لا أحد ينكر دور إيطاليا الداعم لمصر بعد ثورة 30 يونيو حينما وقف رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماثيورينزي مؤيدا بشدة الموقف المصري وداعما له، غير أن الأمور تغيرت تماما عقب مقتل الباحث الايطالي «جوليو ريجيني» في الحادث الشهير والعثور علي جثته علي قارعة الطريق، ونتيجة عدم فك طلاسم حادث القتل حتى الآن تدهورت أوضاع العلاقات بين مصر وإيطاليا نتيجة التصعيد غير المبرر من الجانب الإيطالي، ودخول وسائل الإعلام علي الخط في الأزمة بالتصعيد والشحن.
موضوعات مقترحة
وللأسف هناك بعض وسائل الإعلام المصرية تورطت بحُسن نية في تأجيج الأزمة وتعقيدها، لدرجة أن الجانب الإيطالي كان يستشهد أحيانا بما يذاع أو يكتب في وسائل الإعلام المصرية المقروءة والمرئية في إطار شحن الرأي العام الإيطالي، وهكذا تصاعدت أزمة ريجيني علي طريقة بحر الرمال المتحركة، حتى ابتلعت الأزمة المسئولين في الجانب الإيطالي، وأصبح تراجعهم عملية صعبة ومعقدة، وإن كانت هناك الآن محاولات حثيثة من جانب كل الأطراف الإيطالية للخروج من هذا المأزق، لكن المشكلة في متخذ القرار.
في إطار مبادرة فردية قمت بزيارة روما خلال الأسبوع الماضي للقاء قادة الرأي العام من الصحفيين والإعلاميين هناك للحوار حول مستقبل العلاقات المصرية ـ الإيطالية لما لهذه العلاقات من أهمية للبلدين، فإيطاليا من أهم الدول الأوروبية في مجال الاستثمار في مصر، خاصة بعد النجاح الذي حققته شركة «إيني» في مجال اكتشافات البترول والغاز، والآفاق المفتوحة لزيادة هذه الاستثمارات مستقبلا، خاصة بعد توقيع اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، حيث من المتوقع زيادة استثمارات الشركة خلال العام المقبل إلي 3٫5 مليار دولار، ومن المنتظر أن يتعدي إنتاج حقل «ظهر» 005 مليون قدم مكعب يوميا قبل نهاية العام الجاري، ترتفع إلي 7200 مليون قدم مكعب يوميا بنهاية المشروع.
العلاقات الاقتصادية المصرية ـ الإيطالية لا تتوقف عند حدود اكتشافات الغاز والبترول، لكنها تمتد إلي آفاق أخرى كثيرة، وكما أن إيطاليا دولة مهمة لمصر، فإن مصر تمثل أهمية إستراتيجية لإيطاليا، لدورها فى مجال مكافحة الإرهاب، وأيضا دورها فى مكافحة الهجرة غير الشرعية.
مصر هى البوابة بالنسبة لإيطاليا.. هى بوابة لحماية الإيطاليين من الإرهاب، وبوابة لحماية إيطاليا من مخاطر الهجرة غير الشرعية التى تعانى منها إيطاليا الآن نتيجة سقوط الدولة في ليبيا، وسيطرة الميليشيات عليها، وتحول ليبيا إلى مركز رئيسى لانطلاق الهجرة غير الشرعية التي تعانى منها إيطاليا الآن، ولا سبيل أمام إيطاليا إلا التعاون مع مصر لكبح جماح الهجرة غير الشرعية إليها.
أيضا الأمن المصري ضرورة للأمن الإيطالي، ووجود مصر كدولة قوية وقادرة على حماية حدودها مهم جدا بالنسبة للجانب الإيطالى.
الإيطاليون يدركون ذلك ويفهمونه جيدا، لكنه بحر الرمال الذي ابتلع المسئولين والإعلام هناك، فجعل التراجع أمرا صعبا ومعقدا يحتاج إلى رؤية متكاملة لعودة الجانب الإيطالى إلى جادة الصواب.
كان من المهم الذهاب إلى روما والحوار عن قرب مع بعض مفاتيح حل الأزمة، وهم قادة الصحافة والإعلام هناك، ومن خلال الترتيبات التى قام بها الزميل الصحفى الكبير رضا حماد ـ وبعيدا وعن القنوات الرسمية ـ كان اللقاء الأول مع رئيس الاتحاد العام للصحفيين الإيطاليين د.نيكولا مارينى بمقر الاتحاد فى روما، الذي يضم في عضويته ما يقرب من 105 آلاف عضو من الصحفيين والإعلاميين الإيطاليين، وهو الاتحاد الرسمي الوحيد الذي يضم كل الصحفيين والإعلاميين.
ثم كان اللقاء الثاني مع رئيس تحرير أكبر الصحف الإيطالية توزيعا وتأثيرا ماريو كالابرس رئيس تحرير صحيفة «لاربوبليكا» وبعدها كان اللقاء مع «ماوريسو مولينارى» رئيس تحرير جريدة «لاستمبا» ثانى أكبر الصحف الإيطالية توزيعا، وبعدها التقيت العديد من الصحفيين من مختلف الصحف الإيطالية.
كان الحوار مباشرا وصريحا حول أهمية العلاقات بين البلدين، وكيفية تخطي الأزمة الموجودة حاليا بسبب مقتل «ريجيني»، خاصة أن الإعلام قام بدور أساسي في إشعال نيران الأزمة وتغذيتها وتعقيدها، حتي وصلت إلي الوضع الحالي.
تحدثت بصراحة ووضوح عن صاحب المصلحة في مقتل «ريجيني» وأن الدولة المصرية لا يمكن أبدا أن تكون طرفا في ذلك، فهي ـ لو أرادت ـ ولو أن هناك ما يبرر ذلك، أن تقوم بإبعاد ريجيني عن البلاد وترحيله، بل إن الدولة مثل غيرها من الدول تستطيع محاكمة أي شخص علي أراضيها لو ارتكب جريمة تستحق ذلك، وتصل به إلي أقصي العقوبة.
غير هذا وذاك، فليست الدولة بهذه السذاجة في أن تتورط في مثل تلك الجريمة ثم تقوم بإلقاء الشاب علي قارعة طريق صحراوى لتعلن عن جريمتها بهذه السذاجة المفرطة.
من الطبيعى أن كل فعل لابد أن يكون وراءه صاحب مصلحة، والدولة المصرية لا يمكن أبدا أن تكون صاحبة مصلحة فى مقتل ريجينى، فمن هو صاحب المصلحة؟
طرحت هذا السؤال بقوة علي كل من التقيتهم، وكان المفاجأة أن أغلب من قابلتهم ـ إن لم يكن جميعهم ـ اتفقوا على أن الدولة المصرية بمؤسساتها لا يمكن أن تكون صاحبة مصلحة في مقتل ريجينى، وأنه ربما يكون هناك من حاول الوقيعة بين الجانبين، خاصة أن القنصلية الإيطالية في شارع الجلاء كانت هدفا للإرهاب والعمليات الإرهابية وأصابها التدمير من جراء إحدي العمليات الإرهابية القذرة.
المشكلة أن ماتيو رينزى رئيس الوزراء الإيطالى السابق وأحد المتحمسين لمصر وقيادتها بعد ثورة 30 يونيو، هو من استغل أزمة مقتل ريجينى وقام بتصعيدها ـ ليس استهدافا لمصر علي وجه الخصوص. وإنما بهدف إنقاذ شعبيته المتدهورة، فحاول استغلال تلك القضية لإنقاذ حزبه من الانهيار، فكان منهج التصعيد المستمر لتلك الأزمة، وساعده في ذلك وزير خارجيته آنذاك باولو جينتيلونى، الذي أصبح رئيسا للوزراء خلفا لـ«ماتيو رينزى» ولأن جينتيلونى رئيس الوزراء الحالي كان فى خندق التصعيد نفسه، فهو غير قادر على التراجع حتى الآن.
الإيطاليون أشاروا إلي أن وسائل الإعلام المصرية بنشرها المعلومات المتضاربة، كانت أحد أسباب زيادة تفاقم الأزمة وتوليد قناعات متضاربة هناك.
قلت لهم إن الجانب الإيطالى بضغطه الشديد علي الجانب المصرى هو من أدى إلي الارتباك والتشويش، فالجانب الإيطالى يريد إظهار النتيجة النهائية، بطريقة متسرعة والقضاء المصري قضاء مستقل وعادل، ولا يمكن أن يتورط في الوقوع في فخ «الفبركة» وطبيعى أن هناك أحداثا كثيرة تحتاج إلي بعض الوقت لاستجلاء الحقيقة، وبدورى سألتهم: كم عدد الجرائم التى تحدث فى إيطاليا ولم يتم كشف ملابساتها رغم مرور وقت طويل على ارتكابها؟!
الإجابة من معظم من التقيتهم جاءت منصفة وعادلة، فهناك الكثير من الجرائم تأخذ وقتا طويلا حتى يتم كشف ملابساتها، وأحيانا تظل بعض الجرائم غامضة دون كشف لسنوات وسنوات، خاصة فى الجرائم غير المنظمة من نوعية جرائم الذئاب المنفردة فى الجرائم الإرهابية والجرائم الشخصية فى الجرائم الجنائية.
امتد الحوار إلي ضرورة وجود رؤية إعلامية مشتركة يتم التركيز عليها خلال الفترة المقبلة من أجل عودة العلاقات المصرية ـ الإيطالية فى أسرع وقت تقوم على المحاور التالية:
أولا :أهمية عودة العلاقات المصرية ـ الإيطالية لمساندة مصر فى مكافحتها الإرهاب، لأن قطع العلاقات يسهم بشكل غير مباشر في تحقيق أهداف الإرهاب فى محاصرة مصر وإضعاف قوتها الاقتصادية والسياسية.
ثانيا :التركيز علي الدور المشترك بين مصر وإيطاليا لوقف نزيف الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا من خلال احكام السيطرة على البحر المتوسط وإبراز أهمية الدور المصرى فى ذلك الإطار.
ثالثا :ضرورة التعاون المصري ـ الإيطالى فى الملف الليبى على اعتبار أهمية ليبيا الإستراتيجية لمصر وإيطاليا والتركيز على ضرورة وحدة الأراضى الليبية وتطهيرها من كل جماعات العنف والإرهاب والتطرف، ودعم الجيش الليبى
بقيادة المشير خليفة حفتر ومساندة كل محاولات التقريب بين الفصائل الليبية المتنازعة بما يضمن عودة الدولة الليبية قوية وموحدة.
أعتقد أن هذه الرؤية يمكن أن تكون مقدمة لجهد أكبر وأشمل خلال المرحلة المقبلة حتى تعود العلاقات المصرية ـ الإيطالية أقوى مما كانت عليه وأعتقد أن ذلك بات قريبا.