Close ad

النوبيون في انتظار "حق العودة".. كيف أهملت الدولة البعد الثقافي لقضية "بلاد الذهب"؟

23-11-2016 | 19:38
النوبيون في انتظار حق العودة كيف أهملت الدولة البعد الثقافي لقضية بلاد الذهب؟اعتصام النوبيين
محمد فايز جاد
لطالما كانت القضية النوبية لغز بالنسبة لرجل الشارع المصري، تلك القضية التي تتخذ أبعادًا متشابكة ومعقدة، أسهمت في تعقيدها طبيعة النوبيين الهادئة، وعدم اختلاطهم بالأعراق الأخرى المكونة للمجتمع المصري.
موضوعات مقترحة


وكانت القضية النوبية قد عادت للظهور من جديد، بعد اندلاع احتجاجات لمواطنين نوبيين، إثر قرار من الحكومة بطرح أراضٍ ضمن مشروع المليون ونصف المليون فدان للبيع في المزاد العلني، كان من بينها أراضٍ تابعة للنوبة، الأمر الذي أسفر عن قطع طريق كوم أمبو، وظهور شعارات "حق العودة".

وطالب المحتجون بتفعيل المادة 236 لدستور المصري الصادر في العام 2014، التي تنص على إعادة النوبيين لأراضيهم خلال عشر سنوات، بيد أن القرار الأخير جعل من هذه المادة حبرًا على ورق، وجعل من العودة إلى "بلاد الذهب" حلمًا مستحيل التحقق.

وكما هو الحال دائمًا تبدو قراءة مثل هذه القضايا قراءة سياسية أو أمنية قاصرة؛ إذ تمثل الثقافة بعدًا مهمًا في القضية، التي لم تبدأ بعد هذا القرار، ولا مع قرارات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إنما بدأت منذ قرون.

ولعله من الأولى قراءة هذه القضية على لسان مثقفيها، أمثال: حجاج أدول، وإدريس علي، وغيرهما، الذين فرضت عليهم القضايا التقوقع داخل موضوع واحد تقريبًا، هو حلم العودة؛ عندئذ تبرز "دنقلا"، إحدى روايات الراحل إدريس علي، التي تقدم تصويرًا شبه شامل للقضية النوبية، من الناحية الثقافية والتاريخية، وانعكاس هذه القضية على المثقفين النوبيين.

النوبة، القبائل الجنوبية بالنسبة لمصر، والشمالية بالنسبة للسودان، هم عرق مستقل، كان فيما سبق، منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، يمتلك دولة مستقلة، لها علمها المميز، ويبسط سيطرته على مساحات واسعة تركزت بشكل أساسي شمال السودان، جنوب مصر.

"رماة الحدق"، بهذا اللقب عرف النوبيون الذين كبدوا الجيوش العربية، إبان الفتح العربي لمصر، خسائر فادحة، إذ كانوا يوجهون نبالهم صوب عيون الجنود العرب، الذين إما كانوا يلقون حتفهم، أو يعودون أدراجهم فاقدي العيون، وهكذا صارت النوبة مصدر قلق للعرب، الذين بدأوا آنذاك في تهديد العالم القديم، والتبشير بتكوين إمبراطورية مترامية الأطراف.

العلاقة بين النوبيين والعرب اتخذت أشكالًا مختلفة بعد ذلك؛ إذ سهلت بعض القبائل العربية المقيمة بأسوان عملية دخول بلاد النوبة، لتتحول هذه القبائل بعد ذلك إلى مصدر مهم للعبيد، الذين كانوا يخطفونهم من البلاد النوبية، لبيعهم لساكني الجزيرة العربية.

في الفترة ما بين عامي 1899 و1906 بدأت عمليات إنشاء خزان أسوان، هذه العمليات التي أدت لتهجير النوبيين من أراضيهم، لتأتي عمليات "التعلية" بعد ذلك لتحمل عواقب وخيمة إلى ساكني الجنوب، ففقدان الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة، الناتج عن بناء الخزان، دفع النوبيين للهجرة إلى "الشمال" - كما يصف النوبيون القاهرة والدلتا - ليعملوا في أعمال متواضعة كخدم في بيوت الأغنياء والأجانب، لترتبط مهنة السفرجي في ذهن المصريين بالنوبي الأسمر.

