قبل ساعات معدودة من حلول الذكرى المئوية لوعد بلفور، الذي أفضى لنكبة الشعب الفلسطيني، تبدو ثقافة الاعتذار الغربية على المحك، بقدر ما يبدو هذا الوعد أمثولة للاختلال الأخلاقي للغرب الاستعماري.
موضوعات مقترحة
وتجلى هذا الاختلال الأخلاقي في رسالة لوزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، وجهها يوم الثاني من نوفمبر عام 1917، إلى اللورد ليونيل روتشيلد، الذي كان حينئذ ممثل الجالية اليهودية في بريطانيا، وأحد زعماء الحركة الصهيونية، حيث جاء هذا الوعد لتتعهد الحكومة البريطانية ببذل أقصى مساعيها، لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ووسط اهتمام واضح في الصحف، ووسائل الاعلام المختلفة، بالذكرى المئوية لهذا الوعد، الذي وصفه العديد من الكتاب والمعلقين العرب "بوعد بلفور المشؤوم"، تشهد الضفة الغربية مسيرات احتجاجية، تطالب بإقرار حق العودة للفلسطينيين، وإقامة دولتهم الوطنية المستقلة، كما تطالب بريطانيا "بالاعتذار عن وعد بلفور المشؤوم، والذي أسس للنكبة الفلسطينية".
ومن المقرر، أن يشهد يوم الثاني من نوفمبر المقبل، أكبر المسيرات الفلسطينية الداعية لإزالة الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني جراء وعد بلفور، ومن بينها مسيرة مزمعة في العاصمة البريطانية لندن.
وكان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس "أبو مازن"، قد طالب في خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم العشرين من شهر سبتمبر الماضي، باعتذار بريطانيا عن وعد بلفور، الذي وصفه "بالجريمة في حق الشعب الفلسطيني".
كما طالب رئيس الوزراء الفلسطيني، رامي الحمد الله، بريطانيا، بالاعتذار، وتصويب الظلم التاريخي في حق الفلسطينيين، فيما حذر وزير الخارجية، والمغتربين الفلسطيني، رياض المالكي، من أن دعاوى قانونية ستقام ضد بريطانيا، حال إصرارها على الاحتفال بمئوية وعد بلفور، وهو ما أكد عليه أيضا رئيس دائرة شئون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، زكريا الأغا.
ومع اقتراب الذكرى المئوية لوعد بلفور، قام الفنان البريطاني، ريك بلات، بإخراج فيلم وثائقي، يتناول وعد بلفور برؤية تاريخية، تستند لوثائق الأرشيف البريطاني، ومراسلات بين السلطات البريطانية، وقادة في الحركة الصهيونية، فضلا عن مذكرات شخصيات كانت ضالعة في هذا الحدث، الذي مازالت تداعياته مستمرة في أمواج التاريخ وأرض الواقع.
وقرر نشطاء بريطانيون، إطلاق حملة لجمع توقيعات، تطالب مجلس العموم البريطاني بمناقشة الطلب الفلسطيني لحكومة بريطانيا، بالاعتذار رسميا عن إصدار وعد بلفور، وما ترتب عليه من آثار كارثية يعاني منها الشعب الفلسطيني.
و"ثقافة الاعتذار" حافلة بالالتباسات في الثقافة الغربية، كما تبدى في صيف العام الماضي، عندما أبدى رئيس وزراء بريطانيا السابق، توني بلير، نوعا من المراجعات، بشأن دوره في الحرب على العراق.
فوسط الالتباسات اللغوية، والمناورات السياسية، التي انطوى عليها اعتذار توني بلير، عن أخطاء معلوماتية، واستخبارية في "تقدير الموقف"، بشأن قرار مشاركة بريطانيا في غزو العراق، لم يعتذر عن الحرب نفسها، الأمر الذي أثار تعليقات وتآملات ثقافية بشأن الازدواجية في ثقافة الاعتذار الغربية.
واذا كان الفلسطينيون يطالبون الآن بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور، فإن اعتذار توني بلير، بشأن أخطاء في تقدير الموقف، إبان اتخاذ قرار بالمشاركة في الحرب على العراق عام 2003، وصف بالاعتذار المنقوص والجزئي والمضلل.
وقد يعيد ذلك أيضا للأذهان، مفهوم "الاعتذار المراوغ"، الذي تجلى في خضم الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في شهر سبتمبر عام 2008، وهي أزمة خرجت أصلا من بنوك الولايات المتحدة والغرب "وصدرتها لبقية أنحاء العالم".
وأثناء تحقيقات بشأن مسئولية كبار المصرفيين، ومديري البنوك في بلد كبريطانيا عن هذه الأزمة المالية،عمد هؤلاء المصرفيون لأسلوب "الاعتذار المراوغ" حيث أعربوا عن الأسف، حيال مآلات الأمور في مصارفهم، دون أن يعتذروا عن ممارساتهم، أو يقروا بمسئوليتهم بشأن تلك المآلات، كما لاحظت صحيفة الإندبندنت البريطانية.
وإذا كان "الأسف" أقل مرتبة من "الاعتذار"، فالأمر كما يقول مفكر غربي، هو مايكل بافيدج، ينطوي على خطورة، لأن الاعتذار الواضح يتضمن ندما، وعزما على عدم تكرار ممارسات سببت إساءة لآخرين، وألحقت بهم ضررا.
و"الاعتذار" في ثقافة الغرب وفلسفاته وسياقاته التاريخية، يرتبط بمسألة طلب الصفح عن خطأ، والكلمة في الإنجليزية ترجع لكلمة يونانية الأصل، كما تقترن بسقراط ودفاعه عن أفكاره، وهو أحد أهم الفلاسفة والآباء الثقافيين للغرب، والملقب "بأكثر الرجال حكمة في العالم القديم".
غير أن كلمة الاعتذار في السياق الثقافي الغربي المعاصر، وفي واقع العلاقات بين المنتمين لهذا السياق، تبتعد عن مفاهيم سقراط الدفاعية، والبحث عن ذرائع أو حجج للسلوك غير المقبول، وأمست أكثر اقترابا من الإقرار الصريح بالخطأ، والاستعداد للتعويض عن الخسارة أو الضرر الناجم عن ذلك الخطأ، أو على الأقل إيضاح أن الخطأ لم يكن عمديا بقصد الإيذاء.
ومن الواضح، أن الكلمة تومئ لمفاهيم ثقافية متصلة بالحالة العقلية والشعورية حيال الآخرين، ولها علاقة على سبيل المثال بالشعور بالخجل، أو الرغبة في التطهر من الآثام، كما يقول مايكل بافيدج، في دورية "الفيلسوف"، وهي مجلة فصلية تصدر بالإنجليزية.
ويوضح بافيدج، في طرح بهذه الدورية الفلسفية الرفيعة المستوى، أن الاعتذار وليد شعور يقر بارتكاب خطأ، تسبب في إساءة لآخرين، ودون هذا الشعور بحدوث "إساءة" لن يكون هناك اعتذار "لأنه لا يوجد ما يستدعي الاعتذار بسببه".
ومن الواضح أيضا بكل الأسف، أن الاعتذار في الفكر الغربي المعاصر، مازال قاصرا على هؤلاء الذين يعيشون في الغرب، دون أن يمتد ليشمل العلاقات بين الغرب والدول المنتمية لحضارات أخرى، أو الشعوب، التي تعرضت عبر التاريخ لكثير من الأذى، جراء ممارسات غربية، مثلما حدث للفلسطينيين جراء وعد بلفور.
وغالبا- كما يقول مايكل بافيدج- ما يتخذ رفض الاعتراف بالخطأ المسبب للأذى لآخرين، إشكالا بالغة المكر، وصورا مراوغة من أجل تجنب الاعتذار، وقبول المسئولية عما حدث من ضرر.
فثمة حالة من الازدواجية في ثقافة الاعتذار بالغرب، تحول دون الكيل بمكيال واحد لكل البشر، بغض النظر عن ألوانهم وأعراقهم وثقافاتهم وانتماءاتهم الحضارية، ناهيك عن الاستعداد الجدي من جانب الغرب، لتعويض ضحايا ممارساته التاريخية الظالمة لشعوب أخرى.
وهكذا، إذا كان الاعتذار في السياق الثقافي الغربي المعاصر، يعني اعترافا صريحا بخطأ، مع تقديم أسف لا لبس فيه، حيال أي شخص تعرض لإساءة جراء هذا الخطأ، فضلا عن تعويضه عن الضرر الذي وقع عليه، فحتى الآن لم نر تطبيقات واضحة لهذا المفهوم، بشأن مظلوميات تاريخية تعرضت لها شعوب وأمم على يد الغرب، أو حتى استعداد لقبول الاعتذار عن تلك المظلوميات، التي مازالت تداعياتها مستمرة في الواقع الراهن، كما هو الحال فيما يتعلق بوعد بلفور.
فمن يعتذر للفلسطينيين عما حاق بهم من ظلم جراء وعد بلفور، ومن يعتذر للبلدان التي خضعت للاحتلال والنهب المباشر وغير المباشر لمواردها، وحتى آثارها على مدى أعوام طويلة، بل ومن الذي يعتذر للأفارقة الذين اختطفوا وجلبوا في أسوأ الظروف الإنسانية "للعالم الجديد"، وأرغموا على العمل كعبيد لتنمية ثروات السادة البيض في هذا العالم الجديد، وتسريع عملية التراكم الرأسمالي في أمريكا؟!.
وهكذا، فحتى الآن لم يسدد الغرب "ديون التاريخ" لشعوب مثل الشعب الفلسطيني، الذي تعرض لمظلومية تاريخية طالت البشر والحجر، وقد يكون وعد بلفور أمثولة "للاختلال الأخلاقي للغرب الاستعماري"، وهو وصف مستعار من عنوان كتاب جديد، جاء بمثابة صيحة غاضبة للفيلسوف الفرنسي، وأستاذ العلوم السياسية، فيليب بينتون، المهموم بأزمة الحضارة الغربية، وفداحة المتناقضات في الذهنية الغربية، جراء التلاعب بمبادئ يفترض أنها تسعى للعدالة والسعادة الإنسانية.
وفي كتابه الجديد "الاختلال الأخلاقي للغرب"، يتناول فيليب بينتون، الأستاذ في جامعة "رين" الفرنسية، بمنظور نقدي، مأزق المجتمعات الغربية، التي يرى أنها باتت أسيرة مفاهيم تحولت إلى قيود لا تستطيع الفكاك منها، فيما يسعى الغرب لفرض قيمه على بقية المجتمعات في العالم.
ولئن كان هذا الكتاب الذي يرصد الاختلال الأخلاقي الراهن في الغرب، لم يتعرض لوعد بلفور، فإن مثقفا كبيرا مثل الراحل، إدوارد سعيد، الذي خرج من قلب المأساة الفلسطينية الى الحياة الأكاديمية الأمريكية، كأحد أبرز النقاد الثقافيين، وأساتذة الأدب المقارن، قد فضح في سردياته الرفيعة المستوى جوهر الظلم الذي حاق بالفلسطينيين، و"الانحيازات المركبة للغرب" فيما يحق وصف وعد بلفور، بأنه نموذج "لسوء الاستخدام المتعمد للكلمات" وهو موضوع كان يشكل هما ثقافيا لهذا المثقف، الذي كشف تهافت السرد الاستعماري، بشأن القضية الفلسطينية.
وإدوارد سعيد، الذي ولد عام 1935، وقضى عام 2003 في نيويورك، وتحل الذكرى الثانية والثمانين لمولده في الأول من نوفمبر المقبل، أي قبل يوم واحد من الذكرى المئوية لوعد بلفور، قدم أعمق الدراسات عن الاستشراق الغربي في كتب أشهرها: "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية".
ويمكن تأمل "حقيقة وعد بلفور" ضمن رؤية هذا المثقف الفلسطيني الأصل، بشأن "الهيمنة وعلاقات القوة التي كرس بها الغرب نفوذه لتتحول إلى نظام للحقيقة المتخيلة، وتترتب عليها إجراءات مادية على الأرض، ويصير لها تاريخها الذاتي الذي فرض على الواقع".
وارثر جيمس بلفور، ولد في عام 1848، أي قبل 100 عام من النكبة الفلسطينية التي أسس لها وعده المشؤوم، فيما قضى يوم التاسع عشر من مارس عام 1930، وكان قد شغل منصب رئيس الحكومة في بريطانية بين عامي 1902 و1905، ثم تولى منصب وزير الخارجية في حكومة ديفيد لويد جورج، بين عامي 1916 و1919، كما شغل منصب رئيس مجلس اللوردات بين عامي 1925 و1929.
ورأى أرثر بلفور، إمكانية الاستفادة من الحركة الصهيونية على الصعيد الدولي، لتحقيق مصالح بريطانيا، مثل قيام بعض قادة هذه الحركة بدور مهم في إقناع الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، بالخروج على نزعة العزلة التي كانت سمة لسياسات الولايات المتحدة، والمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الإمبراطورية البريطانية.
ولئن كان المفكر الأمريكي التقدمي، وعالم اللغويات نعوم تشومسكي، واليهودي بحكم الديانة، أحد أهم المفكرين المعاصرين على مستوى العالم، الذين تصدوا لفضح أباطيل الفكر الصهيوني العدواني، فقد رأى المحلل النفسي الأشهر، سيجموند فرويد، وهو منحدر من عائلة يهودية في النمسا، أن المكون الأساسي للشخصية الصهيونية، يتمثل في الاعتقاد على نحو كامل، ومطلق، بأنهم "شعب اختاره الله بين البشر جميعا ليكونوا شعبه المختار".
وهذا الاعتقاد ناقشه فرويد بصورة مفصلة في كتابه "موسى والتوحيد"، معتبرا أنه "يشكل ظاهرة فريدة في تاريخ الأديان" جعل الإسرائيليين حتى اليوم يؤمنون على نحو مطلق بأن "الحقيقة ملك لهم وحدهم، ولا حق خارج ما يرون، وما يفعلون، حتى لو كان عدوانا غاشما على أقدس مقدسات الآخرين".
واذا كان وعد بلفور قد وصف بأنه "وعد من لايملك لمن لايستحق" فإن التراث الثقافي لإدوارد سعيد صاحب "تمثلات المثقف" يتضمن تحليلات كاشفة" لمدى التلفيق الذي مارسه الغرب لهوية الآخر، والمختلف، لحد نزع جوهره الإنساني لتبرير عادة تشكيله ضمن معادلات علاقات القوة" كما حدث للشعب الفلسطيني، الذي عبر أحد أبنائه المبدعين، وهو فنان الكاريكاتير الراحل، ناجي العلي، عن مأساته بشخصية شهيرة في رسوماته، وهي شخصية "حنظلة".
وناجي العلي الذي أبدع شخصية "حنظلة" أو الطفل الفلسطيني المعذب، والغاضب، اغتيل في لندن منذ أكثر من 30 عاما، غير أن رسوماته المعبرة عن عمق المآساة الفلسطينية لن تموت، و"حنظلة" الرافض للاستخفاف بالحق، مازال يقاوم، ويتحدث باسم الجرح التاريخي، الذي تسبب فيه وعد بلفور منذ 100 عام، المقاوم الفلسطينى العربى الأشهر فى تاريخ الكاريكاتير، كما ابتدعه الفنان الراحل ناجى العلى.
نعم سيبقى المثقف، وفنان الكاريكاتير الفلسطينى، ناجى العلى، حاضرا ما بقت بشخصيته الطفولية الخالدة "حنظلة" بيديه المعقودتين خلف ظهره حاضرة في الضمير الانساني، ومدافعة عن الهوية الفلسطينية، ورافضة للمظلومية التاريخية التي بلغت ذروة مآساوية جراء وعد بلفور.
100 عام، على وعد مشؤوم أفضى لنكبة شعب، لكن "حنظلة" مازال يقاوم ويستشرف المستقبل، ولم ولن يستسلم.. وفى الذكرى المئوية لحدث جلل في تاريخنا العربي المعاصر، لم ننس المجازر، والأمهات الذبيحات يحتضن أطفالهن الغارقين فى الدم، ولن يصمت ضمير كل مثقف شريف في هذا العالم، حتى تعود الحقوق السليبة لأصحابها فى فلسطين، وحتى ينعم "حنظلة" بوطن مستقل مثل بقية البشر في هذا العالم.
. .