للجزائر مكانة عريقة وسامية في التاريخ الثقافي العربي، بما تملكه من أدبائها وأديباتها النابهين والنابهات، على مر العصور، الذين تَرَكُوا بصمة محليًّا وعربيًّا وعالميًا. وعقب انتهاء فعاليات صالون الجزائر للكتاب أخيرًا ، أجرت "بوابة الأهرام" مع وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي ، حوارًا خاصًا شاملًا ، تناول جوانب وقضايا عديدة في الثقافة والتعليم والسياسة والفنون.. وهذا نص الجزء الأول من الحوار..
موضوعات مقترحة
* مارأيكم في الربيع العربي؟ وهل أثر على الثقافة الجزائرية؟
- لا لم يؤثر، وأعتقد أنه طلع "حمل كاذب" (يضحك) ، وبرأيي أن الربيع العربي الحقيقي هو الثورة الجزائرية ، مشروع التحرر الكبير من استعمار ظل جاثمًا على صدرك ١٣٠ عامًا ، أما الربيع الآخر فهو مجرد احتجاجات، ومطالبات لها مسميات عديدة ، لم تحقق شيئًا ، والدليل النتيجة التي وصلنا إليها.
* مارأيكم فيمن يقولون إن عدم حصول أديب عربي على نوبل ، منذ فوز محفوظ بها في العام ١٩٨٨ وحتى الآن ، لمدة قاربت الـ٣٠ عامًا ، بسبب أن الأدب العربي متهم في عيون الغرب بأنه هو من يفرز الاٍرهاب؟!
- إنها "اليد الخفية" التي تتدخل دائمًا ، في اللحظات الأخيرة ، لتحرمك كعربي من الفوز بها ، واعتراف العالم بامتيازك ، وهذا مايحدث للعرب عادة في الامتيازات الكبرى ، في أي مجال ، وسأستشهد بـ٣ مواقف حدثت في السنوات الأخيرة ، الأول عندما ترشحت مصر في العام ٢٠٠٤ لاحتضان مونديال الكرة ٢٠١٠ ، لتخرج أصوات تقول : "كيف تنتظمون المونديال في بلد به إرهابيون ، ومتعصبون ؟!" فتدخلت السياسة في الرياضة ، لتأخذها جنوب إفريقيا ، وكان صفر المونديال المشهور ، في عهد الصديق العزيز الدكتور علي الدين هلال وزير الرياضة المصري وقتها.
والموقف الثاني ، كان عندما ترشح الفيلم الفلسطيني "الجنة الآن" للفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي ، والجميع مجمعون عليه ، فإذ باليد الخفية تتدخل لتمنع عنه الجائزة ، بحجة أنه من بلد ثلاثة أرباعه يدعمون العنف والإرهاب! وتفوز بها جنوب إفريقيا. والثالث والأخير في الأدب ، فمنذ ٣ أو ٤ سنوات ، كان هناك إجماع على أن أدونيس سيفوز بنوبل ، حتى أن الفضائيات والقنوات التلفزيونية أجرت تحقيقات مصورة عن حياته .. طفولته .. عائلته .. وفي آخر لحظة تتدخل اليد الخفية لتخرج من جعبتها قصيدة قديمة كتبها في ١٩٧١ ، بعنوان "قبر من أجل نيويورك" ، وتقول : "كيف تمنحون الجائزة لشاعر تنبأ بضرب نيويورك وتدميرها ؟!" ، لتذهب الجائزة لجنوب إفريقيا أيضًا ، التي فازت بها نحو ٣ مرات ، رغم أن القصيدة قديمة جدا ، مضى عليها أكثر من نصف قرن !
* وما الحل؟
- نحن مطالبون بمحو تلك الصورة السيئة التي وصمتنا بالعنف والإرهاب في عيون الغرب ، بالترجمة .. ترجمة إبداعات أدبائنا وكُتَّابنا للغاته ، وترجمة أفلامنا ، والوصول للأسواق الأدبية والثقافية والفنية في الدول الغربية ، فكل هذا سيساعدنا - لاشك - على كسب أصدقاء لنا في الأوساط المختلفة بتلك الدول ، بخاصة الإعلامية والثقافية ، فعلينا ألا نقف مكتوفي الأيدي أمام هذا ، بل لابد أن ندافع عن أنفسنا ، ونسخر كل إمكاناتنا ، ونسلك شتى السبل للوصول إلى أهدافنا ، فنحن قلب العالم ، وأمامنا الآن شبكة الإنترنت ، ولكن كيف نصل من خلالها ، و٣٪ فقط من ٤٠٠ مليون عربي في العالم ، هم من يستخدمونها ، في حين أن السويد بمفردها تمثل ٨٪ من محتوى مستخدمي الإنترنت حول العالم ؟! فكيف سنصل بتلك النسبة الضئيلة ؟! لذا علينا أن نطور أنفسنا ومضاميننا على الإنترنت ، بترجمتها من محتواها العربي للغات الآخرى ، حتى نصل للآخر ، وإلا سنظل دائمًا في عيونهم المجتمعات التي تنتج القاعدة، وكل ألوان الإرهاب. ونعود مرة أخرى للتعليم لنقول إنه أيضًا الورقة الرابحة - بجانب الترجمة - لتغيير تلك النظرة.
* وكيف نقضي على الإسلاموفوبيا في الغرب ونصحح الصورة ؟
- لابد من معالجة النموذج الناجح ، بمعنى أن نعالج أنفسنا أولًا ، ثم نعتمد أسباب القوة في مجتمعاتنا ، لنصل إلى الآخر ، ولكن كيف نحقق ذلك ؟! الغرب دائمًا يعيش في هذا الخوف ، وهناك تقرير قرأته في العام ٢٠٠٧ ، يتحدث عن "تحول أوروبا" ، يقول : "إن الإسلام ينتشر بسرعة في أوروبا ، وبعض بلدانها ستصير مسلمة تمامًا في ٢٠٥٠" ، لذا كلما ظهرت تلك الأصوات والدراسات والإحصاءات ، يظهر بالمقابل اليمين المتطرف ، باعتبار الإسلام خطرًا محدقًا بهم ، جاء من الشرق ليغزو أوروبا، وتلك ردة فعل طبيعية لظهور المتطرفين في هولندا ، كمثال ، وغيرها من بلدان القارة العجوز ، لأنهم نتاج انتشار هذا الفكر ، لذا علينا أن نعيد قراءة الفكر الإسلامي السهل ، الذي يملك قابلية الانتشار في الغرب.
* متى يغزو الأدب العربي جميع الأقطار العربية ، ولنأخذ البلدين مثالًا ، بمعنى متى نرى الروايات الجزائرية في أيدي الشباب المصري ، وبالعكس ، بخاصة بالنسبة للأدباء المحدثين ، لأن القدامى معروفون؟
- المسألة في الأساس عملية تجارية بحتة ، فالكتاب ينظر له في قانون التجارة على أنه سلعة تنتقل بين البلدين ، تخضع للعرض والطلب ، مثلها مثل أي سلعة ، كالدواء ، أو الملابس .. إلخ ، ولكي نصل للانتشار ، يجب أن تتوافر لدينا مؤسسات توزيع قوية ، قادرة على أن تصل لكل البلدان ، وقوانين محفزة على التجارة ، وهناك بعض الأقطار المرنة في هذا الأمر ، في حين تحتاج أخرى لوضع قوانين تسهل من عملية تمرير الكتاب منها وإليها.
* إذن .. متى يتوحد العرب ثقافيًّا؟
- نحن ، للأسف ، منذ سقوط الأندلس ، عاجزون عن فك شفرة المستقبل ، ولكن يجب أن ندرك أننا نعيش في عالم متغير ، فيه "يأكل الذئب من الغنم القاصية" ، فَلَو كل واحد فكر بمنطقه المحدود ، فإنه لن يحقق المأمول ، لذا فلا مفر من الاتحاد في كل شيء ، ومنها الثقافة ، وسيكون لنا شأن عظيم ، لأننا - كما يقول المفكر الإسلامي الكبير الدكتور علي الشلش ، صاحب نظرية القلبانية : "إن العرب هم قلب العالم ، تجمعهم لغة واحدة ، وجغرافيا واحدة ، وهم قادرون على أن يحققوا الطفرة المطلوبة في الحضارة والنهضة ".
* وكيف ندخل إلى المستقبل؟
- ندخل المستقبل بنهضة، وكل المحاولات التي تمت في زمن المفكرين ، والنهضويين الرواد ، أمثال محمد علي ، ومحمد عبده ، ورفاعة الطهطاوي ، وغيرهما ، لم نستطع من خلالها أن نطرق أبواب المستقبل، ما سبب إحباطًا للأجيال الجديدة ، ثم نسأل أنفسنا : لماذا الإحباط؟! إن الإحباط الذي بلغته أجيال من المحيط للخليج سببه عجزنا كل تلك القرون عن إيجاد مفاتيح لولوج المستقبل ، والوصول إلى ما وصل إليه الغرب من تطور ، وما بلغه الشرق من حداثة ، ماجعل الأجيال الجديدة تعود للماضي للبحث عن مفاتيح المستقبل.
* وأين موطن الخلل في ذلك؟
- الخلل في التعليم ، فعلينا أن نراجع منظومات التعليم في بلادنا ، وقلتها وأكررها أكثر من مرة :" لقد تمنيت لو أن هذه المليونيات التي تخرج للشوارع ، لها مطالب سياسية ، واجتماعية ، أن تخرج مليونية واحدة تطالب بتحسين التعليم في بلاد العرب ، لأن رهان المستقبل يمر عبر التعليم ، والمدرسة، وتطوير مناهجنا الحالية ، التي ما زالت مغرقة في الماضي ، فالماضي نعتز به ، ولا يمكننا القفز عليه ، لأنه صنيعة رجال نفخر بهم ، لكن نحن كأجيال ما الذي حققناه؟!
* وما الحل ؟
- علينا أن ندرس تجارب ناجحة في الغرب والشرق ، ونخرج بالمناهج الأنجح ، وسأتحدث عن سنغافورة كنموذج ، هي مجرد جزيرة ، تعدادها ٥ ملايين نسمة فقط ، ولكنها تخصص سنويًّا لتحسين التعليم ومناهجه مابين ٧ و ٨ مليارات دولار ، وتطور بالذات المواد التقنية ، والتطبيقية كالرياضيات ، والفيزياء ، وغيرهما ، لذا فلا غرابة في أن تكون سادس بلد التجارة العالمية ، وهي جزيرة معزولة في المحيط ، وذلك لأنها نجحت في إيجاد المفاتيح المطلوبة للتقدم ، وعدم الانغماس في الماضي.
* ولماذا لانضع مناهج عربية مشتركة ، وليكن منها منهج التاريخ ، بخاصة في العصر الحديث ، لإلقاء الضوء على إسهامات الدول العربية لبعضها البعض ، لتعريف الأجيال الجديدة بها ؟
- دعني أقل لك إنني في العام ٢٠٠٩ ، كنت وقتها وزيرًا للإعلام في الجزائر ، وشاركت في اجتماع لوزراء الإعلام العرب ، وكانت الفكرة المطروحة على مائدة الاجتماع وقتها، هي إنشاء قناة تليفزيونية عربية، فقلت للوزراء المشاركين: "لن نتفق على نشرة أخبار واحدة! فمن سيقبل بأن يكون خبره الثاني أو الثالث ؟!" ، لذا أعتقد أننا لن نتفق في هذا ، لأن لكل بلد خصوصية في التاريخ ، والثقافة ، لكن هناك عوامل مشتركة - بلا شك - بين الدول العربية ، وعلينا أن نحافظ عليها .
* إذن .. التعليم يحتاج لقِمَّة عربية شأنه شأن السياسة والاقتصاد والإعلام وغيرها .. أليس كذلك؟
- صدقت بالفعل ، نحتاج كعرب لقمة تربوية تعليمية ، في أقرب وقت ، كي نحافظ على التقاطعات المشتركة بيننا كثوابت في التدريس ، وخلافه ، مع احترام خصوصية كل بلد.
* أأنتم مع الانفتاح على العالم؟
- بالطبع ، لأنه أفضل رد ، دفاعًا عن الشخصية العربية المتهمة بالتحجر ، والتطرف ، والانغلاق ، والتكفير ، فيجب أن نتعامل مع العالم بلغة أرقى وأنقى وأكثر تأثيرًا ، لأننا إذا انغلقنا ، فسنظل هكذا في عيونهم ، وليس أرقى من أن نخاطبهم بالأدب العابر للقارات ، بالأعمال الناجحة الجيدة ، التي تمكنا من الحصول على جوائز كبرى ، فالجائزة، في النهاية ، لها ظلالها السياسية ، ولها ، أيضًا ، محمولها الآخر ، وهو النبوغ والتفوق ، وأنها منتج مجتمع حداثي مستنير.
* هل يقضي الكتاب الإلكتروني على الورقي خلال السنوات المقبلة؟
- لكلٍّ منهما ميزة .. بعض الإحصاءات تكشف عن أن العالم ، في غضون ٥٠٠ سنة ، أنتج قرابة ٥٠ مليون عنوان ، منذ نشوء مطبعة جوتنبرج أول مطبعة في التاريخ ، وحتى الآن ، وهذا يعني أن البشرية أنتجت كمًّا هائلًا من المعارف والفنون ، كلها عبارة عن كتاب ورقي ، وجاءت الثورة الرقمية فحررت الفكر من قبضة الورق ، بمعنى أنني الآن ككاتب لو وجدت صعوبة في طبع عملي ، فيمكنني في ثوانٍ وضعه على الإنترنت ، بدون أن يكلفني شيئًا ، بل وأجد التفاعل الذي انتظره ، ومن أقصى منطقة بالعالم. أما من ناحية غلبة أحدهما على الآخر في وطننا العربي ، فأعتقد أن الكتاب الإلكتروني مازال أمامه سنوات وسنوات ليكون قادرًا على منافسة نظيره الورقي ، تقريبًا من ١٠ إلى ١٥ سنة ، ففي السوق الاقتصادي للكتاب العربي نجد الإقبال على طباعة الإبداعات ورقيًا ، وتسويقها ، وبيعها للناس بهدف الربح والانتشار ، أكبر من الإلكتروني ، الذي ما زال عليه محاذير كبيرة عندنا!