرى بها الشاعر القديم أو حتى المستَحدَث القصيدةَ، بل أقول إنه لم يعد هناك ثمة غرض للشعر، أقصد الأغراض القومية أو السياسية الفجّة أو حتى الاجتماعية المضمونة، عليه أن يبحث عن أغراض هامشية أو هشّة، حتى ينجح في الوصول إلى قصيدة مختلفة، مشحونة بالعواطف أو الشاعرية أو الفكرة المعقّدة أو المجاز البسيط أو حتى المعقّد، فالقصيدة في النهاية لا تنحصر في شكل واحد أو عالم واحد، هناك ما لا نهاية للشكل والرؤية التي تدفع كلّ كاتب للكتابة.

أحاول أن أقترب من الغامض وغير المألوف، الحداثي وما بعد الحداثي، الأجيال الشعرية في العالم، الكتابات المختلفة عن السائد، حتى أكوّن خلفية معرفية لما أكتبه. لكن، كلما تكبر يصفو خيالك وتصبح النيران أهدأ وتكتب بطريقة مختلفة، من دون حشو أو زوائد، تحاول الوصول إلى الشعرية من أقصر الطرق، وقد أفادني شخصيًا معاقرة الثقافات الأخرى، عن طريق القراءة والترجمة، فانفتحت سبل كثيرة أمامي، وتحررت من قيود كثيرة كانت تعيق قصائدي القديمة، وفي النهاية لكل شاعر قارئ، سواءً كان غامضًا مركّبًا أو بسيطًا كراحة يد، من مردّ اختلاف البضاعة حتى لا تبور الأسواق.

-  يقول البعض إننا في زمن قصيدة الغرف المغلقة بعدما انتهت قصيدة الشارع، فهل لا يزال الشاعر نبيًا للشوارع في المجتمع، وهل يلعب دوره كشاعر أم كمثقف فقط، فالقصيدة ليست منشورًا سياسيًا كما تحولت لدى البعض؟
كلّ شاعر يقوم بدور في المجتمع، لكن هذا الدور غير مباشر، وقد دفعت (الثورة)، وإن أخفقت في مراميها، الشاعر لأن يغيّر قناعاته ويوسّع مداركه؛ بحثًا عن جمهور أكبر، لكن المشكلة تكمن في أن بعض المثقفين قد خانوا ضمائرهم، وساروا مع النظم الجديدة بعد الثورات، والمعروف أن النظم أسوأ ما تكون بعد أيّ ثورة، إن أمكن أن نطلق عليها هذه التسمية في النهاية، فقد تآمر عليها الجميع، حتى جرّدوها من ثيابها علنًا، بل وجرجروها ليخدشوا آمال الجميع، أمام الجميع.

على الشاعر أن يناهض المظالم، ويسعى لإقامة العدل في الأرض، ويقوّم مسيرة أيّ حكومة ويكون ضدّ أيّ رأس للدولة حتى يعود إلى الصراط، فإن لم يفعل فسيظلّ الفساد قائمًا والقتل منصوبًا والسجن على كلّ باب. على الشاعر أن ينصت إلى آلام شعبه، لا يكتب بطبيعة مباشرة، فذلك شأن السياسيّ والمصلح المجتمعيّ، لكن أن يكتب عمومًا في صالح أكبر عدد من الناس، لصالح المهمّش والمطحون والمعدَم، داعيًا إلى اقتسام ثروات مجتمعه حتى لا ينام أحدٌ جائعًا وجاره بطران لا يعبأ بما أو بمن حوله.

الشاعر في النهاية ما هو، ضمير أبيض، لا غُبار فيه أو عليه، أو كما يُفترَض، فلو صلُح صلُح المجتمع ولو تفشّت خياناته صار المجتمع إلى خراب مستعجل ونهاية كنهايات الهنود الحُمر. لكن يخجلني، كما كان يقول نجيب محفوظ، أن أدعو إلى اليأس، فهناك أشجار دائمًا في المستقبل.