هذه المهن أدت إلى التعامل بعنصرية مع النوبيين، تلك العنصرية التي تجلت في نكات هازئة من لونهم ووظائفهم، ولعل هذه العنصرية أحد أهم العوامل المشكلة لطريقة تعامل النوبيين مع الأجناس الأخرى، حيث يصرون على تأكيد فرادة عرقهم، بكل الطرق المتاحة.

من الناحية الفكرية تحولت النوبة المسيحية إلى الإسلام مع مرور الوقت، ولكن بشكل لم يكن إيجابيًا تمامًا، وهو ما يشير له علي في "دنقلا"، حيث استشرى ما يمكن أن يوصف بالمذهب الجبري بين أهل الجنوب، مع انتشار الصوفية التي تتجلى في التبرك بالأضرحة والأولياء، وآل البيت الذين يرقد عدد منهم في تراب مصر، ليقع أهل النوبة بين مطرقة القضاء والقدر، وسندان استجداء الأولياء لحل قضيتهم.

هذا الغرق في الميتافيزيقا أدى إلى رد فعل معاكس بين صفوف المثقفين النوبيين، الذين تفتح وعيهم مع الحقبة الناصرية التي شهدت النوبة فيها ويلات جرها عليها السد العالي، مع ما صحبه من تهجير وهروب لأعالي الجبال، وغرق للأراضي الزراعية، لينحازوا إلى الفكر الماركسي الذي يبشر بإمكان تغيير العالم بالعلاقة الجدلية، الديالكتيك، سعيًا للتخلص من الخرافة التي سيطرت على قومهم.

وعززت المطالب النوبية من بطش النظام بأولئك المثقفين، بالإضافة إلى كونهم شيوعيين، وهي الطائفة التي أعلن النظام العداء معها، وصار مجرد ذكرها في تقرير لأحد "المخبرين" الرسميين أو غير الرسميين يعني الهلاك، ليموت عدد غير يسير منهم في "الواحات"، المعتقل الجحيمي الشهير.

وعن الطابع "المسالم" المعروف عن النوبة يتساءل إدريس علي: كيف تحول "رماة الحدق" إلى أناس يظهرون الاحترام للعسكري قبل الضابط؟ ويجيب بأن السر هو سوط "الهجانة" الذي ألهب ظهور النوبيين بحملات تخترق الجنوب لاستعادة "الأمن".

بشكل عام، رأى النوبيون أن الحل الأمثل هو الحفاظ على عرقهم من الاندثار، بالتزاوج بين أبناء النوبة فقط، بالإضافة للحافظ على اللغة، غير المكتوبة، إلى حد الذي أدى إلى نشوب خلافات قوية على صفحات التواصل الاجتماعي، بلغت الاتهام بخيانة العرق، بعد أن أعلنت إحدى الصفحات النوبية عزمها نشر ترجمة المفردات النوبية إلى العربية، الأمر الذي رآه البعض اختراقًا لخصوصيتهم.

تمثل القضية إذن بالنسبة للنوبيين قضية قرون طويلة من الامتهان، وقضية عنصرية بدأت مع الفتح، واستمرت مع الأسرة العلوية، والجمهورية، لذلك لا تقتصر القضية على الأراضي الضائعة، بقدر ما تعد قضية صوت لم يعد مسموعًا، ولم يبق أمامه سوى الصراخ.

حلم العودة لم يبارحهم قط، وتبقى كل الأماكن في "الشمال" أماكن ارتحال مؤقت، في انتظار العودة إلى "بلاد الذهب" مرة أخرى، فهل ننظر نظرة جديدة للقضية النوبية تحمل بعدًا ثقافيًّا، بعيدًا عن الأبعاد السياسية والأمنية، أم تبقى القضية حوارًا بين طرفين، لا يتكلمان لغة واحدة؟
كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة