أعادت تصريحات وزير العدل المستشار محفوظ صابر الأخيرة بشأن رفض تقلُّد أبناء عمال النظافة لمناصب قضائية مأساة الشاب المصرى عبد الحميد شتا إلى الأضواء مرة آخرى برغم مرور سنوات على انتحاره، بسبب رفض قبوله بتعيينات وزارة الخارجية رغم تفوقه بسبب كونه "غير لائق اجتماعيا".
موضوعات مقترحة
ففى خضم التغريدات والتدوينات الغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعى وتصاعد ردود الأفعال السياسية والحقوقية المطالبة بإقالة الوزير وتغيير السياسات والتوجهات المتحكمة فى تعيينات وظائف بعض أجهزة الدولة.
تذكر رواد مواقع التواصل الاجتماعى حكاية عبد الحميد شتا ومأساته، مطالبين بوضع حد لسياسات التمييز الاجتماعى والطبقى وتفعيل مواد الستور المناهضة للتمييز .
عبدالحميد شتا شاب مصرى من أسرة بسيطة وُلد لأب فلاح مصري بسيط من قرية ميت الفرماوي مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ومنى نفسه أن يلتحق بالسلك الدبلوماسي، منذ كان طالبا بالثانوية العامة، إلا أنه حصل على مجموع 85%
ولم يكن هذا المجموع ليؤهله للإلتحاق بكلية أحلامه " الاقتصاد والعلوم السياسية" فقرر أن يلتحق بامتحان الثانوية مرة آخرى العام التالى كى يحقق طموحه وحلمه الذى يطارده وبالفعل حصل شتا فى المرة الثانية على مجموع أعلى 95% يؤهله لدخول كلية الأحلام "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية".
وشق عبدالحميد طريق الوصول إلى حلمه مهاجرا قريته إلى قاهرة المعز برغم معاناته ومعاناة والده فى توفير مصاريف دراسته، وأنهى شتا سنوات دراسته بتفوق بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وبدأ في تحضير رسالة ماجيستير عن إصلاح المحكمة الدستورية في مصر.
وفى خلال ذلك عمل عبدالحميد على تنمية مهاراته وإمكاناته كى يؤهل نفسه للتقدم لامتحانات وزارة الخارجية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي وكد من أجل تعلم اللغات الأجنبية بمفرده والعمل على رسالة الماجستير.
كما كتب في أكثر من مطبوعة مهمة منها: مجلة السياسة الدولية و مجلة النهضة التي تصدرها الكلية وصدر له بعض الأبحاث التي قدمها في العديد من المسابقات و نال بها المركز الأول لذلك كان له امتياز المشاركة في المؤتمرات العلمية التي تعقدها الكلية.
تقدم عبدالحميد شتا لوظيفة ملحق تجاري فى 2002، ونجح في كل الاختبارات التحريرية، ومن بعدها الشفوية، وحاز على المركز الأول على منافسيه الـ43، وصار من حقه التعيين، ولكنه ذهب إلى اللوحة المعلن فيها نتيجة الفائزين، فلم يجد اسمه، مما أصابه بالدهشة، واتجه ناحية اللوحة الخاصة بالمرفوضين، فوجد اسمه، وسبب الرفض في الخانة المقابلة لاسمه مكتوب فيها: "غير لائق اجتماعيا".
انهار عبد الحميد بجانب حلمه ولم يستطع تحمل الصدمة بعد كل هذا الكد والكفاح فى مطاردة الحلم الذى بدا أنه سيظل مستحيلا حتى لو حصل على كل شهادات الدنيا بسبب ظروفه الاجتماعية المتواضعة، وقرر إنهاء حياته يأسا بالإلقاء بنفسه فى النيل ليموت غريقا، مخلفا وراءه أسرته المكلومة وعشرات الشباب فى نفس الظروف يواجهون نفس المصير.
فى يونيو من العام الماضى نشرت وسائل الإعلام والمواقع الإخبارية استغاثة أرسلها 138 من خريجي كلية الحقوق، دفعتي 2010- 2011، إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، بسبب استبعادهم من قبل المجلس الأعلى للقضاء من تعيينات النيابة، رغم اجتيازهم جميع الاختبارات والمقابلات، وإعلان المجلس تعيينهم في وظيفة معاون نيابة. وهؤلاء تم استبعادهم ليس لسبب سوى لعدم لياقتهم اجتماعيا، وعدم حصول الوالدين مثلا على مؤهل عال!!
واستفاضت وسائل الإعلام فى تغطية جوانب إنسانية من تداعيات تلك الأزمة حيث توفي مزارع بسيط ينتمي لمحافظة سوهاج، والد محمد كمال الدين أحد هؤلاء الخريجين الذين تم استبعادهم، متأثرا بصدمته من ذلك الخبر،
بعد إصابته بجلطة في المخ..حيث تصور المسكين أن ولده قادر على الفوز بتلك الوظيفة بسبب تفوقه العلمى وبسبب مواد الدستور الجديد الذى أتى بعد ثورتين وأن الأوضاع قد تتغير للأفضل وأن بساطة وضعه وظروفه لن تمنع ابنه من الفوز بوظيفة يستحقها إلا أن ما حدث خالف ذلك فمات الوالد وتحطم حلم الابن.
وأتت وقتها تصريحات المستشار أحمد علي عبد الرحمن، النائب الأول لرئيس محكمة النقض واضحة وهو يتحدث عن رفض قبول أبناء عمال النظافة في وظائف النيابة العامة، لأنها – كما يرى – لا تتناسب مع واقعهم الاجتماعي.
في الوقت الذي سعى فيه البعض لقبول أبناء القضاة الحاصلين على تقدير مقبول في النيابة، باعتبار أن بيئة التربية القضائية كافية للعمل في المهنة نفسها، وهو المنطق نفسه الذي يحكم العديد من المواقع المميزة في مصر.
وبالأمس أتت تصريحات وزير العدل المستشار محفوظ صابر حول رفضه تعيين أبناء عمال النظافة بمناصب قضائية لتكرس وتؤكد التوجه نفسه لدى الدولة وما يستشعره الكثيرون من نظرة طبقية وتمييزا اجتماعيا تمارسه الدولة فى اختيار الموظفين ببعض أجهزتها التى على قمة هرم السلطة التنفيذية والتشريعية.
ولم تعد تصريحات المسئولين بالدولة حول رفض المحسوبية والوساطة والحرص على استقلال القضاء وعلى رأسهم الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس وزراءه إبراهيم محلب تكفى لإخماد الغضب على مواقع التواصل الاجتماعى.
حيث يدير رواد تلك المواقع نقاشات موسعة بتغريداتهم تعكس توجها غاضبا لاستمرار سياسات التمييز الاجتماعى لبعض الفئات ببعض أجهزة الدولة مثل الخارجية والداخلية والقضاء والنيابة والإعلام والسلك الأكاديمى،
مطالبين السلطة الحالية بتحديد موقفها وانحيازاتها الحقيقية واتخاذ إجراءات تكشف عن توجه حقيقي لتغيير تلك الأوضاع.
فبرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على انتحار عبدالحميد شتا إلا أن مأساته مازالت حاضرة بقوة وبرغم اختلاف الجهات المستبعدِة مازالت " غير لائق اجتماعيا" وصمة عار تلاحق عشرات الشباب وعوائلهم وتقتل لديهم الطموح والانتماء لهذا الوطن،
والأمل في حدوث تغيير حقيقي يلبي طموحات الشعب الذى ثار مرتين على فساد نظامين وعزل رئيسين فى ثلاث سنوات وصوت على دستور كانت مواده تقف ضد التمييز بكل أشكاله ومستويات.
فهل سيظل غالبية أبناء الشعب من البسطاء غير لائقين اجتماعيا إلى الأبد؟