 -  كيف ترى قفزة القصيدة العربية إلى مناخات ما بعد الحداثة قبل أن يجتاز المجتمع والقارىء في مناهج التعليم تخوم الحداثة؟ وهل يكرس ذلك غربة مضافة بين الشاعر والشارع؟
يفتقد التعليم في مصر إلى النزعة العلمية غالبًا، فهو يربّي أجيالًا تحفظ ولا تفهم، ترى ولا تعي، تسلّم ولا تجادل، بدلائل عدة، أحدها فقط طرد الفقيد نصر أبو زيد من الجامعة إلى باقي قصته، وما دام التعليم هكذا، فعلى كلّ من يملك فرصة لتغيير أو محاولة تغيير هذا النمط فليتقدّم، لربما يفيد أحدًا، ولو فردًا، في تطوير وجهة نظره إلى أفق بعيد عانقه العالم من نصف قرن، بل وتجاوزه، ونحن لا نزال على الأعتاب، فعلينا نقل هذه الكتب الأساسية إلى الوعي العربيّ، حتى نلحق بما يمكن اللحاق به، أملًا في إنسان أفضل في تمثّل مقتضيات عصره. ولا تنس أن أمريكا اللاتينية قد حققت منجزًا ثقافيًا وإبداعيًا كبيرًا، بينما كانت تعاني من دكتاتوريات عسكرية تُحصي عليهم أنفاسهم، فعلينا جميعًا البدء بجهودنا ولو كانت فردية، للحلم بمستقبل نراه قريبًا ويرونه بعيدًا، نظرًا لعيونهم التي لا ترى إلا ما تحت أنوفهم.

 
حكاية الغربة بين الشاعر والناقد في مصر مثلًا، صارت متباعدة كأنها بين السماء الأرض، فلم يعد في مصر نقّاد كبار، حتى الكبار غرقوا في جوائز بالملايين لن تفيدهم فما بالك بغيرهم، وصار النقد في مصر أشبه بتعاضد السلف مع الخلف، لا يسمن من جوع، مجموعات لا يهم ماذا تنتج من إبداع، تلتمّ على بعضها البعض لرفع ما في جعبة صحبهم، بما في ذلك من نفاق وتملّق وخداع بل وخيانة للضمير الأدبيّ بشكل عام، لكن الكلام طبعاً له استثناءات، ونعوّل على القادم من الشباب في كسر هذه الحلقة الجهنمية الشريرة من تلك التجمّعات العصابية.

كيف نفرق بين غربة الحداثة وغربة ما بعدها جماليًا؟
ثمة فروق جوهرية بين قصيدة الحداثة وقصيدة ما بعد الحداثة، ففي الحداثة يكون الرمز والشكلانية والنصّ الهادف المصمّم التراتبيّ الموضوعيّ المركزيّ الدلاليّ الانتقائيّ النمطيّ الميتافيزيقيّ سهل التأويل، أما في ما بعد الحداثة فيكون السيكولوجيّ اللاشكلانيّ والنصّ المتلاعب المصادف الفوضويّ المتلوّن التجميعيّ المتحوّل المتهكّم المناهض للتأويل. ولا يحضر هذا كلّه قطعًا في نصّ واحد، بل يتراوح بين هذا وذاك، وقد يمتزج المذهبان في نصّ واحد، والتعويل في النهاية على شعرية النصّ لا على اتّباعه مذهبًا معينًا، فلكلّ نصّ مزاج وشكل وطابع ونمط. وقد قدمت هذا في كتاب دورة ما بعد الحداثة لرائد من رواد تنظير ما بعد الحداثه هو الناقد والباحث الراحل إيهاب حسن.

- قدمت منذ عام كتابًا حول أنماط قصيدة النثر كما تكتب الآن كجزء أول، دعني أسأل: هل يمكن وضع أنماط وضوابط لقصيدة من طبيعتها التمرد على كل القوالب والأنماط؟
لا يقدم كتاب "مقدمة لقصيدة النثر" أنماطًا محدّدة يُعتمد عليها في تركيب قصيدة النثر، ولا يؤطّرها في تقنيات محدّدة كما فعلت سابقته سوزان برنار، بل قام برصد لمجموعة قصائد استنبط منها أنماطًا يمكن رصدها في كتابات قصيدة النثر، كما صرّح بأن هذه الأنماط قد تمتزج في نصّ واحد، ويمكن أن تتوالد منها أنماط أخرى إلى ما لا نهاية، أيّ أنه استخرج أنماطًا قد تتجدّد أو تتواشج أو تمتزج وتختلط بأنماط أخرى، ولم يدع للتنميط بل إلى فتح المجال أمام قصيدة النثر لتشمل الفضاء كله بما فيه ومن فيه من جماليات.

- وأين الجزء الثاني الذي وعدت به القراء ومتابعة قصيدة النثر الأمريكية؟
الجزء الثاني من الكتاب أوشكت على إتمامه، في انتظار أن يتكرّم ناشر علينا، والأمر لله من قبل ومن بعد.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة