بعد ساعات يتوجه الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى نيويورك للمشاركة فى الاجتماعات رفيعة المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ 71 ... هذه هى المشاركة الثالثة على التوالى خلال خمس سنوات عجاف فى الشرق الأوسط شهدت المنطقة فوضى وتدميرا ومذابح غير مسبوقة، لم تنتبه المنظمة العالمية إلى ما خلفته هذه الفوضى وذلك الدمار من كارثة المهاجرين واللاجئين، سوى أخيرا، فدعت رؤساء الدول والحكومات إلى قمة خاصة تعقد يوم الإثنين المقبل تقول إنها تمثل فرصة تاريخية للتوصل إلى خطة دولية أفضل، وإيجاد نظام يتسم بمزيد من المسئولية، وإمكانية التنبؤ للاستجابة للتحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين.
موضوعات مقترحة
وفى اليوم التالي، يستضيف الرئيس الأمريكى باراك أوباما مؤتمر قمة القادة بشأن اللاجئين، الذى سيناشد الحكومات أن تتعهد بالتزامات جديدة ذات شأن فيما يتعلق باللاجئين.
تفتح القضية الرئيسية فى الاجتماعات رفيعة المستوى هذا العام جرحا نازفا فى جسد المنطقة العربية، يتوه وسط مناورات السياسة وتوازنات مصالح الدول الكبري، حيث خرج الملايين من الشقيقة سوريا إلى مختلف بقاع الأرض، بحثا عن بقعة أمان من الحرب المستعرة فى بلادهم والتى لا يعرفون مبررا لاندلاعها بعد أن تكالب الأوغاد على وطنهم، فاليوم هناك قرابة 7 ملايين مواطن سورى خرجوا بلا مأوى يلتمسون رحمة من الدول التى تمد يدا تحمل مظاهر السلام وفى يد أخرى تقدم السلاح إلى العصابات الإرهابية المسلحة فى واحدة من مآسى هذا العصر... ولأن القضيتين مرتبطتان ببعضهما البعض، فبالرغم من أن الأمم المتحدة عقدت اجتماعات سابقة رفيعة المستوى حول الإرهاب، فإن قمة العام الحالى تبدو ناقصة، حيث كان يفترض أن تركز على إطار أشمل يجمع ما بين مواجهة الموجة الإرهابية العاتية التى تضرب الشرق الأوسط ومدنا غربية، وبين البحث عن مخرج لأزمة المهاجرين ونزوح اللاجئين بالملايين عبر الحدود.
أما رؤية مصر المتكاملة فقد عبر عنها الرئيس فى الدورتين الماضيتين فهى ركزت على الربط ما بين القضايا المختلفة لصراعات الشرق الأوسط، فقد قال الرئيس السيسى نصا فى كلمته العام الماضى من فوق منبر الأمم المتحدة: «إن تفاقم أزمة اللاجئين الفارين من ويلات النزاعات المسلحة.. تؤكد ما سبق أن نادت به مصر.. بضرورة العمل نحو تسوية تلك النزاعات.. والتصدى لظاهرة الإرهاب التى تشكل أحد أهم أسباب تفاقم الأزمة.. وفتح قنوات للهجرة الشرعية وتيسير عملية التنقل.. وربط الهجرة بالتنمية».. هذه الرؤية الصحيحة لاتزال مطروحة على المجتمع الدولي.
فى هذا السياق دعونا نقرأ من تقرير صادم لمنظمة الأمم المتحدة صدر قبل أسابيع قليلة من اجتماعات الجمعية العامة، قالت منظمة «اليونيسف» فيه إنه فى عام 2015 جاء نحو 45 فى المائة من إجمالى الأطفال اللاجئين تحت حماية المفوضية من سوريا وأفغانستان. وشرد 28 مليون طفل من منازلهم بسبب العنف والصراع داخل وعبر الحدود، بما فى ذلك عشرة ملايين طفل لاجئ... وهناك عشرة ملايين طفل من طالبى اللجوء الذين لم يتم بعد تحديد وضعهم كلاجئين. وتقدر «اليونيسف» أن 17 مليون طفل نزحوا داخل بلدانهم.
وقالت «اليونيسف» إن عددا متزايدا من الأطفال يعبرون الحدود غير مصحوبين ببالغين. ففى عام 2015، قدم أكثر من 100 ألف من القصر غير المصحوبين طلبات للحصول على اللجوء فى 78 دولة (ثلاثة أضعاف العدد فى عام 2014)، ولفتت اليونيسف إلى أن الأطفال غير المصحوبين هم من بين أولئك الأكثر تعرضا لخطر الاستغلال وسوء المعاملة، بما فى ذلك عن طريق المهربين والمتاجرين... كما هاجر 20 مليون طفل آخرون من ديارهم بسبب مجموعة متنوعة من الأسباب بما فى ذلك الفقر المدقع أو عنف العصابات، ويتعرض الكثير منهم لخطر سوء المعاملة والاعتقال لأنهم لا يملكون الوثائق أو بسبب وضعهم القانونى غير المؤكد.
هل توجد صورة أكثر سوادا من تلك؟
وهل يحتاج العالم إلي سنوات أخري حتي يدرك عمق المأساة؟
علي أصحاب المعايير المزدوجة في العالم.. وعلي من يزايدون علي الموقف الرسمي المصري في الداخل مراجعة مواقفهم الغامضة والملتبسة التي تركت الملايين من السوريين والأكراد والأفغان وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط في شتات والأرقام الدولية تفضح التخاذل في العواصم الكبري.
الرؤية المصرية الأوسع تقول إن العالم المتقدم لا يمكنه أن يقف صامتا أمام ما تخلفه الصراعات من خنق لفرص الاستثمار والتنمية وترك الصراعات تلتهم مقدرات الشعوب وهو ما يوجد واقعا مؤلما في مناطق كثيرة من العالم وهو ما يزيد من معدلات البطالة علي نحو غير مسبوق... مثلا تشير تقديرات منظمة العمل الدولية، التابعة للأمم المتحدة أيضا، في آخر تقاريرها إلي أنه من المتوقع أن يصل معدل بطالة الشباب حول العالم إلي 13٫1 % في عام 2016 مقابل 12.9% في عام 2015 ليصل إجمالي العاطلين إلي 71 مليونا، وهو الارتفاع الأول من نوعه منذ ثلاث سنوات، ويوضح التقرير الدولي أنه «مما يثير بالغ القلق أن نصيب وعدد الشباب (العاطلين) في كثير من الأحيان الذين يعيشون في فقر مدقع.. هو الأكبر في البلدان الناشئة والنامية.
«ويشير أيضا إلي أن» الارتفاع المقلق في بطالة الشباب يظهر مدي صعوبة الوصول إلي الهدف العالمي المتعلق بالقضاء علي الفقر بحلول عام 2030، ما لم نضاعف جهودنا لتحقيق العمل الاقتصادي المستدام والعمل اللائق» ..
رسائل مصرية:
رسائل مصر في الاجتماعات السنوية رفيعة المستوي بشأن الوضع الداخلي وما سيجري من حوارات بين الرئيس السيسي ورؤساء الدول والحكومات ومديري منظمات دولية بشأن الحالة في الشرق الأوسط خلال زيارته نيويورك يمكن إجمالها في عدد من المحددات الرئيسية التي تحكم المواقف الرسمية وعبر الرئيس عنها في أكثر من مناسبة:
أولاً: أطلقت مصر استراتيجية 2030 قبل شهور وهي تهدف بالأساس إلي تحسين نوعية الحياة لجميع المصريين ورفع مستويات المعيشة في إطار يؤكد تحقيق العدالة الاجتماعية ورعاية الفئات الأكثر عدداً والأشد فقرا وتبنّي مبادئ التنمية المستدامة وتحويلها إلي سياسات فاعلة وتأكيد أولوية التعليم والصحة في مختلف سياسات الدولة كمدخل للتنمية الإنسانية، وتحسين مناخ الأعمال وصورته في العالم، وتنشيط اقتصاد وطني حر علي درجة عالية من التنافسية العالمية (جاذباً ومصدّراً للاستثمار، ينمي القدرات البشرية، ويواجه البطالة ويحاصر الفقر، ويوفر فرص عمل كريمة ويقود فيه حركة التنمية مشاركة فعالة للقطاع الخاص مع المؤسسات العامة والمجتمع المدني)، والانتقال بمصر من بلد منخفض الدخل إلي بلد ذي دخل فوق المتوسط.
ثانيا: الموقف المصري من النزاعات في دول الجوار المصري يقوم علي مبادئ أساسية هي: عدم التدخل في شئون الآخرين، ودعم إرادة الشعوب والحلول السلمية... فهناك أربعة مبادئ رئيسية تحكم علاقة مصر بالعالم الخارجي هي: الشراكة وليس التبعية، والثوابت التي لا تتغير، والأسلوب المنفتح والمتوازن علي الجميع في إطار من العلاقات الاستراتيجية الثابتة التي نحافظ عليها، وتبادل المصالح والرأي والاحترام المتبادل... فقد تمكنت مصر في العامين الماضيين من تحسين علاقاتها الخارجية.
وكثير من الدول كانت ترغب في معرفة هل القضية المصرية كانت محاولة تغيير حكم بالقوة أم التجاوب مع ارادة شعب أراد التغيير. وتم قطع جهد كبير لتوضيح الأمر، حيث لم تفقد مصر أي علاقة مع أحد ولم تكتسب عداء أحد إلا من يريدون العداء والخصومة لا الحوار والتعاون.
ثالثا: التفاهمات الأمريكية ــ الروسية الأخيرة ومرونة الأطراف الإقليمية التي لها مصالح مباشرة في سوريا يمكن أن تؤدي إلي مخرج للأزمة حتي لو كان التوصل إلي حل للأزمة السورية سيحتاج إلي وقت (حدد الرئيس السيسي أبعاد الموقف المصري من الوضع في حديثه الأخير مع الصحف القومية.
وقال إن هناك خمسة مبادئ أساسية تحكم الموقف وهي: احترام وحدة الأراضي السورية وإرادة الشعب السوري، وإيجاد حل سياسي، ونزع أسلحة الميليشيات والجماعات المتطرفة، وإعادة الإعمار، وتفعيل مؤسسات الدولة السورية من جديد)..
رابعا: مصر تدعم بقوة الدولة الليبية وتسهم في تدريب عناصر الجيش الوطني الليبي وتحذر من جديد أنه كلما ازدادت الضغوط علي الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق فإنها تنتقل إلي ليبيا وتشكل تهديداً مستمراً للأوضاع هناك، كما أن الازدواجية في الموقف من المنظمات الإرهابية له انعكاسات خطيرة علي المنطقة والعالم.
خامسا: مصر تريد تشكيل قناعة لدي الآخرين بأن حل القضية الفلسطينية يمكن أن يغير من شكل المنطقة لو تحقق في المستقبل القريب بشرط توافر الإرادات، سواء من جانب الفلسطينيين أو الإسرائيليين أو في جانب المجتمع الدولي أيضاً.
سادسا: أن تعكس الحوكمة الاقتصادية والمالية الدولية زيادة إسهام الدول النامية في الاقتصاد العالمي ومشاركتها في اتخاذ القرار الاقتصادي والمالي الدولي بتطوير الآليات الخاصة بضبط ومتابعة حركات رءوس الأموال، خاصة ما يتعلق بخروجها من أسواق الدول النامية ومنع المضاربات والتدفقات المالية غير المشروعة التي تؤثر سلبا علي الوضع المالي والنقدي لاقتصادات الدول النامية.
سابعا: تعزيز التعاون في مجال الطاقة، بعد أن أصبح أمرا حيويا في هذه المرحلة بالنظر إلي ما نشهده من تغيرات غير مسبوقة في حركة السوق العالمية، وحيث أمن الطاقة يشكل أولوية قصوي وطنيا وإقليميا ودوليا.
ثامنا: إقامة شراكات قوية بين مؤسسات التمويل المعنية والدول النامية مع عدم حصر التمويل الأخضر في مشروعات تغير المناخ فقط، بل توسيع نطاقه ليشمل مشروعات البنية الأساسية التي تدعم الاقتصاد الأخضر.
> > > > >
زيارة الرئيس لنيويورك تشكل فرصة جيدة كل عام لتبادل وجهات النظر مع قادة وزعماء الدول ويجب ألا ينظر إليها بعيدا عن سياق تعميق الدور المصري علي الساحة الدولية، وكل التحليلات التي تتحدث عن أنشطة ضد الزيارة هنا أو هناك، أو محاولة البعض التسبب في حرج للقيادة السياسية هو نوع من المراهقة المعتادة من بعض الأشخاص والتيارات ممن لا يعرفون طبيعة تلك المناسبات العالمية، أو طبيعة المدينة نفسها، وطريقة التعامل مع حدث دولي كبير بحجم مشاركة زعماء الدول ورؤساء الحكومات في الاجتماعات رفيعة المستوي.. أري أن نهتم بصلب الزيارة ومكاسب مصر منها ولا نلتفت إلي من يريدون إضاعة الوقت في أمور تافهة وهامشية!