مناقشة قضية التنمية المستدامة في ظل أزمة كورونا مع الدكتور محمود محيي الدين، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، تعد مناقشة من خلال عين خبير واقتصادي ومسئول فى آن واحد، وهو ما يساهم في تكوين رؤية شاملة لهذه القضية المهمة، التي تشكل تحديا بالغ الأهمية للدول النامية والأسواق الناشئة، التي كانت تسعى جاهدة قبل الجائحة؛ لتحقيق أجنداتها للتنمية المستدامة.
موضوعات مقترحة
أكد محيي الدين في حواره لـ"بوابة الأهرام"، أن التحديات جمة أمام الدول النامية والأسواق الناشئة في ظل أزمة، تسببت في ركود عالمي هو الأشد منذ الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨/٢٠٠٩، خاصة فيما يتعلق بأجندات التنمية المستدامة وتحقيقها بهذه الدول، لكنه أكد أيضا أن تحقيق هذه الأهداف هو بمثابة طوق نجاه لهذه الاقتصادات من تداعيات اقتصادية واجتماعية قد يمتد أثرها على المدى الطويل.
- كيف ترى تأثير جائحة كورونا على الدول النامية والأسواق الناشئة، والآثار المترتبة عليها في المدى القريب والمتوسط؟
جائحة كورونا هي كارثة إنسانية في المقام الأول ذات تأثيرات سلبية شديدة على حياة البشر، وكذلك على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كما هو الحال الآن، وحتى الوصول إلى علاج أو لقاح معتمد للفيروس، فإن دول العالم أجمع، بما فيها الدول النامية والأسواق الناشئة، عليها أن تتعامل مع تبعات الجائحة على البشر سواء المصابين أو المخالطين لهم لأنهم في الحقيقية هم في تهديد مستمر لأرواحهم.
الحرب ضد هذا الفيروس الان تدور بشكل أساسي حول التشخيص ولتتبع والعزل والتعامل مع المصابين والمخالطين بما يحد من انتشار المرض وبما يحفظ أرواح البشر حتى يتم التوصل إلى لقاح؛ وحتى ذلك الحين، فالدول النامية والأسواق الناشئة في حاجة ماسة تفرضها الظروف الحالية إلى إجراءات وترتيبات من شأنها محاصرة هذا المرض وتبعاته في المستقبل.
هناك الكثير من الدروس التي يمكن الخروج بها من هذه الأزمة غير المسبوقة، وأهمها أن كافة الملفات والأمور المتعلقة بالصحة والرعاية الصحية في الدول النامية لابد أن تؤخذ على محمل أكثر جدية؛ خاصة أن الأزمة كشفت كيف أن النظم الصحية حتى في أكثر بلاد العالم تقدما هشة، وتحتاج إلى مزيد من التطوير والاهتمام الذي يمكنها من مواجهة واستيعاب أزمة كالتي نمر بها الآن.. فهذا هو الدرس الأهم الذي يجب على الحكومات استيعابه لأن البشر هم الاستثمار والمقوم الحقيقي للاقتصاد في جميع الدول.
وهناك عدد من التبعات التي تسببت بها الجائحة عالميا والتي ستلقي بظلالها بل شك على الدول النامية والأسواق الناشئة، ومنها استمرار تدهور الأداء الاقتصادي بانكماش الناتج الاجمالي العالمي بحوالي ٥٪ خلال ٢٠٢٠، مقارنة بالعام الماضي، مع تراجع في معدل الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو ٤٠٪ وانخفاض حركة التجارة الدولية بما يقرب من ٢٠٪ بالإضافة إلى خسائر قطاع السياحة التي تتراوح بين ٦٠٪ و ٪ مقارنة بعام ٢٠١٩.
أضيف إلى ذلك تفاقم حدة الدين عالميا ليصل إلى ٢٥٨ تريليون دولار (ما يعادل ٣٣٥٪ من الناتج الاجمالي المحلي العالمي)، وأيضا زيادة فجوة التمويل المطلوب لتحقيق للتنمية المستدامة بمقدار ٧٠٪ لتصل إلى٤.٢ تريليون دولار، وهي أزمة تعاني منها أيضا الدول النامية والأسواق الناشئة التي توسعت في الاقتراض لمواجهة تداعيات كورونا وتوفير السيولة النقدية بأسواقها اللازمة لضمان استمرار عجلة الاقتصاد في الدوران.
- انطلاقا من ذلك... كيف أظهرت الأزمة الوضع الخاص ببنية الرعاية الصحية في الدول النامية؟
أثبتت الأزمة بما لا يدع مجالا للشك أن هناك تجاهلا للهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة المتعلق (طبقا لأجندة الأمم المتحدة في هذا الشأن) بتوفير رعاية صحية متكافئة وذات جودة عالية والاستثمار في الاستعداد لمواجهة الأزمات وكافة أشكال تطوير نطام صحي ملائم.. وللأسف فإن تجاهل هذا الهدف قد ثبت في دول العالم أجمع خلال الأزمة بما تشمله من دول نامية ومتقدمة أيضا.
ولكن السباق الدائر الان لتطوير لقاح ضد الفيروس وثبوت فاعلية العديد منها يعكس أملا في انفرج الأزمة الصحية الراهنة، كما أن سرعة تطوير عدد من هذه اللقاحات هي الأسرع من بين تجارب أخرى تزامنت مع ظهور وباء إيبولا، وكذلك وباء سارس على سبيل المثال والتحدي هنا يكمن في توفير هذا اللقاح للجميع، والذي يتطلب توفير تدابير بإجمالي ٣٣ مليار دولار، وتدعيم البنية الصحية خاصة في بلدان الدول النامية.
- لنتحدث عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا على الدول النامية والأسواق الناشئة..؟
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة يمكن أن يتم الوقوف عليها من خلال توقعات المؤسسات المالية العالمية للاقتصاد العالمي (بما فيها اقتصادات الدول النامية) وعلى رأسها تقديرات صندوق النقد الدولي التي صدرت في أبريل، والتي أكدت دخول العالم في مرحلة ركود اقتصادي جراء الجائحة، وهي التقديرات التي تمت مراجعتها في يونيو، والتي كشفت عن أنه من المتوقع أن يبلغ النمو العالمي 4.9% في عام 2020، بانخفاض قدره 1.9 نقطة مئوية عما تنبأ به الصندوق في أبريل (٣٪).
كما أن تقرير افاق الاقتصاد العالمي الصادر عن الصندوق في يونيو، قد أشار إلى أن تأثير جائحة كورونا على النشاط الاقتصادي في النصف الأول من عام 2020 أكثر سلبا من المستوى المنتظر، ومن المتوقع أن يكون التعافي أكثر تدرجا وصعوبة مما أشارت إليه التنبؤات السابقة.
وقد امتدت التوقعات السلبية أيضا إلى عام 2021، فمن المتوقع أن يبلغ النمو 5.4%، مما سيؤدي إلى خفض إجمالي الناتج المحلي في عام 2021 بنحو 6.5 ٪ نقطة مئوية مقارنة بتوقعات يناير 2020 السابقة على ظهور كورونا، وأن التأثير سيكون سلبيا وبشدة على الأسر منخفضة الدخل مما يهدد التقدم الكبير الذي تحقق في الحد من الفقر المدقع على مستوى العالم منذ تسعينيات القرن الماضي.
وللأسف فإن الدول النامية سيكون نصيبها من التأثيرات السلبية أكبر خاصة فيما يتعلق بالتراجع في النشاط الاقتصادي؛ فجميع التقارير والتقييمات الصادرة عن المؤسسات المالية الدولية ومؤسسات التصنيف العالمية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن العالم أجمع قد دخل مرحلة الركود الاقتصادي وأن الدول في حاجة إلى العمل، على ألا يتحول هذا الركود إلى كساد وهو أشد حدة وينبئ بمستويات منخفضة من النمو على المدى الطويل.
وبناء على ذلك فإن الدول النامية حقيقة تخوض حربين حاليا، الأولى هي حرب احتواء الفيروس والنزول بعدد الإصابات والوفيات، والثانية حرب احتواء منحنى النمو الاخذ في الهبوط جراء الجائحة، والذي يتأثر بشدة أيضا بتدهور مستويات النمو الحالية والمتوقعة للاقتصاد العالمي.
هناك ١٧٠ دولة حول العالم (نامية ومتقدمة) ستشهد انخفاضا حادا في مستوى دخل الفرد إلى الناتج المحلي الإجمالي؛ كما أن التأثير على معدلات البطالة سيكون سلبيا بشكل بالغ وكذلك على معدلات الفقر ومستويات الدخول والمساواة أيضا.
- إذن كيف يمكن للدول النامية أن تعيد ترتيب أجندة أولوياتها على الصعيد الاقتصادي لمواجهة التحديات التي تفرضها الجائحة؟
إن الدول النامية لابد أن تولي اهتماما كبيرا بالملف الصحي على النحو الذي ذكرته سابقا؛ فإن الاستثمار في المستقبل هو بعد أساسي في مسألة إعادة ترتيب أولويات هذه الدول وعبور مرحلة التعافي.
الدول النامية لابد أن تضع على رأس أولوياتها الاستثمار في رأس المال البشري والبنية التحتية والإنتاج وفي كافة الوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق مرونة الاقتصاد، وإكسابه القوة اللازمة لاستيعاب الأزمات الداخلية والخارجية، وأن يكون قادرا على امتصاص الصدمات الاقتصادية المحتملة مستقبلا.
- ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول النامية والأسواق الناشئة في مواجهة الآثار الكارثية لهذه الجائحة؟
هنا يمكن القول بأن الأهداف الـ١٧ التي وضعتها الأمم المتحدة للتنمية المستدامة تعد بمثابة الطريق الذي بسلوكه يمكن أن يساعد هذه البلدان في مرحلة التعافي وبناء اقتصادها بشكل أفضل كأحد أهم الدروس المستفادة من أزمة الجائحة؛ فهذه الأهداف تشجع الدول على التعامل والتصدي للتحديات المتعلقة بمعدلات الفقر والصحة وعدم المساواة وغيرها من قضايا مهمة، وأن تعم فائدة ذلك على كافة الأفراد في كل هذه الدول.
ووفقا لبحث أجريته مؤخرا بالتعاون مع "مايكل كيليهير" - المساعد الخاص الأسبق للرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما، والمستشار السابق بمجوعة البنك الدولي، ونشر بموقع معهد أبحاث بروكينجز الأمريكي- فان العديد من أهداف التنمية المستدامة من شأنها بالفعل التعامل مع تداعيات الأزمة الراهنة، وكذلك التعامل مع التداعيات على المدى الطويل.
في هذا الإطار؛ فان الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة والمتعلق بتحقيق صحة أفضل للدول النامية ورفاهية شعوبها يمكن أن يساهم - على المدى الطويل- في وضع نظام صحي يضم تحت مظلته جميع أفراد الشعوب في دولها، ويضمن توفير الرعاية الصحية الأساسية ويوفر الخدمات الوقائية للجميع، خاصة مع التأثيرات الصحية طويلة المدى للوباء.
كما أن ذلك يمكن أن يساهم أيضا في دعم قدرات هذه الدول في الاكتشاف السريع والمبكر للعديد من الأمراض في المستقبل، وبالتالي توفير العلاجات وتطبيق إجراءات احتواء انتشارها بشكل أسرع، مما يؤدي إلى تقليل الخسائر الاقتصادية والإنسانية مستقبلا.
والهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة -المتعلق بجودة المياه ونظم الصرف الصحي- فسوف يساعد هذه الدول على تطوير نظام عالمي، يسمح بالفرصة للجميع للحصول على مياه شرب نظيفة ونظام صرف صحي مناسب بتكلفة يمكن تحملها، مما يساهم في الحد من انتشار العدوى ويحسن من صحة الأفراد خاصة إذا علمنا أن حوالي ٣ ملايين شخص حول العالم لا يحصلون على حتى أبسط أدوات النظافة والعناية الشخصية في ظل انتشار فيروس كورونا.
- كيف يساهم تحقيق الأهداف التنمية المستدامة في التعاطي مع تداعيات انتشار الجائحة فيما يتعلق بتنامي الجوع والتعليم؟
الهدف الثاني من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة يركز على القضاء على الجوع، ولكن الجائحة تسببت في تراجع كبير لحركة التجارة العالمية، وأثرت بشدة على سلاسل الامداد العالمية خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الغذائية وأيضا المنتجات الزراعية التي تدخل بطبيعتها في تصنيع الغذاء، وبالتالي فان العمل على وضع نظام يكفل الأمن الغذائي على المدى الطويل لشعوب الدول النامية من خلال الاستثمار في التكنولوجيا، التي يمكنها تطوير وتحسين الإنتاج الزراعي، وأيضا تحسين دخول صغار المزارعين هو مطلوب وبشدة مع تفاقم أزمة الفقر والجوع.
وبالنسبة للتعليم؛ فانه في الوقت الذي يرمي فيه الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة إلى تحقيق جودة التعليم في البلدان النامية فقد أجبرت الجائحة ١.٥ مليون متعلم - وفقا لتقدير منظمة اليونسكو- على البقاء في منازلهم بسبب إجراءات الإغلاق التي اتبعتها الدول للحد من انتشار الفيروس وللحفاظ على الأرواح وتقليل خسائرها.
والحقيقة أن هذا الهدف سيمكن الدول النامية من وضع نظام تعليمي قادر علو توفير التعليم بشكل متكافئ للجميع خاصة الفتيات ويضمن وصولهم إلى مراحل التعليم الثانوي والجامعي مدعوما بالتدريب الفني للطلاب وكذلك تدريب المعلمين.
- ماذا عن خطة منظمة الأمم المتحدة لمساندة الدول النامية في التعاطي مع الأزمة وآثارها المترتبة؟
منذ اندلاع الأزمة في مارس عملت الأمم المتحدة على الدعوة لإنهاء النزاعات والصراعات في هذه الدول؛ فلا يمكن أن تستمر هذه الصراعات في وقت يفتك فيه الفيروس بأرواح البشر خاصة في هذه الدول، وذلك لتركيز كافة الجهود لمواجهة الجائحة وتبعاتها من خلال حشد جميع الجهود، والتوسع في كافة الأنشطة التي من شأنها احتواء انتشار المرض وتقليل حدة التوابع الاقتصادية والاجتماعية على اقتصادات هذه الدول بشكل عام والأفراد بشكل خاص.
وقد حدد التقرير الأخير للأمم المتحدة حول الاثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة ثلاثة مجالات للأنشطة التي يمكن العمل عليها في هذا الصدد، تتضمن حشد كافة الجهود الممكنة في مجال الرعاية الصحية وتوفير كافة المصادر التي يمكن من خلالها الحصول على أدوات تشخيص المرض وأدوات الحماية الشخصية، وأيضا توفير أجهزة الرعاية الصحية والمستلزمات بصورة مركزية حتى تكون الرعاية الصحية في متناول الجميع إلى جانب دعم كافة الجهود الرامية إلى الوصول إلى لقاح للفيروس، لأن اللقاح هو بداية التحكم الفعلي في الجائحة واحتواء اثارها.
يجب وضع ضوابط اجتماعية واقتصادية من شأنها تقليل الاثار السلبية، قدر الإمكان، على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بهذه الدول، على أن تتضمن ضوابط للحماية الاجتماعية، وأن تشمل الجميع وتقديم كافة سبل الدعم للمجتمعات وتحقيق تكافؤ الفرص في النشاط الاقتصادي من خلال دمج النساء بشكل أكبر في اقتصادات هذه الدول؛ خاصة أن المرأة للأسف في خضم هذا النوع من الأزمات تكون من أكثر المتعرضين للتأثيرات السلبية التي تؤثر على معيشتها وحياتها، هذا إلى جانب التوسع في دعم قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتي تدعم الاقتصاد في أوقات الازمات بشدة، كما أن التوسع في هذا النوع من المشروعات سوف يساعد في تخفيف حدة البطالة والفقر التي تسبب الجائحة في زيادتها.
والأمم المتحدة تقوم بدعم هذه الأنشطة بالفعل من خلال التعاون والشراكة مع حكومات هذه الدول والمؤسسات المالية الدولية والمجتمعات المحلية.
- تحدثت عن ثلاثة أنواع من الأنشطة.. ماذا عن النوع الثالث؟
هذا النوع يتعلق بكفية إعادة بناء اقتصادات هذه الدول بما يمكنها من التعافي من آثار الجائحة والتخطيط للمستقبل، وهو ما يتطلب حشد كافة الجهود لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بما يمكنها في النهاية من مكافحة الفقر وتحقيق مستويات أعلى من المساواة والاستثمار في رأس المال البشري والتنمية الاجتماعية وتطوير الحكومات نفسها وأدائها.. لابد أن نتعلم من الأزمة وأن نستغلها في تدشين بنية مالية قوية داعمة للاقتصاد.
- ما هي المقومات التي يمتلكها الاقتصاد المصري والتي من الممكن أن تساعده في مرحلة التعافي والخروج بأقل الخسائر الممكنة من الجائحة؟
بشكل عام مصر تمتلك فرص هائلة فيما يتعلق بالاستثمار، وهو الحال أيضا بالنسبة للدول النامية والأسواق الناشئة خاصة الاستثمار في البشر والتعليم والرعاية الصحية والتدريب وهي قطاعات تحتاج الكثير من الاستثمارات الحكومية وأيضا استثمارات القطاع الخاص.
كما أن الأزمة أكدت الحاجة الملحة والماسة للتحول الرقمي على كافة المستويات وفي كل القطاعات، وهو ملف يحتاج أيضا إلى العديد من الاستثمارات المحلية والأجنبية خاصة أنه من الملفات التي تدعم النظام المالي والاقتصادي لمصر ولغيرها من الدول النامية والناشئة.
قطاعات واعدة عديدة لابد من العمل على جذب الاستثمارات إليها من أجل اقتصاد أكثر قوة ومرونة وقدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية والأزمات العالمية المحتملة.
- ما هي الاستثمارات الأخرى التي تحتاج الدول النامية والأسواق الناشئة إلى التوسع فيها بما يساعدها على التعافي من اثار الجائحة؟
استثمارات البنية التحتية مهمة جدا في هذه المرحلة لأنها تساعد في تسهيل عمل الأنشطة الاقتصادية في البلاد كما أن العمل على إنشاء المناطق الاستثمارية والأنشطة الصناعية والتي من المقومات التي ستساعد اقتصادات هذه الدول على المضي قدما في المدى المتوسط والطويل.
الاستثمار في البنية التحتية أيضا يحتاج إلى التوسع في استثمارات البنية التحتية التكنولوجية وأنظمة وشبكات البيانات والمنصات الالكترونية وما يصاحبه بالطبع من أخذ الذكاء الاصطناعي على محمل أكثر جدية خاصة في قطاعات التعليم والأنشطة الاقتصادية على اختلافها.
أيضا تحتاج الدول النامية والأسواق الناشئة إلى الاستثمار مرونة وقوة المجتمع والاقتصاد في آن واحد؛ المرونة والقوة في التعامل مع مختلف الصدمات الداخلية والخارجية كالتغير المناخي والتكيف مع الصدمات وتخفيف حدتها على الاقتصاد والأفراد إلى جانب التركيز على متطلبات واحتياجات قطاع الطاقة ليكون أكثر اعتمادية على المصادر المتجددة وأن يكون أكثر استقلالية.
- جاءت أزمة تراجع أسعار البترول العالمية وتقليل إنتاج النفط.. كيف ترى تأثير هذه الأزمة وانعكاساتها على اقتصادات الدول النامية والأسواق الناشئة؟
هذه الأزمة كانت ذات نوعين من التأثير؛ فأزمة أسعار البترول وضعت جميع الدول في مأزق يجعلها تسارع في تعظيم استثماراتها في مصادر الطاقة المتجددة، وهو أحد أهم أهداف التنمية المستدامة التي يتم من خلالها التعامل مع التغير المناخي والتقليل من الاعتماد على البترول كمصدر رئيسي للطاقة وكذلك الكهرباء، التي يجب ان يتم استبدالها بالكامل بالطاقة الشمسية.
من ناحية أخرى، فان الأزمة ضاعفت من التأثيرات السلبية على اقتصادات الدول النامية، وتخفيض إنتاج الدول المنتجة للبترول خاصة، وأن الأسعار وصلت في مرحلة من المراحل لمستويات انخفاض تتخطى ٧٠٪ مقارنة بمستويات ما قبل كورونا، وهي فرصة للتحول للاقتصاد الأخضر من أجل اقتصاد مستدام يتبنى التنمية المستدامة ويعمل على التسريع بمرحلة التعافي بالنسبة لهذه الدول.
في ضوء تقديرات المؤسسات الدولية للنمو الاقتصادي العالمي وأداء مؤشرات الاقتصاد الكلي في ظل التأثير المضاعف لجائحة كورونا من ناحية وانهيار أسعار البترول من ناحية أخرى.. كيف يمكن لهذه التوقعات السالبة أن تحد من قدرة الدول النامية والأسواق الناشئة على تحقيق أجندتها الخاصة بأهداف التنمية المستدامة؟
أعتقد أنه إذا عملت هذه الدول على تصميم وصياغة أنشطتها الاجتماعية والاقتصادية بمت يدعم اقتصاداتها وينميها؛ ليس فقط على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل مع الوضع فى الاعتبار التأثيرات الهائلة لأزمة كورونا التي ستمتد لسنوات، فان ذلك سوف يساعد كثيرا هذه الدول على التعافي، وذلك من خلال التركيز على تبني كافة السياسات والإجراءات التط تكفل تحقيق أهداف التنمية المستدامة الـ١٧ والتي لا نهدف إلا إلى بناء اقتصادات مستدامة قادرة على تحمل الصدمات وتحقق رفاهية العيش والمساواة لكافة مواطنيها.
الأزمة الحالية تعكس مدى أهمية تحقيق أهداف التنمية المستدامة خاصة الاقتصادية والاجتماعية منها، وهي الجوانب التي تأثرت بحدة بسبب الجائحة، وخاصة الهدف الثالث المتعلق بالرعية الصحية، والذي أدى تجاهله إلى حالة الفوضى وعدم القدرة على تحمل الصدمة حتى في أشد البلدان تقدما.
هذا الأمر ينسحب أيضا على أهمية تحقيق مستوى مقبول من المعيشة للمواطنين يمكنهم من الحصول على أدوات العناية الشخصية والتعقيم للحماية من تأثير الفيروس وكذلك المواد الوقائية لان الطبقات التي تعاني من الفقر أو مستويات دخول منخفضة شراء قطعة من الصابون بالنسبة إليهم هو نوع من الرفاهية نظرا لتدني بل وانعدام مستويات الدخول بالنسبة لهم.
- وكيف يمكن تنفيذ ذلك على أرض الواقع؟
العمل في المدى القصير يتطلب تقديم الدعم اللازم للفئات الأكثر تضررا، خاصة الطبقات الفقيرة مع العمل في الوقت ذاته للمدى الطويل من خلال الاهتمام بالبنية التحتية في جميع القطاعات، كي تكون قادرة على مواجهة الصدمات المحتملة في المستقبل.
أهداف التنمية المستدامة لابد وأن يتم التعامل معها على أنها مرتكزات للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بالدول النامية، وكذلك مرحلة التعافي التي تمر بها هذه الدول والأسواق الناشئة، التي تمثل أهداف التنمية المستدامة طوق النجاة لها في الوقت الراهن ومستقبلا.
- انطلاقا من خبرتك كوزير سابق للاستثمار في الحكومة المصرية.. كيف ترى مستقبل الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول النامية والأسواق الناشئة وكذلك الاستثمارات المباشرة وكذلك أسواق الأسهم خلال الأزمة وأيضا في مرحلة ما بعد الأزمة؟
كافة الاستثمارات عالميا بلا شك قد تأثرت سلبا بأزمة كورونا، ومن ناحية أخرى فان تأثير كورونا على ميزانيات الدول النامية والأسواق الناشئة قد حدا ببعض الدول لترتيب أولويات انفاقها، وبالتالي قد يأتي ذلك على حساب مخصصات الاستثمارات العامة في الميزانيات، كما ان الاستثمارات الخاصة قد تحد من نشاطها لمراقبة السوق خاصة مع الاستعداد لموجة ثانية من الفيروس وما هو معروف من انها ستكون أشد خطورة.
وبالنسبة للاستثمارات الأجنبية غير المباشر؛ فهناك بالفعل تقارير تتحدث عن تراجع هذه النوعية من الاستثمارات تتراوح بين ٣٥٪ و٤٠٪ عالميا خلال ٢٠٢٠ مقارنة بمستويات ٢٠١٩.
وفي الوقت نفسه، فان عدم الاستقرار الذي تشهده أسواق المال وهروب رؤوس الأموال من الأسواق سيكون له تأثير سيئ بلا شك على الاستثمارات خاصة في الدول النامية والأسواق الناشئة على المدى القصير بشكل خاص.
وهنا أؤكد أن نظرة الدول النامية والأسواق الناشئة للاستثمار لابد أن تتغير في مرحلة ما بعد الكورونا؛ نظرة تعتمد على توطين التنمية لانها السبيل للتعافي من الأزمة وتحقيق النمو الاقتصادي المطلوب بحيث يتم توفير كافة مقومات الحياة والتعليم والاستثمار والصحة وغيرها من مستهدفات التنمية المستدامة وتوجيه الاستثمارات اليها لتحقيق اقتصاد مستدام قادر كما أوضحت سابقا على امتصاص الصدمات والتعامل مع تبعاتها.
- وماذا عن الدور الذي يجب أن تلعبه الحكومات في هذا الشأن؟
الحكومات سوف تتجه أكثر للاستثمار في البنية التحتية لتكون أكثر مرونة ومقاومة في كافة القطاعات، في حين سيضع القطاع الخاص نصب عينيه الاستثمار في القطاعات الرابحة والتي اثبتت أهميتها وربحيتها خلال الأزمة، وتحتاج الى رؤية مختلفة في مرحلة ما بعد الكورونا، مثل الصحة والتعليم والخدمات والرقمنة والاستثمار بشكل أكبر في الاقتصاد القائم على الرقمنة أو الاقتصاد الرقمي، كما أتوقع أن يتم الاتجاه أكثر إلى توطين التنمية؛ بمعني ان يتم توجيه استثمارات أكثر للبنية التحية والقطاعات الإنتاجية.
وأود هنا أن أشدد على أن ضمن هذه الاستثمارات لابد وأن يتم التركيز على توسيع وتركيز الاستثمارات في قطاع التعليم بشكل كبير وأن تتضافر فيها جهود الحكومات والقطاع الخاص.
- إذن كيف يمكن برأيك تذليل هذه العقبات؟
أري أن هذه الشركات تحتاج إلى سياسة أو إطار تعمل خلاله ويوفر لها الدعم المناسب ولمساعد لها في عملها ومحاولة دمج غير الرسمي منها في النشاط الرسمي، فهذه الشركات يعمل بها غالبية القوى العاملة في أي دولة في العالم وخاصة في الدول النامية، استنادا إلى تقديرات الأمم المتحدة؛ فالشركات الصغيرة والمتوسطة تمثل أكثر من نحو ٩٠٪ من الشركات المسجلة رسميا وهي التي تضم الحصة الأكبر من سوق العمالة والقطاع الإنتاجي بالدول النامية والأسواق الناشئة.
- ما الذي يجب أن تتبناه الدول النامية والأسواق الناشئة من إجراءات نحو دمج النشاط غير الرسمي في النشاط الرسمي خاصة أنه الاتجاه الذي لوحظ ان العديد من المنظمات الدولية الكبرى قد بدأت في التركيز عليه خلال الأزمة الراهنة؟
الحقيقة أنني عملت في مجال الأسواق الرسمية وغير الرسمية لسنوات عديدة، وأبرز نتيجة قد خرجت بها خلال هذه السنوات ان القطاع غير الرسمي هو قطاع غير رسمي لأن القطاع الرسمي ليس رسميا، كما ينبغي وليس كفئا كما ينبغي وليس تنافسيا كما ينبغي.
ومعنى ذلك أن القطاع الرسمي في الدول النامية والأسواق الناشئة مليء بالعقبات والمشكلات، التي تشجع أصحاب المشروعات الصغيرة على تفضيل العمل بشكل غير رسمي كما أنه لا يقدم محفزات تشجع على الاندماج فيه.
وبالتالي؛ فان التركيز على القطاع الرسمي وجعله قادرا على تجاوز ما به من عقبات ومشكلات خاصة ما يتعلق بحجم الانفاق المطلوب ممن هو في القطاع غير الرسمي كي يتم دمجه في القطاع الرسمي وكذلك تسهيل وتيسير إجراءات التسجيل هو أمر لا مفر منه خلال السنوات المقبلة بالشكل الذي يشجع على الاندماج وخاصة ما تنوع سبل الدعم التي يمكن ان يوفرها القطاع الرسمي للقطاع غير الرسمي... لابد من العمل على جعل القطاع الرسمي جاذبا لكافة أنواع الأنشطة الاقتصادية.
وطبقا لأحدث التقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر مثلا فان المنشآت غير الرسمية تمثل حوالي ٥٣٪ من اجمالي منشآت الدولة وهو رقم كاشف عن حجم هذا القطاع... وبالتالي فدمج القطاع غير الرسمي والبدء في تقديم محفزات مثل الشمول المالي والحماية الاجتماعية للمنتمين اليه سوف تكون بداية طيبة خاصة وأن دمجه في القطاع الرسمي سيفيد الاقتصاد الرسمي واقتصاد الدول بشكل عام بكل تأكيد.