Close ad

كيف استطاع الطهطاوي الأزهري أن يتعلم الفرنسية ويتجاوز الصدمة الثقافية الغربية ويبهر أهل المعرفة؟

12-11-2016 | 20:37
كيف استطاع الطهطاوي الأزهري أن يتعلم الفرنسية ويتجاوز الصدمة الثقافية الغربية ويبهر أهل المعرفة؟ رفاعة الطهطاوي
الأهرام المسائي - مصطفى جودة
أعلم أن من عادة الفرنساوية أن لا يكتفوا في العلم بمجرد شهرة الانسان بالفهم أو الاجتهاد أو مدح المعلم في المتعلم‏،‏ بل لا بد عندهم من أدلة واضحة محسوسة تفيد الحاضرين في الامتحان قوة الانسان والفرق بينه وبين أمثاله‏.‏ وهذا انما يكون في الامتحانات العامة يحضرها العام والخاص‏، بدعوة مثل دعوة الولائم عادة‏.‏ وهناك امتحانات خاصة‏،‏ وهي أن يمتحن المعلم تلاميذه كل أسبوع أو شهر‏، ليعلم قوة زيادتهم في ذلك الأسبوع أو الشهر‏.. وكل سنة يصنع معنا الامتحان بحضور أعيان الفرنساوية.
موضوعات مقترحة


هذا ما كتبه الشيخ رفاعة في الفصل السادس من كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز" تحت عنوان: "في الامتحانات التي صنعت معي في باريس"، خصوصًا في الامتحان الأخير الذي أعقبه رجوعي إلى مصر.

كان هناك لجنة امتحان نهائي تشبه كل الشبه لجان امتحان الحصول علي الدكتوراه في كل جامعة في كل زمان. عن ذلك يقول الشيخ: وأما صورة الامتحان الأخير الذي به رجعت الي مصر أن مسيو جومار جمع مجلسا فيه عدة أناس مشاهير، ومن جملتهم وزير التعليمات- رئيس الامتحان، وكان القصد بهذا المجلس معرفة قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا.

كتبت لجنة الامتحان في تقريرها أن التلميذ رفاعة قدم الي لجنة الامتحان انتاجه العلمي خلال السنوات الخمس التي أقامها في فرنسا والمكون من جزأين. الجزء الأول يحوي اثنتي عشرة ترجمة لكتب من اللغة الفرنسية الي اللغة العربية، ترجمها الشيخ وهي: الكتاب الأول: نبذة في تاريخ الاسكندر الأكبرمأخوذة من تاريخ القدماء. الثاني: كتاب أصول المعادن، الثالث: رزنامة( نتيجة)، سنة1244 من الهجرة تأليف مسيو جومار، متضمنا شذرات علمية وتدبيرية. الكتاب الرابع: كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدها. الكتاب الخامس: مقدمة جغرافية طبيعية مصححة للسيد هنبلد هنيلض، والكتاب السادس: قطعة من كتاب ملتبرون في الجغرافيا، الكتاب السابع: ثلاث مقالات من كتاب لجندر في علم الهندسة، الكتاب الثامن: نبذة في علم هيئة الدنيا، الكتاب التاسع: قطعة من كتاب فن العسكرية بعنوان علميات ضابطي عظام، العاشر: كتاب أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الافرنج أصلا لأحكامهم.الكتاب الحادي عشر: نبذة في الأساطير اليونانية، والكتاب الثاني عشر: نبذة في علم سياسات الصحة.

الجزء الثاني من أطروحته يشتمل علي رحلته وذكر سفره، اضافة الي ما أحضره معه من كتب صادرة عن مطبعة بولاق قام الشيخ بترجمة بعض أجزائها الي اللغة الفرنسية، وقام بقراءتها بالفرنسية علي لجنة الامتحان.ثم طلبت منه اللجنة أن يقوم بترجمة فورية لكتاب العلميات العسكرية الذي قام بترجمته من الفرنسية الي العربية سابقا، فأجاد ذلك علي الوجه الأكمل كما ذكرت اللجنة في تقريرها. وجاء في تقرير اللجنة:.. أنه ربما كرر بعض الكلمات، وربما ترجم الجملة بجمل، والكلمة بجملة، ولكن من غير أن يقع في الخلط، بل هو دائمًا محافظ علي روح المعني الأصلي. كان تقرير لجنة الامتحان ايجابيا بما قدمه التلميذ رفاعة رافع وتلخص في: تفرق المجلس جازمين بتقدم التلميذ المذكور، ومجمعين علي أنه يمكنه أن ينفع دولته، بأن يترجم الكتب المهمة المحتاج اليها في نشر العلوم، والمرغوب في تكثيرها في البلاد المتمدنة.

يقول الشيخ إن مسيو جومار المعين ناظرًا علي البعثة من قبل محمد علي قام بتهنئته علي اجتيازه الامتحان: كتب لي مسيو جومار مكتوب تهنئة برجوعي الي مصر بعد تحصيل المرام غير أن هذا المكتوب قد ضاع مني. كما أورد الشيخ رفاعة شهادة من مسيو شواليه، مؤرخة في28 فبراير1831، وهو ضابط مهندس في وزارة الحرب الفرنسية، وكان مسندًا اليه تعليم الشيخ رفاعة. كان ما كتبه المشرف شواليه أشبه بالاجازة والشهادة وخطاب التوصية عن أداء الشيخ طوال مدة دراسته:
أشهد أن مدة نحو السنوات الثلاث ونصف السنة التي مكثها التلميذ المذكور عندي لم أر منه الا أسباب الرضا سواء في تعليمه أو في سلوكه المملوء بالحكمة والاحتراس وحسن خلقه ولين عريكته، وقد قرأ معي في السنة الأولي اللغة الفرنساوية والقسمغرافيا( علم الفلك) والجغرافيا والتاريخ والحساب وغير ذلك...وقد صرف جهده مع غاية الغيرة في الترجمة التي هي صنعته المختارة له وأشغاله فيها. ومما ينبغي التنبيه عليه أن غيرة مسيو الشيخ رفاعة تناهت به الي سهر الليالي مما تسبب في ضعف عينه اليسري حتي احتاج الي الحكيم الذي نهاه عن مطالعة الليل، ولكن لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه، ولما رأي أن الأحسن في اسراع تعليمه أن يشتري الكتب اللازمة له، وأنه أنفق في شرائها جزءًا عظيمًا من ماهيته. وقد ظننت أنه يجب علي وقت سفره أن أعطيه هذا الاعلام الموافق لما في الواقع ونفس الأمر، وأن أضيف الي ذلك الافصاح عما في ضميري من كمال اعتقاد فضله ومحبته.

تجدر الملاحظة هنا أن ما قدمه الشيخ من مادة علمية أصيلة وغنية وضخمة للجنة الامتحان، يفوق بكثير ما يقدمه أي طالب في أرقي جامعات العالم للحصول علي شهادة الدكتوراه في زمننا هذا وطبقًا للقواعد والمعايير التي تمنح الدكتوراه علي أساسها، حيث إن منح تلك الشهادة يتطلب أن يتقدم المرشح برسالة تتكون من بحث أصيل جدير بالنشر في مجلة علمية مرموقة. وأن المرشح يتعين عليه أن يدافع عن رسالته أمام لجنة ممتحنين متخصصين. ما فعله شيخنا يفوق متطلبات عدة رسائل دكتوراه.

لم يقتصر أمر تقييم شيخنا علي تقرير لجنة امتحانه، ولكن شمل أيضًا شهادة العديدين من عمالقة المستشرقين الفرنسيين أمثال: سلوستري دساسي، كوسين دي برسوال، جول سلادانو ومدير المكتبة الملكية بباريس مسيو رنو. وكلها شهادات وأوسمة علي صدر شيخنا العملاق، وعلي صدر مصر التي أنجبته.

كتب له سلوستري ديساسي المستشرق الكبير:.. القطعة التي أكملت المطالعة فيها من كتابك النفيس، وحوادث اقامتك في باريس رددتها اليك علي يد غلامك، وتصلك صحبتها حاشية مني علي ما تقوله في باب تصريف الفعل في لغتنا الفرنساوية، فاذا نظرت فيها تبين لك صحة ما نستعمله من صيغة الفعل الماضي، فمن الواجب عليك أن تصنف كتابًا يشتمل علي نحو اللغة الفرنساوية المتداولة عند أمم أوروبا كلها وفي ممالكها، حتي يهتدي أهل مصر الي موارد تصانيفنا في فنون العلوم والصناعات ومسالكها، فإنه يعود لك في بلادك أعظم الفخر، ويجعلك عند القرون الآتية دائم الذكر. نعم تحققت ملاحظة المستشرق الفرنسي الكبير، وأصبح الشيخ رفاعة دائم الذكر في مصر وفي ربوع الأمة العربية وأنه رائد من رواد التنوير وهرم من أهرامات الثقافة المصرية، ليس في القرن التاسع عشر فقط، وانما في القرون التالية كما توقع المستشرق الفرنسي الكبير.

وفي شهادة أخري كتب نفس المستشرق: الي حبيبنا الشيخ رفاعة الطهطاوي، حفظه الله وأبقاه. أما بعد: فإنه سيصلك مع هذا ما طلبته منا من الشهادة بأننا قرأنا الكتاب المشتمل علي حوادث سفرك، فحق لي أن أقول إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وعباراته في الغالب واضحة غير متكلفة، ومنه سيفهم اخوانه من أهل بلاده فهمًا صحيحًا عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية. وكل ما أمعنت فيه النظر من أخلاق الفرنساوية وعوائدهم وسياساتهم وقواعد دينهم وعلومهم وآدابهم وجدناه مليحًا مفيدًا يروق الناظر فيه ويعجب من وقف عليه، ولا بأس أن تعرض خط يدنا علي مسيو جومار، وإن شاء الله تحصل لك بمصنفك هذا حظوة عند سعادة الباشا وينعم عليك بما أنت أهله ودمت علي أحسن حال.

وأضاف: وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة اقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن، حتي تأهل لأن يكون نافعًا في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب خاطر، وله عندي منزلة عظيمة ومحبة كبيرة.

وكتب مسيو كوسين دي برسوال وهو مستشرق كبير متخصص في اللغة العربية وآدابها معلقا علي كتاب الشيخ: قرأت بالتأمل مؤلف الشيخ رفاعة الملقب بتخليص الابريز في تلخيص باريز، فوجدته يتضمن حكاية صغيرة في سفر المصريين المبعوثين الي فرنسا من طرف وزير مصر الحاج محمد علي باشا، وتشتمل علي تخطيط مدينة باريز، وعلي نبذات موجزة في جملة فروع من العلوم المطلوبة التعليم من هؤلاء التلامذة. وقد ظهر لي أن هذا التأليف يستحق كثيرًا من المدح وأنه مصنوع علي وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف، فإنه أهدي لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا وعوائدها وأخلاق أهلها وسياسة دولتها، ولما رأي أن وطنه أدني من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة، أظهر التأسف علي ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الاسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الافرنجي والترقي في صنائع المعاش، وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك. وما نظر فيه في بعض العبارات يدل في الغالب علي سلامة عقله، وخلوه من التعسف والتحامل. وعبارات هذا الكتاب بسيطة أي غير متكلف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة. وحين كانت نسخة هذا الكتاب بيدي كان الجزء الذي يتعلق بالعلوم والفنون غير تام، فما رأيت منه الا نبذة في الرياضيات، وعلم هيئة الدنيا، ومبادئ أصول الهندسة والجغرافية الطبيعية، فهذه النبذات وان كانت موجزة الا أنها مشبعة. فيترجي أن المؤلف يداوم علي تأليف النبذات الباقية بهذه المثابة، واذا اجتمعت هذه النبذات في الكتاب فانها تكون كتاب علوم مستقل، مفتاحا لغيره من العلوم نافعًا لأهل العربية، واذا فرغ الكتاب بهذه الطريقة فإنه يستدل به علي رفعة عقل مؤلفه واتساع دائرة معرفته.

السؤال المنطقي الملح: كيف استطاع شاب صعيدي أزهري أن يتعلم اللغة الفرنسية وأن يتجاوز الصدمة الثقافية الغربية وأن يستوعبها وأن يبهر أساطين العلم والمعرفة بفرنسا، والتي كانت حينها عاصمة العلوم والمعارف؟.

الاجابة ببساطة تكمن في فطرته السليمة وفي الطبيعة الانسانية التي لا تجد تعارضًا مع الحضارة، بل علي العكس تجد فيها رنينًا وتطابقًا، وبالتالي تندمج فيها وتكون جزءًا منها، ويكون نتاجها الحتمي حضارة خالصة. انه قانون الفعل ورد الفعل.

رأي شيخنا أن المعارف منتشرة في باريس، وأنها بلغت أوجها فيها، وانه علي حد تعبيره: لا يوجد من حكماء الفرنج من يضاهي حكماء باريس، بل ولا في الحكماء المتقدمين كما هو الظاهر أيضًا. وأغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة أيضًا. لم تتعارض فطرته أبدا من الاختلاط والتجانس مع أقرانه العلماء وهؤلاء الحكماء، ووجد فيهم ضالته ومراده.

يعزي شيخنا أن أسباب تقدم الفرنسيين في العلوم والفنون مرده سهولة لغتهم وسائر ما يكملها وأن لغتهم لا تحتاج الي معالجة كثيرة في تعلمها وأن أي انسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان، حيث إنه لا التباس فيها أصلا، فهي غير متشابهة. يقول: اذا أراد المعلم أن يدرس كتابًا يجب عليه أن لا يحل ألفاظه أبدًا، فإن الألفاظ مبنية بنفسها. وبالجملة فلا يحتاج قارئ كتاب أن يطبق ألفاظه علي قواعد أخري برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الانسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه علي سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها. وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، ليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلا للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمتون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها، فإذا شرع الانسان في مطالعة كتاب في أي علم فكأنما تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ، فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم، وعن مجرد المنطوق والمفهوم وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، وأما غير ذلك فهو ضياع. مثلاً اذا أراد انسان أن يطالع علم الحساب، فانه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن ينظر الي إعراب العبارات وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض بأن العبارة كانت قابلة لتجنيس وقد خلت عنه، وأن المصنف قدم كذا، ولو أخره كان أولي، ونحو ذلك. يضيف شيخنا أن الفرنسيين يميلون أيضًا بالطبيعة الي تحصيل المعارف، ويتشوقون الي معرفة سائر الأشياء، فلذلك تري أن سائرهم له معرفة مستوعبة اجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتي انك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم.. وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم.. فأولادهم دائمًا متأهلون للتعلم والتحصيل ولهم تربية عظيمة، وهذا ينطبق علي كل الفرنسيين. وأما علماؤهم فإنهم متعددو المعارف، إضافة الي إجادة التخصص، وقدرتهم علي التجديد والابداع والاكتشاف. يضيف الشيخ أن ما يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية، التي من جملتها علم الأحكام والسياسات. والعلوم في باريس تتقدم كل يوم، فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا يكتشفون شيئا جديدًا، وقد يكتشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة أو وسائط أو تكميلات.
اقرأ أيضًا: