العلاقة بين حرية التعبير والسلطة بأنواعها علاقة ملتبسة شهدت على مر التاريخ شدًا وجذبًا تبادل خلاله كل منهما موقع القوة بناءً على المعطيات التاريخية والسياسية والاجتماعية والدينية، فتارة يتمكن الكتاب والفنانون والمبدعون بشكل عام من انتزاع قدر كبير من الحرية والحصول على مناخ مفتوح بدرجات متفاوتة، وتارة تتمكن السلطة بأشكالها المختلفة من فرض كلمتها بدرجات متفاوتة أيضًا تتراوح بين التقنين والتدخل الجزئي تارة وبين المنع والتدخل الشامل تارة أخرى.
موضوعات مقترحة
في مصر شهدت العلاقة بينهما في السنوات الأخيرة عدة اشتباكات فرضها ربما التطور الذي شهدته وسائل الإعلام من حيث الانتشار، مع سهولة تداول المادة الإعلامية بشكل كبير، الأمر الذي تمخض عن موقفين متباينين، يدعو الأول إلى مناخ مفتوح لوسائل التعبير كافة وإلى رفع سقف الحرية، فيما يدعو الثاني إلى مزيد من التدخل القانوني لفرض ضوابط على عملية التعبير عن الرأي، من خلال القوانين والتشريعات.
آخر حلقات مسلسل الشد والجذب حتى الآن كان مشروع قانون "تجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية" الذي تقدم به عضو مجلس النواب عمر حمروش، أمين سر لجنة الشئون الدينية والأوقاف وعدد من النواب الآخرين إلى رئيس مجلس النواب د.علي عبدالعال، الذي أعلن منذ أيام عن أنه أحال المشروع إلى لجنة مشتركة من لجنتي الشئون الدستورية والتشريعية والإعلام والثقافة والآثار.
مشروع القانون الذي تنص مادته الأولى على أنه "يحظر التعرض بالإهانة لأي من الرموز والشخصيات التاريخية، وذلك وفقًا لما يحدده مفهوم القانون واللائحة التنفيذية له" أثار جدلًا كبيرًا بين مؤيد يراه وسيلة لـ"حماية" الشخصيات التاريخية التي تحظى بمكانة لدى المجتمع، وبين معارض يرى أول ما يرى في المشروع وسيلة لتكميم الأفواه والحد من حرية التعبير. ويأتي مشروع القانون بعد فترة قصيرة من الضجة التي أثارتها تصريحات الباحث والروائي د.يوسف زيدان التي وجه فيها انتقادات شديدة للزعيم الراحل أحمد عرابي قائد الثورة العرابية، التي اتهمه فيه بأنه المتسبب في سقوط مصر في قبضة الاحتلال البريطاني عام 1882، مشيرًا إلى أن الواقعة المعروفة بواقعة وقوف عرابي أمام الخديو توفيق حاكم مصر آنذاك لم تحدث، حسب قوله.
هذا التعاقب بين تصريحات زيدان والتقدم بمشروع القانون دفعت كثيرين للربط بين الاثنين ليروا أن مشروع القانون يهدف إلى إيقاف يوسف زيدان عن الاستمرار في هذه التصريحات التي وجه فيها النقد لشخصيات تاريخية مثل سيف الدين قطز وصلاح الدين الأيوبي وأحمد عرابي، من بين من رأوا هذا الرأي الكاتب الصحفي حمدي رزق الذي عنون مقاله الذي علق فيه على مشروع القانون بـ"قانون يوسف زيدان".
مشروع القانون الذي من المنتظر أن تبت في أمره اللجنة المخولة بمناقشته يثير جدلًا بشأن مدى اتفاقه أو اختلافه مع الدستور المصري الذي ينص في المادة 65 على أن "حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر"، فضلًا عن صياغته نفسها ومدى تماسكها كنص قانوني.
يرى المستشار رجائي عطية أن مشروع القانون "سقطة كبيرة" واصفًا إيه بأنه "خطر كبير على الدولة، وأحذر الدولة من الانجراف وراءه". وأضاف عطية لـ"بوابة الأهرام" أنه "لا يصح أن تضع تشريعًا لأن شخصًا ما قال كلامًا لا يعجبك".
ويتوقف عطية عند جزئيتين تتعلقان بنص المشروع، الأولى هي تعريف "الرموز التاريخية" متسائلًا: "من هم الرموز؟ أنت أولًا في حاجة لتحديد من هم الرموز"، مشيرًا إلى أن من يعد رمزًا عند شخص أو طائفة قد لا يعد كذلك عند شخص أو طائفة آخرين.
ويوضح: هناك مثال، الرئيسان الراحلان جمال عبد الناصر وأنور السادات، فالناصريون مثلًا ينتقدون بشدة الرئيس السادات، فهل يعني ذلك أن نحاكمهم بتهمة إهانة الرموز؟
أما الجزئية الثانية فهي توصيف الإهانة أو المساس نفسهما، حيث يتساءل عطية: "ما الأفعال التي نعتبرها مساسًا بالرموز؟ في لغة الفقه لابد أن تكون الكلمات شديدة الدقة، وألا يكون النص فضفاضًا".
يختلف رجائي عطية مع يوسف زيدان في آرائه في الشخصيات التاريخية التي تناولها الأخير بالنقد، ولكنه يقف ضد محاولات سن قانون يحمل هذا الخلاف الفكري من صفحات الجرائد والمجلات إلى ساحات القضاء. يقول: كتبت مقالات عن العلم بين الاستخدام النافع والاستخدام السيئ، دون أن أذكر اسم يوسف زيدان، حيث تناولت الفرق بين البحث العلمي والتوك شو، وتطرقت لموضوعات مثل القدس وصلاح الدين وعرابي، وهذه المقالات هي أربع مقالات سوف يتم نشرها.
ويشير عطية إلى أنه يتفق – فيما يخص موقفه من مشروع القانون بشكل مع عام- مع ما ذهب إليه الكاتب الصحفي حمدي رزق في مقاله المذكور آنفًا. وكان رزق قد قال إن "مقولات الدكتور يوسف زيدان تستأهل ردًا من المشتغلين بالتاريخ، حوارات، ومناظرات، وندوات، هذا كافٍ جدًا. . ."، مشيرًا إلى أن مشروع القانون: "أقرب لقانون العيب في الذات الملكية أيام الملكية، ومثيله قانون العيب في الذات الرئاسية أيام السادات، وأربأ بالبرلمان أن يتورط في هذا القانون المعيب، ثورة 25- 30 في تحليلها الأخير ثورة على حكم الشخص والجماعة، ثورة على تقديس البشر".
تبدو مسألة نص مشروع القانون ومدى دقتها والتزامها بما تفترضه النصوص القانونية من دقة وتحديد شديدين نقطة اتفاق بين كل من المؤيدين لمشروع القانون والمعارضين له، فحتى المؤيدون لمشروع القانون من حيث المبدأ كانت لهم تحفظات بشأن دقة النص من حيث هو نص فقهي، من بينهم د.صلاح فوزي رئيس قسم القانون الدستور بكلية الحقوق جامعة المنصورة الذي يقول إنه: "من حيث المبدأ مع القانون وضد التطاول ومع ضرورة الانضباط، فأنا ضد التجاوز وضد تشويه الناس وتشويه سمعتهم".
ويضيف فوزي لـ"بوابة الأهرام" إنه قرأ القانون فوجده "مشروع قانون عقوبات يحتاج إلى قدر كبير جدًا من التحديد"، متوقفًا أيضًا عند مفهومي "الرموز والشخصيات التاريخية"، و"الإهانة"، مشيرًا إلى أن لفظة "الإهانة" في حاجة إلى ضبط.
ويوضح: من الممكن أن تكتب مقالًا تراه نقدًا وأراه إهانة، فلابد أن يكون محددًا ما المقصود بالإهانة على وجه التحديد، لأن هناك مواد عقابية سالبة للحرية"، مشيرًا إلى المادة الثالثة من القانون التي تنص على أنه: "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف كل من أساء للرموز والشخصيات التاريخية، وفي حالة العودة يعاقب بالحبس بمدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد على 7 وغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تزيد على مليون جنيه".
هذه المادة أيضًا، بما تتضمنه من عقوبات سالبة للحرية، أثارت حفيظة كثيرين من معارضي القانون، وذلك بعد أن واجه عدد من الكتاب والإعلاميين عقوبة السجن بتهمتين سالبتين للحرية سواء "ازدراء الأديان" أو "خدش الحياء" وهما التهمتان اللتان يراهما البعض مخالفتين للدستور المصري الذي ينص على حرية التعبير كما في المادة المذكورة آنفًا، لتأتي هذه المادة في مشروع قانون "تجريم إهانة الرموز والشخصيات التاريخية" لتعني – بالنسبة للمعترضين على المشروع- مزيدًا من التضييق فيما يخص حرية التعبير، وتوسيعًا للمحظورات وزيادة لإمكانية حبس المبدعين والإعلاميين بسبب أقوالهم أو كتاباتهم.
وكما توقف عطية عند تعريف الشخصيات التاريخية يقف فوزي متسائلًا: من الشخصية التاريخية؟ لابد من تحديد ما الشخصيات التاريخية. هل هي الشخصيات المذكورة في كتب التاريخ؟ إذن ما هذه الكتب؟ هل هي الكتب المدرسية أم غيرها من الكتب؟ ومن أي فترة نبدأ؟ هل هي من عصر الملك مينا أم من عصر آخر؟
ويخلص أستاذ القانون الدستوري من هذه الأسئلة إلى أن مواد مشروع القانون "في حاجة تدقيق وضبط وإحكام"، مضيفًا أن "القوانين الجزائية تتطلب تحديدًا شديدًا، ويسيطر على قوانين العقوبات منطق التفسير الضيق".
أما عن العقوبة المذكورة فيرى فوزي أن العقوبة "تكون ما بين الغرامة والحبس أو أي منهما، هنا تترك للقاضي ليحدد العقوبة المناسبة من خلال الأوراق فلابد أن يسمح للقاضي بأن يستخدم صلاحياته التفسيرية"، مضيفًا أنه ليس مع عقوبة منهما بشكل مطلق".
ماذ بعد؟ وإلى أين قد يمضي مشروع القانون؟ هذا السؤال يجيب عنه فوزي قائلًا إن المشروع بعد أن أحاله رئيس مجلس النواب إلى لجنة لدراسته فإن اللجنة "ستدرسه وتعد تقريرها وتبدي وجهة نظرها، وتكون من خلال: إما أنها تقبل المشروع أو لا تقبله لأسباب تبديها، وإن قبلته فمن حقها أن تقبله كلية أو تطالب بإدخال بعض التعديلات عليه، ثم يطرح مشروع القانون على المجلس في جلسته للتصويت عليه".
هذا التحديد واتساع دلالة لفظي "الرموز التاريخية" و"الإهانة" أول ما علق عليه د.يوسف زيدان عقب تقدم النائب عمر حمروش بمشروعه لمجلس النواب، حيث علق زيدان في منشور عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك": طيب، ولكن ألا يجب أولًا تحديد: من هم الرموز! هل هم السفاحون الراغبون في السلطة و لو على جثث الناس، أم هم المبدعون الذين ساهموا في صناعة الحضارة الإنسانية؟"
فضلًا عن الموقف القانوني، ومدى دستورية القانون في حالة صدوره ومدى استيفاء نصه للشروط والصفات المتعارف عليها في النصوص الفقهية، ثمة موقف يمكن وصفه بالموقف العلمي، وهو الذي يدفع للتساؤل: ألا يؤثر مثل هذا القانون على الأبحاث الأكاديمية بما يفرضه من حصانة لبعض الشخصيات التاريخية – في حالة تم التصالح على منهج يحدد هذه الشخصيات؟
الكاتب والباحث التاريخي د.شريف يونس يعارض مشروع القانون تمامًا واصفًا إياه بـ"الفكرة المستحيلة".
ويشير يونس في حديثه لـ"بوابة الأهرام" إلى أنه يرى أن "مشروع القانون يفترض أنه من الممكن أن نتعرف على شخصيات بعينها ونسميها رموزًا تاريخية، نحن إذن في حاجة لسلطة تحدد هذه الرموز والشخصيات التاريخية"، مضيفًا: كما أنه يفترض أن هناك رأيًا معينًا يقال في هذه الشخصيات ورأيًا آخر ينبغي ألا يقال.
ويتوقف يونس عند لفظة "الرموز" أيضًا رافضًا إياها من الناحية العلمية، حيث – حسب يونس- لا معنى لها، فليس هناك رمز تاريخي إنما هناك شخصية تاريخية، قائلًا: في الكتابات الإسلامية يقال عنهم أعلام، أي أنهم شيء بارز، ولكنها ليست رموزًا فهي لا ترمز لشيء. فالحديث عن ناصر أو نيهرو هو حديث عن الشخصية وليس عن البلد، فلا يعني ذلك موقفًا من بلاده أو الحركة التي كان يقودها الشخص، فلا يمكن أن يكون رمزًا.
ثم ينتقل صاحب "الزحف المقدس" إلى لفظة "إهانة" قائلًا إن: الإهانة توجه لشخص حي إنما الشخص الميت فهذا حديث عن التاريخ، وهذه قصة تم حسمها قديمًا، والفقهاء المسلمون تساءلوا إن كانت كتابة التاريخ غيبة أو نميمة ولكنهم حلوا هذه المسألة قائلين إن كتابة التاريخ فيها ما يفيد البشرية، بشرط أن تتحرى الدقة والصراحة.
ويرى يونس أن: "الشخصيات التاريخية محل بحث عالمي، فالعلم بطبيعته عالمي" مضيفًا أن العلوم الإنسانية، ومن بينها علم التاريخ، "هي علوم مهما كانت خصوصيتها علوم عالمية تناقش بشكل عالمي ما بين المختصين".
ويضيف: محاولة أخذ موقف يوقف هذه العملية شيء مناقض للحضارة، ونوع من البربرية التي تتصور أنها توقف طبيعة الحضارة الموجودة، وتصنع نظامًا معينًا نابعًا من أهوائها الشخصية.
أما عن الصيغة القانونية لمشروع القانون فيرى يونس أنها "تنم عن جهل بمبادئ الصياغة القانونية، وبصياغة نص له صفات النص القانوني"، مستشهدًا بالمادة الرابعة التي تنص على أنه: " يعفى من العقاب كل من تعرض للرموز التاريخية بغرض تقييم التصرفات والقرارات، وذلك في الدراسات والأبحاث العلمية".
ويوضح: أنا لست قانونيًا، ولكني أعرف جيدًا الفرق بين العقوبة والتجريم، فاستخدامه للفظ العقاب يعني أنه لم يمر عليه نص قانوني، فالإعفاء من العقوبة يعني أن شخصًا ما أدين بحكم قضائي وتم تجريمه ثم يصدر قرار أو حكم بالعفو عنه، كما نرى في حالات العفو الرئاسي عن بعض المحكومين.
يرى المؤيدون لمشروع القانون أنه لن يمس من يتعرض بالنقد للشخصيات التاريخية، وإنما يتعلق الأمر بالسب والقذف كما ينص عليه قانون العقوبات المصري حسبما تقرره المواد المخولة بتحديد صفة السب والقذف وعقوبتها. أما يونس فيرى أن هذا الأمر هو أمر ثقافي وليس قانونيًا.
يقول يونس: هذه أمور تترك للتطور المعرفي والإنساني والتطور الاجتماعي. عندما يكون مجتمع ما مستواه العام متدنيًا فيكثر استخدام ألفاظ غير مفيدة، فهذه مشكلة حقيقية لكنها خاصة بأن مستوى التعليم والإدراك والتدرب على إقامة حوار غير موجود في المدارس.
ويستطرد: الاتهامات لا تفسر شيئًا ولا تضيف للمعرفة شيئًا، وكون أن المجتمع ينشغل بالتخوين والشتم فهذه أمور يجب أن تعالج بصفتها مشكلة ثقافية وتعليمية وليست مشكلة أمنية يتم التعامل معها بالشرطة.
ويختم د.شريف يونس حديثه قائلًا إن مشروع القانون: "سيجعل الأمر أشبه بأنك تعمل على تكميم أفواه أكتر من تحرير العقول"، ويصف الأمر برمته بأنه "بعيد عن فكرة العصر أصلًا".## ## ##