يواصل المهندس محمود يونس، الذى تولي رئاسة هيئة قناة السويس خلال الفترة من يوليو عام 1957 حتى أكتوبر من العام 1965، مذكراته المنسية والتى تنشرها "الأهرام المسائى" وهذه المذكرات ظلت حبيسة أدراج مكتبه لعقود، قبل أن تفرج عنها أسرته قبل نحو عشر سنوات، وتصدرها هيئة قناة السويس في كتاب لم يشعر به أحد على أهميته، وما يضمه من وثائق ووقائع، تعكس جانبا مهما من تاريخ ذلك المرفق الكبير، الذي حفره المصريون قبل ما يزيد على قرن من الزمان بالعرق والدم.وفى الحلقة الخامسة يقول يونس:
موضوعات مقترحة
ألفت إنجلترا لجنة جاءت إلى مصر، ووحدت ديون سعيد وإسماعيل، فبلغ مجموعها 91 مليون جنيه إسترليني، وترتب على ذلك إخضاع خزانة البلاد إلى رقابة ثنائية من عضوين، أحدهما إنجليزي والثاني فرنسي، وأنشئ صندوق الدين لجباية أقساط القروض وتوزيعها على الدائنين، قبل أن تتشكل في 27 يناير من العام 1878، "لجنة التحقيق الأوروبية العليا" برئاسة فرديناند ديليسبس، لإجراء تحقيق عن أسباب العجز في إيرادات الدولة، وقد منحت هذه اللجنة نفسها اختصاصات واسعة، فاتصلت بمختلف مصالح الحكومة وسمعت من ترى حاجة لسماعه، وتمخضت إجراءاتها عن تكوين "وزارة أوروبية" في مصر، تولى رئاستها نوبار باشا، وأسندت فيها وزارة المالية للإنجليزي ريفرس ولسن، ووزارة الأشغال العامة للفرنسي دي بليننيير.
عندئذ أحس إسماعيل بأن زمام الأمور تفلت من يديه، وبإصبع السياسة البريطانية يعبث في سلطاته، فصرح في حديث صحفي: "ما كنت أظن أن إنجلترا، بشرائها أسهم قناة السويس، وإرسالها موظفا لفحص حساباتي، ترمي إلى وضع يدها على مصر"، وكان رد إنجلترا، استصدار أمر من الصدر الأعظم بعزل إسماعيل، وتولية ولده محمد توفيق في 26 يونيو 1879.
نيران الفتنة:
أمعنت الوزارة الأوروبية التي تولت حكم مصر، باشتراك العناصر الأجنبية التي قيل إنها أقيمت لإنقاذ البلد من الخراب، في إذلال الشعب وامتهان كرامته، وكان مما قامت به من أعمال تعسفية بحجة تخفيف أعباء الدولة، إحالة 2500 ضابط إلى الاستيداع في 18 فبراير 1879، دون أن تدفع لهم متأخر رواتبهم عن خمسة عشر شهرا مضت، تعرضوا فيها لألوان المسبغة والضنك.
كان فصل هذا العدد الكبير من الضباط ظلما يعني على نحو مباشر ثورتهم هم وجنودهم، على الحكومة، وكانت قسوة الحكام المتعمدة في معاملة أبناء الشعب، سببا في إذكاء حقد المواطنين وشنآنهم ضد العنصر الأجنبي الدخيل، الذي انتشر في مدنهم انتشار الجراد، وأخذ يقطع عليهم سبل الرزق.
ولما كان للمجتمع قوانين مثل الطبيعة، فقد نشبت فعلا بالإسكندرية في 11 يونيو 1882 معارك بين المواطنين والأجانب، أدت إلى بعض الخسائر في الأرواح من الجانبين، وتألب الضباط على الحكومة، وظهر السخط واضحا في الجيش المصري، وقامت ثورة بقيادة أحمد عرابي لاستخلاص حقوق الشعب، ومواجهة الموقف الشاذ الذي عصف باستقلال البلاد، وهنا تدخلت إنجلترا لحماية الأجانب وحماية الخديوي، فدكت مدافعها حصون الإسكندرية في 11 يوليو 1882، لكنها لم تستطع أن تحتل مصر من هذه الناحية بسبب المقاومة العنيفة التي اعترضت تقدمها في القباري، والهزيمة التي منيت بها في كفر الدوار.
معركة عرابي:
شعرت بريطانيا أن الوصول إلى القاهرة عن طريق الدلتا قد يكبدها الخسائر الفادحة، وقد لا يتحقق لها إطلاقا، وإذ ذاك تحولت أنظارها إلى قناة السويس، فاستبان عرابي الخطة المنطوية على انتهاك حرمة الحياد في قناة السويس، ذلك الحياد الذي نصت عنه المادة 14 من عقد الامتياز.
كان عرابي قد عقد مجلسا حربيا للنظر في أمر القناة، ورأى المجلس وجوب تعطيل الملاحة فيها لمنع الجيش البريطاني من الوصول إلى المدن الواقعة على ضفتيها، والحيلولة دون اتصال القوات الوافدة من الهند، عن طريق السويس، بالقوات القادمة من منطقة البحر الأبيض المتوسط، وما إن نما هذا الخبر إلى دي ليسبس، حتى أبرق إلى عرابي مستجديا على نحو ما ذكر هيو شونفيلد في كتابه "قناة السويس والشؤون العالمية": "إن الإنجليز يستحيل أن يدخلوا القناة فلا تحاولوا تعطيلها، أنا هنا ساهر، لن يجرؤ جندي إنجليزي واحد على النزول إلى البر، وإن فعل لكان في أثره جندي فرنسي، إني أتحمل مسؤولية كل شيء".
وقد نجحت الخدعة، وآمن عرابي بوعود ديليسبس، فلم يردم قناة السويس، ولم يتعرض لترعة المياه العذبة التي توصل مياه النيل إلى الإسماعيلية، بينما كان تعطيل قناة واحدة من القناتين كفيلا بعرقلة أعمال الإنجليز العسكرية وإفساد خططهم، وقد اعترف بذلك الجنرال ولزلي قائد الحملة إذ قال: "لو أن عرابي قد أفلح في سد القناة كما أراد، لكنا مازلنا الآن في البحار البعيدة نحاول محاصرة مصر، وقد كان تأخره 24 ساعة فى اتخاذ القرار سببا فى انقاذنا".
تلك الخديعة، التي راح عرابي ضحيتها، لم تنطل على فرنسي واحد ممن كانوا يقفون على بواطن الأمور، فقد كتبت في هذا الصدد الصحيفة الفرنسية "ديبا" واسعة الانتشار:" يعيب بعض الناس على ديليسبس العلاقات الطيبة التي تربط بينه وبين عرابي، أما نحن فلا نشارك هؤلاء الناس تأنيبهم رغم أننا لا نشعر بأي عطف على الذين يسمون أنفسهم "بالوطنين المصريين"، ذلك أن صداقة دي ليسبس لعرابي ـ سواء أكانت تنبع عن عاطفة أم عن سياسة ـ قد أتت بنتيجة طيبة، ألا وهى احترام العرب لقناة السويس.
وبينما كان دي ليسبس يؤكد لعرابي أنه في مأمن من أي غزو عن طريق القناة، ويقسم بشرفه على حياد المرفق، وينعت أية محاولة لاحتلاله بأنها: "خرق منكر للحياد المنصوص عنه في الفرمانات".
بل ويعقد جمعية عمومية غير عادية للشركة تجتمع في باريس وتعلن رفضها القاطع لاي شكل من اشكال خرق الحياد، فان الحقيقة كانت غير ذلك، فبينما كان ديليسبس دائم الاتصال بعرابي، يلقي في روعه أن القناة طريق حر للملاحة العالمية لا يمكن ارتكاب أعمال حربية فيها، وأن الإنجليز لو سولت لهم أنفسهم أن يخرقوا حيادها، فسوف يتعرضون لسخط العالم بأسره، "إذا بسفينة حربية إنجليزية تعبر القناة ليلة 6/7 أغسطس 1882، بين السويس وبحيرة التمساح دون الحصول على تصريح ودون دفع رسوم العبور"، وقد كان ذلك اول خطوة على طريق الاحتلال.
وحتى لا يشك أحد فيما انطوت عليه هذه الأعمال من انتهاك صارخ لحرية الملاحة في القناة ـ تلك الحرية التي ستحتج إنجلترا بالدفاع عنها لتدمير بورسعيد سنة 1956 ـ وحتى لا يشك أحد فيما اتصفت به هذه الأعمال من قسوة وعنف، سنترك وصفها لشاهد من أهلها، هذا هو المسيو فكتور دي ليسبس، ابن فرديناند دي ليسبس نفسه، يرويها لنا بصفته الوكيل الأعلى لشركة قناة السويس المصرية، في ذلك الحين ويقول: "عدت إلى الإسماعيلية في 18 أغسطس وفي ليلة 18/19، تعطل جهاز التلغراف التابع لنا بالقرب من السويس بفعل فاعل، وقد دلت الآلات التي وجدت في الصباح في مكان الحادث، والطريقة التي اتبعت في تخريبه على أن الجناة من الأوروبيين.
وقد قام المسيو دي روفيل بإعادة الوصلات فورا ثم تسلمنا من المسيو شارتريه وكيل الملاحة في السويس، برقية تضمنت نص الخطاب الذي أرسله إليه في الخامسة صباحا الأميرال هيريست، وقد جاء فيه أنه :"تنفيذا للتعليمات الصادرة من الحكومة البريطانية، ولحين صدور أوامر أخرى، سيحظر الأميرال هيويت دخول القناة البحرية على جميع السفن، بما في ذلك قوارب الشركة، وأنه سيلجأ إلى القوة عند الاقتضاء لتطبيق هذه الأوامر".
بداية المعركة:
في 19 أغسطس حوالي الساعة التاسعة صباحا، دخلت القناة سفينة حربية تابعة للأميرالية البريطانية دون تسديد الرسوم المقررة، ورست عند المدخل لإيقاف سفن البريد والقوارب البخارية، ولم يحدث ما يستحق الذكر من ناحية بورسعيد، بيد أن قرار تعطيل المرور، الصادر عن الأميرال هيويت، كان ينذر بأحداث خطيرة ما لبثت أن وقعت في ليلة 19/20 سبتمبر.
وقد أحال حدوثها مدينة الإسماعيلية الساكنة الوديعة إلى مسرح لمأساة مفجعة، ففي أثناء هذه الليلة، كان جميع السكان الأوروبيين ومستخدمي الشركة وكبار الموظفين المصريين مجتمعين في منزل المسيو بوالبريه رئيس قسم الأملاك، في حفلة رقص بهيجة حضرها بعض ضباط السفن الأسبانية والنمساوية، لكن فى حوالي الساعة الثالثة في ظلام الليل الدامس، هب الناس مذعورين؛ كانت صيحات الحرب تملأ الشوارع ودوي إطلاق النار يمزق السكون وجر المدافع على الطرق يزأر زئيرا.
كانت جنود البحرية البريطانية قد نزلت إلى البر وتوغلت في المدينة دون سابق إنذار للسكان الآمنين بأن وجودهم في الشوارع قد يعرضهم للموت، ترى على من يطلقون النار؟ أي هدف يبتغون؟ ما من عدو يعترض سبيلهم ومعسكرات المصريين الضاربة في نفيشة، تبعد عن الإسماعيلية بثلاثة كيلومترات، لم يكن في المدينة سوى بعض رجال الشرطة لمجرد حفظ النظام.
وبعد فترة من نزول الجند إلى البر، أخذت مدافع البارجتين "اوريون، وكاريسفورد" تقذف قنابلهما على نفيشة، لم يهدأ إطلاق النار في الحي الأوروبي إلا عند انبلاج الصباح، وقد أسفر عن إصابة واحدة، راح ضحيتها رجل هولندي، قبل ان يتوجه البحارة الإنجليز في وضح النهار صوب حي العرب حيث يقطن عمالنا المصريون مع عائلاتهم، ولم يكن هناك أحد ليتصدى أو يقاوم.
لكن الإنجليز أطلقوا نيرانهم على النساء والأطفال، فأخذ السكان البائسون العزل يهربون إلى الصحراء وقد طار لبهم رعبا، وكان صياحهم المفجع يصل إلينا، وأَسَر الإنجليز بعض رجال الشرطة دون أن يدافع أحدهم عن نفسه، وقد حاول شرطي أن يلوذ بالفرار مع عياله فقتل بضربة من الخلف.
في الساعة الثامنة سكتت البنادق، أما المدافع فظلت ترعد حتى صبيحة يوم 21، وقد علمنا أن اشتباكا حدث على ضفاف القناة، عند الشلوفة، يوم 20 أغسطس قتل خلاله 200 مصري، حصدتهم مدافع رشاشة كانت منصوبة في أعلى الصواري، في أثناء هذا العدوان كان الإنجليز قد احتلوا مكاتب الشركة وعطلوا الملاحة في القناة من ليلة 19/20 أغسطس حتى يوم 24 أغسطس.
لقد احترم عرابي حرية الملاحة في القناة برغم أن حق الدفاع عن النفس كان يبيح له إهدار هذه الحرية، ولكن الإنجليز خرقوا الحياد وعطلوا الملاحة في القناة، وضربوا بمصالح العالم أجمع عرض الحائط لكي يضمنوا لعملياتهم الحربية النجاح، وهزموا عرابي في التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882 ودخلوا القاهرة في 15 سبتمبر.
أخلصت شركة قناة السويس للمحتل منذ أول يوم، وآثرت مصالح المستعمر على مصالح مصر وأذعنت طوعا لسلطته، ووضعت موظفيها وإمكاناتها تحت تصرفه فأضحت شبكة خطيرة للجاسوسية في أوقات السلم وحليفة لا يستهان بها إبان الحروب.
وهكذا كانت قناة السويس سبب احتلال بلادنا وهكذا مكنت شركة القناة للاحتلال منذ الوهلة الأولى وعملت دائبة على توطيد دعائمه.
# #