مازلت أذكر حوار الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية الأسبق، ببرنامج مصر النهاردة، وهو يتحدث عن الحد الأدنى للأجور، والذى كان قد حدده المجلس القومى آنذاك عند 400 جنيه، مما أثار حاله من الغضب والاستياء، ليقول "إننا نتمنى لو أن الحد الأدنى للأجر أعلى، ولكننا نخشى أن يتسبب الرفع فى زيادة معدل البطالة".
موضوعات مقترحة
وذكر حينها أن إجمالى بند الأجور فى الموازنة العامة كان يدور حول 96 مليار جنيه مع عجز فى الموازنة يقارب 98 مليار جنيه بنسبة 8.10% من إجمالى الناتج المحلى.
ويبدو أن الشارع لم يستوعب فى ذاك الوقت المبررات التى ساقها السيد الوزير فى حواره، ولذا أرجع البعض أحد أسباب قيام ثورة يناير إلى حد أدنى عادل للأجر لا يقل عن 1200 جنيه، ونظرا للمرحله التى أعقبت الثورة وضعف الحكومات التى تلتها وعلى رأسها بالطبع حكومة الدكتور عصام شرف، بدأت فى رفع الحد الأدنى للأجور لإرضاء الشارع الثائر وتنفيذ حكم محكمة القضاء الإدارى، ليرتفع بند الأجور فى موازنة 2012 إلى 142 مليار جنيه، يقابله على الجانب الأخر ارتفاع عجز الموازنه إلى 143 مليار جنيه.
واستمرت الحكومات التاليه فى رفع الأجور لأسباب متعدده، لدرجة أنه سيصل خلال العام المقبل إلى 228 مليار جنيه مع ارتفاع عدد موظفى الجهاز الادارى إلى 6 ملايين و200 ألف، بمعدل موظف لكل 12 مواطنًا وهو المعدل الأعلى على مستوى العالم.
ويقابله على الجانب الأخر عجز موازنه مرشح لملامسة 300 مليار جنيه على الرغم من ترشيد دعم الطاقه وتراجع أسعار النفط عالميًا، ومن هنا يتضح أن عجز الموازنه يتحرك صعودا مع أى زيادة فى الأجور بالإضافه لأسباب أخرى ولكن بدرجه أقل، مثل ارتفاع خدمة الدين، لكن الأهم أن تلك الزيادة ليست ناتجة أو قائمة على أساس اقتصادى أو إنتاج حقيقى، مما ينتج عنها زيادة مطردة فى أسعار السلع وارتفاع معدلات التضخم، ليطرح السؤال نفسه، هل القيمه الشرائية لمبلغ 400 جنيه، الذى لم يرضى عنها الشارع عام 2010 تزيد أو تقل عن القيمة الشرائيه لمبلغ الـ 1200 جنيه الأن.
ورغم كل هذه الزياده فى معدل الأجور إلا إنها لا تتناسب مع مستوى المعيشه الحالى باعتبار أن الزيادة فى الأجر دون أساس اقتصادى كما سبق وأشرنا سيقابلها ارتفاع فى أسعار السلع أضعاف مضاعفة، ولذا لم يشعر المواطن بأى تحسن فى المعيشة، بل قد تسوء أوضاعه كما هو حادث الأن.
وللأسف المتضرر من هذا ليس فقط موظفى الدولة، وإنما الضرر الأكبر يقع على موظفى القطاع الخاص والذين يقاربون على 16 مليون شخص يعانون من الارتفاع الجنونى فى الأسعار مع ثبات أو تراجع فى الأجور، بل والبطالة بفعل التسريح بعد غلق العديد من المصانع نتيجة التضييقات الحكومية والسياسات المالية والنقدية المعوقة للاستثمار، وكله لتوفير العجز فى الموازنة لصالح بنود عدة وأبرزها بند الأجور.
والحكومه بكل أسف بدلا من أن تعيد النظر فى ملف الإنفاق بشكل عام، تعود للبحث عن قروض أخرى بعد أن تآكلت الودائع والمنح الخارجيه فى سد العجز بدلاً من توجيهها للمشاريع التنمويه، لترتفع خدمة الدين أكثر وأكثر، مع انتهاج سياسات مالية طاردة للاستثمار وفرض المزيد من الضرائب لتزداد معاناة القطاع الخاص، فهى مازالت تتعامل مع الوضع على أننا فى ثوره، والقرارات يجب أن تحظى بقبول قبل اتخاذها، وتلك الطريقة فى الإدارة نهايتها معروفة للأسف.
والأدهى من هذا كله، وعلى الرغم من أن الحكومه عاجزة أصلا عن تلبية متطلبات المواطن المصرى، فاجأتنا لجنة الدستور "الحالمه" بأعباء إضافيه على الموازنه العامه بدعوى تحسين خدمات الصحة والتعليم والبحث العلمى، فأقرت بعض المواد لزيادة الإنفاق بمقدار 10% من إجمالى الناتج المحلى عام 2017، وهو ما يعنى قرابة 250 مليار جنيه إضافيه، والحقيقه أن الفكره نبيله لا شك، فلا يمكن أن يرفض أحد زيادة مخصصات تلك الخدمات، ولكن ماذا عزيزى القارىء لو علمت أن 80% من هذه المخصصات سيتم توجيهها لرفع الأجور.
وبطبيعة الحال كل هذه الزياده فى الإنفاق هى فى حقيقتها على حساب المواطن، فارتفاع بند الأجور أو تلك المخصصات فى الموازنة العامة يقابله على الجانب الأخر توسع فى الاقتراض وارتفاع حجم الدين، بالإضافة إلى ضرورة الخفض فى بنود أخرى، وأهمها بالطبع الدعم ومخصصات الاستثمار، فالمسأله ببساطة عبارة عن ترشيد فى ملف الدعم ينتج عنه ارتفاع أكبر فى معدل التضخم، لتتآكل القوة الشرائيه للنقود، وترتفع آسعار السلع أضعافا مضاعفة بالمقارنة مع زيادة الأجر.
هل علمتم الآن لماذا يتراجع الجنيه!؟، هل علمتم أسباب الارتفاع الجنونى فى الأسعار على مدار السنوات الأربع الماضيه؟.
بالتأكيد هناك أسباب أخرى عديده يصعب تعديدها لضيق المساحه، ولكننا ركزنا فى بند الأجور على اعتبار أنه من أهم أزمات الموازنه العامه للدوله، ويبقى فى النهايه أن نعيد ونكرر التساؤل، متى ستتجرأ الحكومة على فتح ملف هيكلة الجهاز الإدارى على الرغم من دعمها بشعبيه جارفه للرئيس؟.
وهل يكفى قانون الخدمه المدنية؟ وماذا أيضا عن ملف الخصخصه؟، متى سنبدأ التخلص من الشركات الخاسرة؟، أذكركم ونفسى بما فعلته ألمانيا بعد توحيدها لانقاذ الاقتصاد، حين عرضت بيع بعض شركاتها بمارك واحد فقط، لتتخلص من أعبائها بعد أن فشلت كافة الطرق فى انقاذها.
[email protected]