Close ad

ياسر يربط على بطنه هربًا من الجوع.. ملابس "البالة" حلم أبناء "الفواعلية" في العيد | صور

29-8-2017 | 17:11
ياسر يربط على بطنه هربًا من الجوع ملابس البالة حلم أبناء الفواعلية في العيد | صورملابس"البالة" حلم لأبناء"الفواعلية" في العيد
ميادة عبد المنعم

في ظل أجواء متباينة من الحزن والفرحة خيمت على المكان الذي اختلطت فيه أصوات الباعة بصوت مذياع يردد تكبيرات عيد الأضحى المبارك، تَوَسدَ "سراج" رصيف الحي العاشر، بعد أن وضع حذاءه تحت رأسه بالقرب من "إزميل وشاكوش" هي كل أدواته، بعينين حائرتين بين النعاس والاستيقاظ فجأة على ضجيج رفاقه، مع قدوم أول سيارة تعطي إشارة انتظار، ليبدأ الصراع ملقيًا بجسده  بين المتزاحمين، حتى لو كلفه ذلك التشابك بالأيدي مع أبناء عمومته وانتهاء "العَركة" بجرح قطعي في الرأس.

موضوعات مقترحة

حسين عبد الباسط، هو الآخر ضمن مئات عمال التراحيل أو كما يلقبونهم العامة بـ"الفواعلية" الذين يفترشون الطرق العامة والميادين، خاصة بالحي العاشر- مدينة نصر، طلبًا للقمة العيش، يحكي.. أنا متغرب عن بيتي وولادي مدة 14 سنة، عمري 47، وهنا بقى المشكلة، ويوضح أن سِنه بات يسبب له أزمة، خاصة أن الزبائن لا يستعينون  بمن هم فوق الأربعين من الفواعلية وأنهم يفضلون الشباب الصغير قوي البنية.

يكمل الرجل الذي حملت ملامحه الكثير من الهموم، الحديث عن ظروفه المعيشية: "في رقبتي أم وجدة وزوجة و٧ أبناء بينهم 5 فتيات، كلهم محتاجين شوار وعلى وش جواز".

يقرأ "حسين" الأمُي على وجهي علامات استفهام، فيجيب من تلقاء نفسه: "شوار" يعني جهاز العروسة يا استاذة، ويتابع: البنت عشان تتجهز يلزمها 50 ألف جنيه مفيش في جيبي منهم 5 جنيهات، بسبب السن، ليؤكد مجددًا أن عيون الزبائن تنصرف عنه لأنه أصبح "عضمة كبيرة"ولهذا لم يقع عليه الاختيار هذا الصباح، كما هو حال المساء.

يترك الرجل الذي ارتدى جلبابًا صعيديًا مغبرًا بأتربة الرصيف، أهل بيته بقرية نجع سبع في محافظة أسيوط، بالشهور، ليدير ولديه الذكور شئون الجَدة والأم والأخوات في غيابه، بينما يأتي هو لقاهرة المعز، تحديدًا لسوق العاشر، الذي يزداد فيه الطلب على"الفواعلية" باعتباره محورًا رئيسيًا للمدن الجديدة وسوق المقاولات.

"يا أبله كلنا تاركين عيالنا ونسوانا في الصعيد وجايين عشان نوفر حق الرغيف الحاف ومش لاقيين تمنه والله.. بنسف التراب سف عشان نشيع للولية ٥٠ جنيهًا كل أسبوع، نعمل إيه طيب؟"- جمل غاضبة قاطعنا بها شاب عشريني كان يجاور "حسين" في جلسته، يدعى ياسر.

الفواعلية

ينتفض"حسين" في وجه صديقه "ياسر" ويقطع عليه حديثه بشيء من الاستنكار: "يا أخي أنت لساك صغار وكيف المنشار الـ رايح يشاور عليك والجاي يختارك وكل يوم بتتحصل على مَرمة و2.. مالك في إيه.. أولع في خلجاتي؟".

"قل أعوذ برب الفلق، وأنا أقول الولية مش طيقاني ليه،" قالها ياسر ممازحًا صديقه الغاضب ليروح بعدها الصديقين في نوبة من الضحك الهيستيري التي ربما أرسلتها لهم ملائكة السماء؛ للتخفيف من المعاناة.

يعود ياسر بذاكرته للوراء قليلًا ويتذكر أنه في إحدى المرات ونتيجة التزاحم للفوز بالزبون،  دخل في شجار مع ابن عمه انتهى بإصابته في رأسه وخياطتها بـ5 غرز ويلفت: "الزبون بيختار الشاب العفي اللي صحته كويسه عشان ينجز".

٥٠ جنيهًا، هي يومية ياسر، تقريبًا- حسب حديثه الذي أوضح فيه أنه يجنب منها ٤٠ ليرسلها إلى عروسه التي تركها بسوهاج بعد أسبوعين فقط من الزواج في بيت أبيه ليصارع هو بالقاهرة من أجل الحصول على المال.

الفواعلية

يؤكد ياسر، الحاصل على ليسانس الحقوق، أن الصعيد لا يوفر أي فرص عمل للشباب، وأن المعيشة  باهظة التكاليف، غير أنه يدبر أموره بـالـ 10 جنيهات المتبقية من اليومية، وأنها تكفي بالكاد وجبة واحدة في اليوم، عبارة عن "صحن فول وآخر بتنجان وفحل بصل و5 أرغفة" ثم يربط بعدها الرجل بطنه حتى لا يشعر بالجوع إلا في اليوم التالي.

"رفع مخلفات مبانٍ، رمل، طوب، سيراميك، هد حوائط"- مهام يقوم بها عامل التراحيل مقابل تسعيرة يحكمها سوق العرض والطلب، ويكشف"حسين" أن سعر رفع متر الرمل20 جنيهًا، بينما يتم رفع الألف طوبة بمقابل 50جنيهًا.

يكمل أبو البنات حديثه .. الدخل قليل وممكن نقعد أسبوع كامل من غير جنيه واحد والمصاريف بزيادة، بخلاف تكاليف السكن ومأساته.. إحنا ١٢ راجل ساكنين في شقة إيجارها 1000جنيه، عبارة عن أوضة وصالة، وبدون فرش.

وبكثير من التهكم يتابع حسين حديثه بلهجته الصعيدية: "اسألي ياسر عن النومة، يمين بالله بنام خِلف خلاف كيف السردين المملح".

"انتشار أمراض الصدر والحساسية والرمد بسبب طبيعة العمل والأتربة" مشكلة تحدث عنها الكثير من العمال هنا، مطالبين الدولة بتوفير مظلة تأمينية ورعاية صحية مع الاعتراف بالعمالة غير المنتظمة وتوفيق أوضاعها.

وعن مظاهر الاحتفال بالعيد يؤكد"الفواعلية" بالحي العاشر، أن سفرهم لذويهم مرهون بتوافر قيمة تذاكر السفر وما يسمح بشراء كيلو لحم للصغار، وهو ما أكده "سراج" الذي أقسم أنه لم يقض العيد مع أسرته بالمنيا منذ 5 سنوات؛ بسبب صعوبة المعيشة، معلقًا.."قربت أنسى شكل أولادي.

الفواعلية

على استحياء.. سألنا سراج، الذي وضع حذاءه تحت رأسه ملقيًا بجسده على الرصيف تحت مظلة بائع متجول تخشى مثله مطاردة الحملات الأمنية: اشتريت لولادك لبس العيد؟ فيجيب: "هو أنا عارف أكلهم لما أجيب لبس، العيد، العيد لأصحابه يا أستاذة" ليترك بعدها الحديث ليكمل نومه.

إسماعيل (33عامًا) لم يعجبه حديث رفاقه المتشائمين، لذا صرخ: "يا ناس قولوا الحمد لله" ليستدير بوجهه نحوي ويقول: أنا اشتريت يا أبلة لكل عيل بنطلون وقميص من الفرشة اللي هناك دي، مشيرًا إلي ملاءة تحمل فوقها ملابس قديمة تباع بنظام "البالة" مقابل 5 جنيهات للقطعة!

يعود حسين للحديث مجددًا ويطرح مشكلة جديدة تواجه هذا القطاع من العمال، تتمثل في أن رفع مواد البناء بالأوناش والآلات العملاقة سحب من العامل "الأرزقي" البساط، بسبب قلة تكاليف الآلات مقارنة بالعمالة.

يُجزم صالح محمد، صاحب شركة توريدات معدات ثقيلة بالحي العاشر، بأن الاتجاه العام الآن يميل للاعتماد على أوناش الرفع، وبشيء من التفصيل يؤكد أن تكلفة رفع مستلزمات البناء(طوب، رمل، أسمنت، سيراميك) باستخدام الونش تتراوح بين (500-700) جنيه، كما أن رفعها لا يستغرق سوى ساعات، بعكس العمالة التي تهدر الوقت وتشترط توفير مأكل ومشرب ودخان وشاي وإكراميات، تصل أحيانًا لضعف المبلغ المتفق عليه.

فجأة.. إشارة صفراء توحي بالانتظار لسيارة ملاكي سوداء فارهة، تقف أمام العمال ينقلب بعدها الحال رأسًا على عقب ويصاب الشارع بحالة شلل مروري، نتيجة لتدافع العمال على مالك السيارة الذي ألقى بسؤاله "عايز واحد عفي".

ينتفض"سراج" من نومته ويلكم بيده "حسين" الذي يحاول جاهدًا دفع "ياسر العفي" للخلف؛ ليبدأ صراع أبناء العمومة والسكن الواحد، للفوز برضا "الباشا" مالك السيارة الذي أخذ يتفقد بنيتهم وهم يرددون جميعًا باستعطاف: "خدني أنا يا بيه.. خدني أنا يا بيه" ليبقى المشهد  دليل إثبات على فشل حكومات متعاقبة في حل أزمة البطالة والعمالة غير المنتظمة.

الفواعلية

الفواعلية

كلمات البحث
اقرأ ايضا: