Close ad

"بوابة الأهرام" برفقة آل "مكاوي سعيد" وصحبته وأمكنته.. هنا عاش "عمدة وسط البلد" | صور

7-12-2017 | 10:19
بوابة الأهرام برفقة آل مكاوي سعيد وصحبته وأمكنته هنا عاش عمدة وسط البلد | صور   مكاوي سعيد
محمد فايز جاد

الروائي الراحل مكاوي سعيد (1956 – 2017)، أحد الكتاب الذين شغل المكان مساحة كبيرة في كتاباتهم، وفي حياتهم بشكل عام، صاحب "تغريدة البجعة"، احتل المكان مساحة عظيمة في كتاباته، وعلى الجانب الآخر، احتل مكانًا عظيمًا في المكان، وتحديدًا في ملتقى المثقفين لعقود طويلة حتى صار "عمدة وسط البلد".

موضوعات مقترحة


"وسط البلد" التي كانت ملتقى للمثقفين منذ عقود، ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة بمكاوي سعيد، الذي لفت الأنظار إليه بشدة بعد صدور روايته "تغريدة البجعة" في 2007، وهي الرواية التي بلغت القائمة لقصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية في نسختها الأولى.

وفي مقهى "زهرة البستان"، الذي صار قبلة لكل راغب في الالتقاء بسعيد، حيث أصبح هناك معلمًا من معالم المكان شأنه شأن الأبنية العريقة المحدقة إليه من كل جانب.


أماكن كثيرة يذكرها سعيد في كتاباته ارتبطت جلها بـ"وسط البلد"، فمن مقهى "ريش" الملاصق لـ"زهرة البستان"، إلى مقهى وكافيتيريا "علي بابا"، ومن "الجريون" إلى "إستوريل"، ومن "جروبي" إلى "الأمريكين"، مقاه ومطاعم وكافيتريات كلها عاش فيها مكاوي سعيد، ونقلها لا بعين السائح الزائر، إنما بعين مواطن "وسط البلد"، الذي خبر أماكنها فصار مؤرخًا لها، لا كمؤرخ موضوعي يراه بعين جامدة ويسجل الوقائع والتواريخ عن بعد، إنما بعين مؤرخ منخرط يعيش في المكان، يتفاعل معه، يحبه، ويكرهه أحيانًا، ويتحسر على ضياعه كثيرًا.

يصف سعيد مقهى زهرة البستان في كتابه "مقتنيات وسط البلد" بأنه ". . . في الستينيات كان مجرد مقهى صغير لا يحتمل لا يحتمل بداخله أكثر من أربع مناضد ورصيف واجهته بالكاد تصطف عليه ثلاث مناضد وفي منتصف السبعينيات كان كان بعض مثقفي الستينيات يتركون مقهى ريش ليخنوا الشيشة ويلعبوا الطولة داخل هذا المقهى، ومن هنا وضع له الشاعر الكبير أمل دنقل اسمًا جميلًا: العمق الإستراتيجي لريش".

على "زهرة البستان" حضور طاغ لمكاوي سعيد رغم الغياب، رفاق جلسات المقهى يؤكدون أنه "مقلب من مقالب" صديق السنوات الطويلة المعتادة.

"لم يكن مكاوي سعيد محور الجلسة، فلم ينفرد بالحديث، بل كان كثيرًا ما يبقى صامتًا لفترة طويلة، وعندما يتحدث نكتشف أنه كان متابعًا لكل ما يجري دون أن يعلق".


هكذا يقول الناشر وائل الملا، الذي صار عضوًا في جلسات مكاوي سعيد على المقهى في السنوات الأخيرة لـ"بوابة الأهرام"، فيما تقول الروائية والقاصة نهلة كرم، التي يعيدها رفاق هذه الجلسات ابنة لصاحب "مقتنيات وسط البلد" إن سعيد كان له روتين يومي، "حيث يحضر إلى البستان في التاسعة صباحًا، ويبقى حتى الثانية والنصف، يتناول غداءه في أحد المطاعم القريبة، وكان يفضل مطعمًا في باب اللوق، ويعود إلى بيته، ثم يتجه إلى المقهى نحو الخامسة، وعند السابعة يتجه إلى أتيليه القاهرة حيث يكتب، ثم يرجع إلى المقهى الثانية ليمضي مساءه قبل أن يرحل إلى منزله في جاردن سيتي".

يقول محمد عبداللطيف، مالك المقهى، لـ"بوابة الأهرام"، إن سعيد "كان من رواد المقهى القدماء، له مكان معين لا يفارقه، كتب عن المقهى والشارع وأشخاص المكان وغيره من الأماكن".

ويضيف: كان يكتب في المقهى، وحتى اليوم الأخير كان حاسبه المحمول وبعض كتبه لدينا في المقهى، لم يكن يفارق المقهى، يأتي منذ الصباح حين يتناول إفطاره، ويقضي المساء كذلك المقهى قبل أن يرحل إلى بيته.

على عكس كتابات مكاوي سعيد عن وسط البلد، التي كان يبدو فيها متجولًا بين جميع أماكنها يبدو أن جلساته انحصرت في السنوات الأخيرة في هذين المكانين، مقهى زهرة البستان، وأتيليه القاهرة الذي يقع على مسافة قريبة للغاية من المقهى، في شارع كريم الدولة.

ورغم الشهرة التي نالها "ريش" بصفته ملتقى المثقفين فإن صاحب "أن تحبك جيهان" لم يكن من رواده، حسبما يؤكد أصدقاؤه، ومن بينهم الملا وكرم، لماذا إذن هذا الابتعاد عن "ريش"؟

يجيبنا مكاوي سعيد بنفسه في الفصل الذي خصصه للمقهى العريق في "مقتنيات وسط البلد" قائلًا: "في أوائل الثمانينيات، بعد وفاة مالك المكان ببضع سنوات، أغلق المقهى بعد أن قرر الورثة تغيير صالته الخارجية، التي كانت على نمط المقاهي الفرنسية... إلى علبة معدنية تعزل الرواد عن الشارع، وقد ظل المقهى مغلقًا لمدة تقترب من عشر سنوات حتى أعيد افتتاحه هذا العام، وأصبحت جدرانه مزينة بصور كتاب ومثقفين، رأيت بأم عيني المعاملة السيئة لهم داخل المقهى إبان حياتهم وبعد أن كان الأب يرحب بالمثقفين ويجلسهم في المناضد الأولى ويجلسهم في المناضد الأولى حتى لو كانت طلباتهم لا تتجاوز القهوة والشاي..".

ويضيف: "والأجانب مرحب بهم جدًا داخل هذا المكان، لكن المثقفين الذين استثمر المكان باسمهم يعاملون بإهمال واستخفاف، هذا ما انتهى إليه هذا المكان الجميل".

يكتب مكاوي سعيد في المقهى أو في الأتيليه، طقس ربما ليس مألوفًا من طقوس الكتابة، ومع هذا النمط في الكتابة، هل كان يعرض كتاباته على أصدقائه أثناء إعدادها، يقول وائل الملا: لم يكن يعرض إلا خطوطًا عامة، ومن الممكن أن يسأل عن صورة ما قد يضمنها الكتاب، ولكن لم يكن يعرض مخطوطاته بشكل عام.

إن كنت صحفيًا ولست من مرتادي مقاهي وسط البلد كثيرًا، أو حتى إن كنت قارئًا عاديًا تبحث عن مكاوي، ولديك إمكانية التعامل مع وسائل التواصل لاجتماعي فإنك ما إن تسأل عن سعيد حتى تعرف مكانه، الإجابة دائمًا: اذهب إلى المقهى وستجده، يجعل ذلك من سعيد قبلة للكتاب الشباب الباحثين عن فرصة للتحقق ككتاب.

يقول الناشر وائل الملا، إنه "كان يستمع كثيرًا، وكثيرًا ما يضطر للاستماع لفترة طويلة لأحد الشباب يلقي عليه شعرًا رديئًا وهو في غاية التحرج من صد مثل أولئك الشباب".


أما الكاتبة نهلة كرم فقد كانت واحدة من أولئك الكتاب الشباب الذين أثرت فيهم كتاباته أولًا، واجتذبتهم نحوه ثانيًا حين أشعرتهم بالرغبة في الكتابة، السردية تحديدًا.

"علاقتي بمكاوي بدأت بعد ترشحه لجائزة البوكر، حين أهداني أحد زملاء الجامعة روايته تغريدة البجعة، ولم أكن عرفت مكاوي بعد، وحين قرأتها وجدتني أريد أن أكتب رواية".

وتضيف صاحبة "على فراش فرويد": لم يكن مكاوي سعيد يرفض الطلبات الكثيرة التي تنهال عليه ممن يخطون خطواتهم الأولى في مجال الأدب ويعرضون عليه نصوصهم، وقد كان منشغلًا كثيرًا في الفترة الأخيرة استعدادًا لصدور كتابه الذي أراد أن يفرغ منه، فكان في خضم هذا الانشغال يقبل بقراءة مسودات روايات، ثم يبدي إعجابه بالبعض.

وتأخذنا كرم إلى مكان آخر حيث كان لقاؤهما الأول: لقائي الأول معه كان في "جروبي" وكانت علاقتي به في الأساس كناشر، ويومها ذهبت له بصورة لمخطوط رواية كنت قد كتبتها وكانت بخط اليد، فطلب مني كتابتها إلكترونيا لأنه لن يتمكن من القراءة.

كان مكاوي سعيد عامل تشجيع كبير للكاتبة الشابة آنذاك، التي ستصدر أكثر من عمل بعد ذلك وتحظى بقدر كبير من الشهرة، عامل تشجيع كبير، وهو الذي – كما تقول صاحبة "أن تكون معلقًا في الهواء" شجعها كثيرًا على كتابة القصة القصيرة رغم أنها لم تكن واثقة بعد من أنها مستعدة للخوض في هذه الطريق.

في كتاباته المختلفة يتوقف عند الأماكن التي ارتبط بها وما مرت به من تغيرات تسببت فيه أمور عديدة منها ما هو مادي بحت، ومنها ما هو ثقافي، يعود إلى تاريخها البعيد ونشأتها محملًا بنوع من النوستالجيا إلى زمن كانت فيه هذه الأماكن تحتفظ بروح المدينة التي عرفها، وربما بنوع من الحسرة على ما آلت إليه.

تقول كرم: كان يمتلك ذاكرة قوية فيما يخص الأماكن، يعرف تاريخ كل أماكن وسط البلد التي نمر بها، ولم أكن أمتلك مثل ذاكرته القوية فكان يكفيني حين أكون في مكان ما أن أقول له عن أي معلم ليعرف أين أنا.

وتتفق كرم مع أنه كان يأسف للوضع الذي آل إليه كثير من أماكن وسط البلد، و"حين كنا نمر بهذه الأماكن يسرد لي تاريخها وما طرأ عليها من تحول، أذكر من هذه الأماكن قصر شامبليون الذي كان يأسف لأنه مغلق ولا تلتفت إليه وزارتا الثقافة والآثار".

لم يكن يحب "عمدة وسط البلد" أن يفارق مدينته الأثيرة. "كان يشعر بالغربة خارج وسط البلد، وأذكر أنه حين كان يسافر إلى الإسكندرية على سبيل المثال ويخبرني بموعد لعودته كان يفاجئني بأنه قبل الموعد موجود هنا في زهرة البستان".

ظل مكاوي سعيد حتى اللحظة الأخيرة ملازما لدائرته التي لم يحب أن يخرج منها، يروي الجميع كيف كان في وسط البلد حتى اليوم الأخير وكيف كانوا يتحدثون إليه، حين كان المجهول يحيك خيوط لعبته، أو حين كان يدبر هو مقلبه الذي لم يتقبله أصدقاؤه حتى الآن.

يقول القاص سعيد الكفراوي في نعيه لصاحب "تغريدة البجعة" في منشور له عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك: "الجمعة الماضي، امبارح يعني، جاءت جلستي في ندوة الزهرة بجانب الروائى الجميل مكاوي سعيد، بيني وبينه الأديب الليبي زياد علي، وكان حديثنا أغلب القعدة عن روايته الجميلة (أن تحبك جيهان) كنت أتكلم وهو صامت تمامًا، وكان يصغي لكلامي باهتمام، ولم أكن قد حدثته سابقًا عن الرواية.

كان يشعر بالسرور من كلامي ولكنه لم يتلفظ لفظًا واحدًا، وصلن حزنه فصمت، وفجأة نهض من جانبنا واقفًا، وأنا قلت: "مالك يا مكاوي مستعجل كده ليه، ماتقعد لسه ما أقعدناش مع بعض، نظر مكاوي ناحيتي وقال: خلاص زهقت يا عم سعيد وعاوز أروح، وخطا من خلف الزحمه واستلم طريقه ومضى حيث وجه الكريم".

 

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة