Close ad

فاروق إبراهيم الذي صوَّر السادات بالملابس الداخلية ووقف على كتف المشير عامر

31-3-2011 | 13:52
سجل ذكرياته: زين العابدين خيري
“إنتم ما بتفهموش حاجة.. هىّ دى الصحافة”.. هكذا صرخ الرئيس الراحل أنور السادات معنفا زوجته السيدة جيهان السادات وكبار مستشاريه حينما اعترضوا على الصور التى التقطت له بالملابس الداخلية ونشرتها جريدة أخبار اليوم تحت عنوان “يوم فى حياة الرئيس”، ولم يعرف المصور الشاب – وقتها - فاروق إبراهيم أن هذه الصور الخطيرة التى التقطها للرئيس ستكون أهم خبطة صحفية فى حياته بعد ذلك، وأنها ستجعله - هى والعشرات غيرها – واحدا من أهم المصورين الصحفيين فى تاريخ الصحافة المصرية.
موضوعات مقترحة

فاروق إبراهيم الذي رحل عنا صباح اليوم اكتشفت بعد هذا الحوار القديم معه والذي تم نشره في عدد “المصوراتي” التذكاري الذي أصدرته مجلة “نصف الدنيا”، اكتشفت وقتها أنه صاحب أخف دم بين كل المصورين الصحفيين الذين قابلتهم، وأكثرهم (شقاوة) وخفة حركة، فلا ينسى أن أم كلثوم صرخت فى وجهه قائلة: “يا فاروق ماتتنططليش كده.. عايزة أركز”، وفى الوقت نفسه لم تكن تسمح لمصور غيره بالاقتراب منها، فهو على حد قولها: “يلتقط صورا تتكلم، تنطق، صورا لها طعم السلطنة والذوبان فى الفن”..
فاروق إبراهيم الذى استطاع أن يجمع بين صداقة العملاقين عبد الحليم حافظ وأم كلثوم رغم خلافاتهما المحتدمة اضطر للوقوف بقدمه على كتف عبد الحكيم عامر لتصوير الزعيم جمال عبدالناصر فى سوريا، وضاعت منه فرصة تصوير جنازته لأنه كان فى موسكو مع كوكب الشرق، وهاهو صور لنا حياته الخاصة والصحفية عبر لقطات تذكارية نادرة.
بداية الحوار مع مصور صحفى بحجم فاروق إبراهيم صعبة للغاية، فالرجل حياته الصحفية – ما شاء الله – امتدت عبر أكثر من نصف قرن عاش خلالها أهم الأحداث التى مرت على مصر خلال عصورها الحديثة من قيام ثورة 1952 وسقوط ملكية وانتصارات وحروب وانكسارات ورحيل للعظماء.. إنها بحق أخصب فترة فى تاريخ مصر الحديث، وهى الفترة نفسها التى شهدت تألق فاروق إبراهيم الصحفى وبدايته من الصفر حتى أصبح المصور الخاص لرئيسين من رؤساء مصر الأربعة الذين حكموها عبر نصف قرن وهما الرئيسين السادات ومبارك..
أما حياته الشخصية فهى مخزن لا يعرف الإفلاس مهما سحبت من بضائعه، فمن عرف البداية لم يكن سيتوقع أبدا الحياة التى عاشها فاروق إبراهيم بعد ذلك، فكما يقول عنه الكاتب الصحفى أمير الزهار: “لو كانت دروب الحياة مئة فإن تسعة وتسعين منها كانت تؤدى بفاروق إلى الانحراف – أو على الأكثر – الحياة على هامش الحياة.. كان يمكن أن يصبح لصا أو متشردا، وفى أحسن تقدير صبيا لدى حرفى أو أسطى فى محل، لكنه كان يحمل فى أعماقه شرارة أضاءت له الدرب الصحيح فانطلق حاملا موهبته وكاميرته ومستقبله بين كفيه مخترقا طريق النجاح وقمة النجومية.”
اللقطة الأولى-الحجرة الضيقة
فى السادس من أغسطس عام 1939 وفى حجرة ضيقة بأحد منازل “درب الدقّاق” الواقع بمنطقة المناصرة بين شوارع محمد على وباب الخلق والأزهر يخرج فاروق إلى الدنيا.
ولم تكن تلك الحجرة إلا المكان الذى يسكنه الأسطى إبراهيم أبو العلا العامل فى محل أحذية وزوجته ربة البيت التى تنتمى لعائلة أكثر حظا فى الحياة، فرغم بساطتها أيضا فإنها تضم المحامى والطبيب والضابط، ولهذا اعترض أهلها كثيرا على زواجها من ذلك العامل البسيط، ورغم الاعتراض تم الزواج فى تلك الحجرة الضيقة وفيها أيضا رأى فاروق النور للمرة الأولى، وكان المولود الأول للزوجين غير المتكافئين الذين سرعان ما انفصلا دون أن يكمل الطفل شهره السادس.
وكعادة تلك القصص الميلودرامية رغم واقعيتها الشديدة تزداد قسوة الأيام على الصغير فيتزوج أبوه من أخرى وتفعل الأم الشىء نفسه فتتزوج من كبابجى يقيم فى حى “تحت الربع”.
وكما يحكى فاروق فإن عيونه الصغيرة بدأت تتفتح على جو عائلى درجة عواطفه تحت الصفر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍، فبعد أن رزقت الأم بأطفال آخرين من زوجها الجديد انشغلت بهم، وتوزعت أيام فاروق بين أسرة جده لأمه دون ترحيب به، أو مع زوج أمه الرافض لوجوده، أو مع أبيه المنشغل هو الآخر بحياته الجديدة، وحينها قرر فاروق ابن السنوات السبعة الاعتماد على نفسه، فقرر أن يعمل ليشترى الملابس الجديدة ويتذوق طعم الحلوى وشرب (السوبيا) مثل كل الأطفال الذين يعيشون حوله.
من صبى الحلاق إلى بائع العيش إلى سبّاك الألومنيوم تنوعت الأعمال التى امتهنها فاروق إبراهيم حتى فوجئ بخاله (حسن ميلص) يطلب منه الذهاب معه إلى جريدة المصرى التى يعمل بها طبّاعا و(ميلص) -كما يحكى فاروق- ليس لقبا لعائلة أمه وإنما هو اسم الأسطى الذى كان خاله يعمل معه فسمى على اسمه.. لتبدأ من هنا اللقطة الثانية الحقيقية فى حياة فاروق إبراهيم.
اللقطة الثانية-صبى المعمل
فى منتصف عام 1949 الأسطى حسن ميلص يأخذ ابن أخته معه إلى جريدة المصرى لسان حال حزب الوفد ليبحث له عن عمل.
ذهب الصبى مع خاله إلى مبنى الجريدةالملاصق لبيت الأمة وضريح سعد زغلول والسؤال الذى يلح على خاله طول الطريق ما الذى يمكن أن يعمله صبى فى العاشرة بلا حرفة فى جريدة؟ ولم تطل فترة انتظار الإجابة فقد عرفها الصبى بنفسه بعد أن تعرف على (كاربو زخارى) المصور الأرمنى المتعاقد مع جريدة المصرى والذى طلب من خال فاروق أن يظل هذا الولد معه فى المعمل ليقوم بأعمال التنظيف وقضاء الطلبات وفى الوقت نفسه يقوم بتوصيل الصور إلى الجرائد والأحزاب والشخصيات الكبرى فى المجتمع حيث كان زخارى متعاقدا كذلك مع عدد من الصحف الأخرى مثل مجلة الإذاعة، وصوت الأمة، والبلاغ، والزمان، والأساس.
بدأ الصبى يدخل الحجرة المظلمة التى غيرت بعد ذلك حياته إلى الأبد، وهى الحجرة التى يتم فيها تحميض وطبع الصور “وفى ظلام تلك الحجرة الحالك، انقلبت موازين الدنيا أمام عيونه وإدراكه الساذج.. ما هذا العمل الغريب شديد الجاذبية والإبهار؟ أشهر شخصيات المجتمع والسياسة وقمم نجوم الفن والسينما والغناء والكرة يولدون أمام عينيه.. ورق أبيض يغوص فى الدواء ورويدا رويدا تظهر الشخصية بمنتهى الوضوح” ويتعجب الصبى الصغير: “إنها حجرة مظلمة لكنها عالم آخر تولد فيه كل شخصيات عالم الأضواء.”
وبدأ الصبى الصغير شيئا فشيئا يتمرد على مهامه البسيطة فى الجريدة فقرر أن يتعلم التحميض والتصوير، وكانت النصيحة الأغلى له من الأسطى عبد الحميد “معملجى” قسم التصوير فى جريدة المصرى وهى أنه لكى يصبح مصورا محترما عليه أولا أن يكون “معملجى” محترم. ولم ينقص فاروق بعدها “الشقاوة واللماضة الجرأة” - على حد قوله – كى يصبح مصورا جيدا بعد أن عرف كل شىء عن معمل التصوير وبدأ الأمر معه حين كان يعطيه المصورون الكاميرات لإخراج الأفلام وقص اللقطات، فكان يكتشف وجود لقطة أو لقطتين فى كل فيلم بدون تصوير وعندها أخذ يجرب تصوير أى شىء أمامه كرسيا كان أو “ترابيزة” أو شباكا وهكذا. ووقتها كان عمل فاروق إبراهيم هو ما يمكن أن نطلق عليه لقب (المرمطون) الذى يفعل كل شىء وأى شىء فى المعمل، وهو ما دفع فاروق إبراهيم إلى أن يطلق على نفسه لقب “مرمطون الصحافة المصرية”
اللقطة الثالثة-أول صورة
أحداث عنيفة تشهدها شوارع القاهرة عام 1951 ولا تجد من يصورها فتكون الصورة الأولى لصبى المعمل وتنشرها الصفحة الأولى لجريدة المصرى
لم يكن فاروق إبراهيم قد أصبح “معملجى” حتى فى قسم التصوير بالمصرى إلا أن تلك الأحداث فرضت نفسها حين احترقت تلك السيارة فى شارع قصر العينى وبالقرب من الجريدة فاضطروا لإعطاء الصبى كاميرا قائلين له جرب أن تصور، وكان يعلم القليل من خلال محاولاته البسيطة من وراء ظهورهم علاوة على المعلومات التى يلتقطها سماعيا من المصورين.. وكانت الصورة الأولى لفاروق ولأنها كانت موفقة إلى حد كبير تم نشرها بالصفحة الأولى، وعندها أحس صبى المعمل بسعادة لا توصف وكان ينظر للجريدة عند الباعة بفخر شديد يريد أن ينادى على كل مشتر لها ليبلغه أن هذه الصورة من تصويره وإن لم يكن عليها اسمه، ولم يكن يعلم أن هذه اللقطة ما هى إلا لقطة أولى فى ألبوم كبير لم يعرف لعدد صفحاته نهاية حتى الآن.
اللقطة الرابعة-لمَّام السبارس
مجلس قيادة الثورة يغلق جريدة المصرى ويفاجأ فاروق إبراهيم بعودته إلى الشارع مرة أخرى.
تطورت الأمور سريعا بعد إغلاق جريدة المصرى وفقد فاروق إبراهيم لوظيفته البسيطة هناك ليعود إلى الشارع يبحث عن الرزق، فيعمل صبيا لكهربائى ثم يقرر الهروب من بيت والدته خوفا منها لأنه كان لا يحافظ على أجره الذى يناله من عمله مع ذلك الكهربائى.
وبعد الهروب يعمل فاروق جامعا (للسبارس) أو أعقاب السجائر ويتدهور به الحال إلى درجة أنه كان يبحث عن الطعام فى صناديق القمامة حتى كان يوم عيد شاهده فيه أحد أبناء الجيران الذى جرى وأبلغ والدة فاروق بمكانه، وحول ذلك يروى فاروق إبراهيم: “لم أكن أعلم أن أمى عملت (محزنة) فى حى تحت الربع كله، أى ينتقل الحزن إلى الأربعين حجرة بالأربعين أسرة المجاورة لنا، وهى عادة مصرية أصيلة فى الأحياء البلدية، فالجيران يتشاركون فى الأحزان والأفراح، وكانت أمى والجيران يرتدون الأسود الحزين حتى فى يوم العيد”.
فجأة – يكمل فاروق إبراهيم – “وجدت أمى قادمة نحوى مهرولة باكية.. كانت بدون غطاء على رأسها كان شعرها مكشوفا ومنكوشا، ولا تلبس حذاء أو حتى (شبشب) فى قدميها.. وجدتها تهجم علىّ وتحاول أن تحيطنى بذراعيها، إن خوفها كله أن أفلت منها وأهرب ثانية. كانت تقول لى (إوعى تجرى يا حبيبى، ما تخافش، أنا مش هاعملك حاجة، أنا اشتريت لك بدلة جديدة). ولمدة دقائق معدودة وجدت قدمى متسمرتين على الأرض، أصبت بشلل مؤقت ولم أستطع التفكير أو الجرى أو حتى الحركة، كان المشهد مفاجئا تماما، ورمت أمى بجسمها كله على جسدى وأمسكت بى.. وخلال دقائق سريعة عادت بى إلى الحجرة وعرفت كل الجارات وإذا بعدد كبير منهن يطلقن الزغاريد ويقبلن عليها لتهنئتها.. وذابت قصة التشرد فى “الطشت” الذى قامت أمى فيه بغسل جسدى الملطخ بالقذارة أكثر من مرة..”
اللقطة الخامسة-جمال عبد الناصر
فاروق إبراهيم يمسك بالكاميرا منطلقا فى الحياة الصحفية رغم عمره الذى لم يتجاوز بعد الخامسة عشر.
وبين صحف الجمهورية ومكتب زخارى الجديد تنقل الصبى فاروق الذى لم تعد أحلامه تقف عند حد تحميض الأفلام والبقاء طول الوقت فى الحجرة المظلمة فقرر الخروج إلى النور، وساعدته الظروف وموهبته وأستاذه الأساسى زخارى ذلك المصور الأرمنى الذى كان يرفض تماما إلا أن يظل الصبى صبيا ومساعد المعمل مساعدا طول العمر، ولكن الأمر اختلف مع فاروق إبراهيم فسمح له زخارى بالنزول وتصوير بعض الأحداث، وتألق فى تصوير أول مهمة صحفية حقيقية له مع ذلك الصحفى الشاب مفيد فوزى الذى كان يعد تحقيقا لصالح إحدى الوكالات الصحفية، ويتذكر ذلك الكاتب الكبير مفيد فوزى قائلا: كانت مفاجأة كبيرة لى، لا يمكن أن تكون هذه هى المرة الأولى التى يصور فيها فاروق فى مهمة صحفية، فمنذ اللحظة الأولى لمست فى الصور ثلاثة أشياء واضحة.. أولا شعرت بحساسية مفرطة فى اللقطات، ثانيا كدت أشم رائحة المكان فى كل صورة، ثالثا اختيار للبشر السائرين فى الشوارع يدل على حس مصرى صميم، إن الوجوه من اختياره محفور عليها بصمات الزمن..
أصدرت الثورة مجلة “بناء الوطن” وتعاقد زخارى مع مجلة “وطنى” وأصبح فاروق إبراهيم للمرة الأولى مصورا صحفيا حقيقيا مع زخارى فى وكالته، وللمرة الأولى أصبح من حقه أن يرَ اسمه منشورا فى الصحف مع صوره وهو ما حدث بالفعل فى مجلة “بناء الوطن”، بل واصبح من حق الصبى الصغير أن يدخل على الرئيس عبد الناصر البطل الحقيقى لثورة يوليو ويلتقط صورا لاستقبالات الرئيس الرسمية لنشرها فى المجلة، وعن ذلك يتذكر فاروق إبراهيم: “كانت تجربة مرعبة لى خصوصا وأن عمرى فى ذلك الوقت كان حوالى 16 أو 17 عاما، وكلما دخلت على عبد الناصر أجد رجلى اليمين ترتعش بشدة وعندما أخرج تنتهى الرعشة، فأدخل لأرتعش مرة أخرى فأخرج لتنتهى.. وهكذا استمر الحال حوالى سنة كاملة إلى أن تعودت على هذا الموقف الرهيب.”
وفى عام 1958 كما يحكى الكاتب محمد وجدى قنديل كان عبد الناصر يزور سوريا أيام الوحدة، وكان فاروق الذى لم يكمل بعد عامه العشرين يحاول التقاط صورة جيدة للزعيم وهو يلقى خطابه أمام الجماهير الحاشدة، حتى وصل إلى الزاوية التى يريدها ولأن السور الذى صعد عليه كان ضيقا فقد اضطر أن يسند بإحدى قدميه على كتف أحد الأشخاص الواقفين خلف عبد الناصر، ولم يكن هذا الشخص إلا عبد الحكيم عامر الذى انتظر حتى انتهى فاروق من صورته فسأله “هل أخذت صورة حلوة؟” وعندما رآه فاروق سقط على الفور مغشيا عليه
ولم يكن المصور الشاب يعلم أن عبد الناصر سيبدى إعجابه بالصور التى التقطها لأحد التحقيقات المنشورة فى بناء الوطن وهو الإعجاب الذى نقله أمين شاكر مدير مكتب الرئيس عبد الناصر ورئيس تحرير الجريدة الذى أصبح وزيرا للسياحة فيما بعد، وكتب فى الحال ورقة بمكافأة “جنيهين” لفاروق إبراهيم وكانت أول مكافأة كبيرة فى حياته كما كانت أول شهادة تقدير ولو شفهية من رئيس الدولة.
وكما يقول فاروق عن عبد الناصر: “إنه كان يصنع الصورة كما كان يصنع المانشيت، فرفعة يده كادر، وضحكته كادر، ونظرة عينه الثاقبة كادر.”
وفى تلك الفترة المبكرة أيضا تعرف فاروق – عن طريق مفيد فوزى - على المطرب الشاب عبد الحليم حافظ الذى كان قد بدأ يشق طريقه وسط النجوم ومن وقتها وحتى رحيل العندليب ظل فاروق إبراهيم المصور والصديق الأقرب إلى قلب العندليب حتى فى لحظات المرض والوداع، وهى العلاقة التى سيجىء عنها الحديث لاحقا.
اللقطة السادسة-أخبار اليوم
منتصف عام 1961 المصور الشاب فاروق إبراهيم يتم تعيينه فى مؤسسة أخبار اليوم وبراتب 30 جنيها حددها له مصطفى أمين..
بدأ اسم فاروق إبراهيم يعرف بين المصورين الصحفيين رغم أنه لم يكن قد استقر فى مؤسسة صحفية بعينها بعد، فذهب إلى أحمد يوسف كبير مصورى الأخبار فى وهو فى الوقت نفسه شقيق رائد التصوير الراحل محمد يوسف رئيس قسم التصوير الأسبق فى الأهرام، وبالفعل كتب أحمد يوسف مذكرة لتعيين فاروق ورفعها إلى مصطفى أمين مطالبا براتب قدره 20 جنيها له، ولكن المفاجأة كانت فى أن مصطفى أمين شطب على مبلغ العشرين جنيها وكتب موافق على التعيين بمبلغ 30 جنيها، وكان أكبر مبلغ يصرف لمصور فى بداية تعيينه.
ويقول عن تلك الفترة فاروق إبراهيم: “دخلت أخبار اليوم وكان بها إلى جانب الأستاذ أحمد يوسف المصورون: خميس عبد اللطيف وكمال يوسف وشوقى مصطفى ومحمد بدر وكمال راشد، و يحيى بدر وأحمد عبد العزيز ومحمد سعيد ومكرم جاد الكريم.. ورغم أننى بدأت العمل فى المكان الذى كنت أفضله وأتمناه وهو دار أخبار اليوم إلا أننى لم أسترح للعمل فى البداية نتيجة الخوف من كونى مازلت صغيرا، فكان الصحفيون يخشون العمل معى حتى لا تفشل الموضوعات بسبب صورى.. ولم يستمر ذلك طويلا حتى بدأت العمل بجدية فى المؤسسة وعرفت الطعم اللذيذ للنجاح بمساعدة الأستاذ والدافع الأكبر أحمد يوسف”.
اللقطة السابعة-انفراد تشومبى
في1962 وأثناء انعقاد أحد مؤتمرات القمة الإفريقية ينجح فاروق إبراهيم فى الفوز بخبطة صحفية عالمية لمؤسسة أخبار اليوم، بعد ثلاثة أيام قضاها بلا نوم أمام أبواب قصر العروبة، لتكون الأولى له وبداية طريق الشهرة.
سبق انعقاد القمة وقوع انقلاب عسكرى فى جمهورية الكونغو برازفيل قام به تشومبى الذى رفض الكثير من قادة الدول الإفريقية مشاركته فى أعمال القمة، ورغم هذا الرفض وصل إلى القاهرة، وفى المطار حرص المسئولون المصريون على منع الصحفيين والمصورين من رؤية تشومبى وتقرر إخفاؤه حتى يتخذ المؤتمر قرارا بشأنه، وتصادف أثناء نزول تشومبى من طائرته أن مصورا صحفيا لبنانيا كان موجودا والتقط له صورة على أرض مطار القاهرة كانت وحدها دليلا على وصول تشومبى إلى القاهرة، واضطر المسئولون إلى وضعه فى قصر العروبة لقربه من المطار وتم منع جميع الاتصالات معه وبدأت رحلة الصحف للبحث عن طريقة للوصول إلى هذا المختفى وتصويره لتحقيق الانفراد
ثلاثة أيام متواصلة فى سيارة المؤسسة ظل فيها فاروق إبراهيم أمام قصر العروبة منتظرا فرصة الدخول لتصوير تشومبى بناء على أمر من مصطفى أمين وبعد تزويد فاروق بسيارة المؤسسة المزودة بالتليفون، وما أثار غيرة فاروق وجعله يستمر على عناده فى ضرورة الحصول على هذه الصورة هو أن اللقطة الوحيدة لتشومبى كانت لمصور لبنانى، والشئ الآخر أن الصحفى الوحيد الذى قابل تشومبى كان الأستاذ محمد حسنين هيكل عن طريق نفوذه الشخصى، وصورهما معا مصور بلجيكى فازدادت الرغبة لدى فاروق فى تحقيق هذا الانفراد.
وفى تلك الأثناء كانت سيارة خاصة من جروبى تأتى فى المساء بطعام العشاء لتشومبى، وهنا كانت الفكرة التى نفذها بالفعل فاروق إبراهيم وهى أنه تسلل إلى داخل صندوق السيارة وبالفعل كان بعد لحظات فى داخل القصر، وبمساعدة من أحد الضباط من أصدقائه القدامى كان فاروق إبراهيم يقف وجها لوجه أمام تشومبى الذى صدر قرار بالعفو عنه وترك الحرية له ليعود إلى بلاده فكانت المفاجأة أنه وافق على تصويرى له فى كل شبر بالقصر مسجلا كل انفعالاته وتعبيرات وجهه فى خبطة صحفية انفردت بها أخبار اليوم، وبعدها – يتذكر فاروق إبراهيم – “استدعانى مصطفى أمين وهنأنى بحرارة وقرر لى مكافأة قدرها 150 جنيها دفعة واحدة، وكان مبلغا كبيرا جد فى ذلك الوقت 1962، وطلبت منى وكالات الأنباء شراء الصور بأى ثمن أحدده ولكنى رفضت أن تنشر فى أى مكان بالعالم قبل أخبار اليوم، وقرر مصطف أمين أيضا أن تباع الصور للوكالات والصحف العالمية وأن يكون كل الإيراد لى، وأفاجأ بعدها بأن خطيبتى تبلغنى أن والدها وافق على أن يقابلنى على الفور ليحدد موعد الخطبة الرسمية، وكانت المكافأة من أخبار اليوم وثمن بيع صور تشومبى للوكالات العالمية هى تكاليف الخطوبة والفرح.”
وبعدها توالت خبطات وانفرادات فاروق إبراهيم لم تعرف التوقف.
بورتريهات
اقترب فاروق إبراهيم خلال حياته الصحفية الحافلة من العديد من القمم، وكثيرا ما دخل إلى مناطق محظورة فى حياتهم لم يسمحوا لأحد غيره بالدخول إليها، ولذلك كان الوحيد الذى استطاع أن يرسم لهم بورتريهات مقربة أبرزت العديد من الملامح التى غابت عن الجميع فلم تظهر إلا مع عدسة فاروق إبراهيم..
السادات
بدأ الأمر بفكرة مجنونة من فاروق إبراهيم.. لماذا لا يقتحم الحياة الشخصية لرئيس الجمهورية ويسجل بعدسته تفاصيل حياته اليومية “يوم فى حياة رئيس الجمهورية بالكاميرا فقط” يالها من فكرة ولكن من أين الجرأة على التنفيذ، ولكنها الحياة هكذا لم تأت فيها الأعمال الكبيرة إلا من أفكار مجنونة لم يفكر أصحابها فى النتائج.. وكانت الفكرة غريبة بالفعل ولكن نفذها فاروق على أية حال وقرر المحاولة وكتب أمنيته فى خطاب إلى الرئيس السادات وقدمه إلى مسئولى الرئاسة، والأغرب حقا من كل ذلك أن يوافق السادات على الفكرة ويفتح حياته على مصراعيها أمام كاميرا فاروق إبراهيم.
ومن الصور الرسمية والتقليدية إلى الصور الشخصية التى تلخص يوم فى حياة السادات تحرك فاروق إبراهيم متحررا من كل ما يمكن أن يعوق انطلاق فكرته الجريئة.
ولتتخيلوا معنا الرئيس فى حجرة نومه يجلس فى سريره بالبيجاما.
الرئيس يقف أمام مرآة حمامه يغسل أسنانه ويحلق ذقنه وهو لا يرتدى إلا ملابسه الداخلية فقط.
الرئيس يمشط شعره ويقص الزوائد من شاربه.
الرئيس يركب دراجة مع حفيده.
الرئيس نائم على الأرض ويلعب اليوجا..
هذا بجانب عشرات الصور الأخرى مع زوجته السيدة جيهان السادات ومع أولاده وأحفاده وأصدقائه ووزرائه، ورغم المحاولات الدائمة والمستميتة من فاروق لنشر تلك الصور فى كتاب عالمى تطبعه إحدى دور النشر الدولية بكل اللغات إلا أن الأمر فشل حتى اتفق فاروق إبراهيم مع رئيس تحرير أخبار اليوم الأستاذ إبراهيم سعدة على نشر بعض هذه الصور فى الصفحة الأولى لأخبار اليوم فى الباب الجديد المسمى بقصة صورة، وكان إبراهيم سعدة لم يمر عليه بعد إلا ثلاثة شهور فى منصبه الجديد وأعجبته الصور جدا وقرر كتابة الموضوع بنفسه ثم استأذن الرئيس السادات فى ذلك فرحب على الفور.
لم يعتقد فاروق إبراهيم أو إبراهيم سعدة أو حتى السادات نفسه أن نشر هذه الصور ستصاحبه كل هذه الضجة، فقد انقلبت الدنيا بحق، واعترض العديد من مستشارى السادات على نشر هذه الصور، وقالوا له إن إبراهيم سعدة أخطأ خطأ كبيرا وأن فاروق إبراهيم يبدو أنه يتاجر بهذه الصور، وكان رد السادات مغايرا لما يتوقعون فعنفهم بشدة، ولم يسمح لأحد بان يصطاد فى المياه العكرة.
وعن تلك القصة قال إبراهيم سعدة: “كان الرئيس فى ذلك الوقت فى القناطر الخيرية وذهبت له مدام جيهان وكانت ثائرة جدا، وقالت له أساتذة الجامعة كلموها.. إزاى رئيس البلد يتعمل فيه كده.. وإزاى.. وإزاى؟ وكان حاضرا الأستاذ أنيس منصور وحكى لى المشهد، وقال إنه طوال الفترة التى عاشها مع الريس – وكان أقرب صحفى فى مصر إليه – عمره ما شاف الريس وهو يعنف السيدة جيهان بهذا الشكل، قال لها أنا قرأت الموضوع واخترت الصور.. إنتم ما بتشوفوش الصحافة العالمية؟.. والموضوع ده مش عاوزه يتفتح تانى خالص”
وحكى نفس الموقف الكاتب الصحفى الراحل موسى صبرى قائلا إن الرئيس السادات عنَّف زوجته قائلا “إنتم ما بتفهموش حاجة.. هى دى الصحافة”
أم كلثوم
فى أحد أيام 1967 أعجبت أم كلثوم بصورة منشورة لها على صفحة كاملة فطلبت مصورها من الكاتب الصحفى الكبير أنيس منصور، فأرسل إليها فاروق إبراهيم الذى فوجئت به (الست) شابا فى الثامنة والعشرين من عمره وكانت تعتقد أنه رجلا عجوزا، ويومها قالت لفاروق: “أنا أول مرة أشوف ليَّ صور بتنطق وتتكلم عن نفسها، أنا سعيدة جدا بيك.” ومنذ ذلك اليوم أصبح فاروق المصور الخاص لكوكب الشرق، وكما يقول فاروق: “كنت الوحيد الذى تسمح له بالاقتراب منها بالكاميرا، سواء كانت بمكياج أو بدون، وكان ذلك دافعا لى لتحسين عملى أكثر وأكثر..”
لم يفارق بعدها فاروق إبراهيم السيدة أم كلثوم فسافر معها فى حفلاتها التى كانت تقيمها من أجل المجهود الحربى بعد هزيمة 1967، وكانت أولى الرحلات مع كوكب الشرق إلى باريس حيث التقط لها واحدة من أشهر وأغرب الصور التى التقطت لها على الإطلاق حين صعد على خشبة المسرح أحد الشباب الجزائريين المعجبين بسيدة الغناء العربى وتشبث بقدميها مصرا على تقبيلهما مما أدى إلى سقوط أم كلثوم من شدة تشبثه بها فما كان من فاروق إلا أن أطلق لعدسة كاميرته العنان لتسجيل الموقف كاملا دون تزييف فنشرت صحيفة الأخبار تلك الصورة فى صدر صفحتها الأولى.
ومن باريس إلى المغرب والكويت وتونس والسودان والاتحاد السوفيتى... ظل فاروق ملازما للسيدة أم كلثوم، حتى رحيلها فى الثالث من فبراير عام 1975 حيث كانت صوره لجنازتها هى صور الوداع الأخير لكوكب الشرق.. وبسبب تلك الرحلات وكان آخرها فى موسكو رحل الزعيم جمال عبد الناصر وتلقى فاروق إبراهيم الصدمة هناك مع أم كلثوم فاكتفى بتصوير أحزانها الصادقة هناك، وضاعت عليه فرصة تصوير جنازة الزعيم.
عبد الحليم حافظ
يظل للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وضعه الخاص عند الحديث عن القمم خصوصا وإذا كان هذا الحديث من صديق عمره المصور فاروق إبراهيم..
فالبداية كانت مبكرة جدا وعن طريق مفيد فوزى كما ذكرنا سابقا عام 1954، وكان فاروق لا يزال صبيا فى حين بدأ العندليب يشق طريقه فى عالم الأضواء، حتى عاد عبد الحليم ذات مرة من إحدى رحلاته الأولى للعلاج فى بدايات مرضه فوجد فاروق ينتظره فى أرض المطار واحتضنه بحب شديد ومن يومها صارا صديقين حميمين وأصبح فاروق المرافق الأول للعندليب فى كل تحركاته وأعماله.
كان فاروق إبراهيم لا يترك بروفة أو حفلا أو فيلما سينمائيا للعندليب إلا وقام بالتصوير حتى ولو كان الفيلم يصوره مصور آخر موضوع على الميزانية فكان فاروق فى مثل هذه الحالات يصور بدون أجر، ورغم أن عبد الحليم لم يكن يصطحب معه مصورين صحفيين فى رحلاته إلى الخارج فإنه عندما بدأت أم كلثوم فى اصطحاب فاروق معها فى جولاتها الخارجية من أجل المجهود الحربى قرر هو كذلك أن يبدأ فى اصطحاب مصور معه بشكل دائم ولم يكن هذا المصور بالطبع إلا صديقه فاروق إبراهيم رغم أنه يعرف أن أم كلثوم لا تدع أحدا يصورها غيره وبالفعل استأذن العندليب من أم كلثوم تليفونيا كى تسمح له أن يأخذ فاروق معه إلى رحلاته الغنائية، فقالت له “فاروق إبراهيم حر يسافر أى حته تعجبه.”
كان ذلك من أصعب ما واجه فاروق إبراهيم فى حياته فها هو سيبدأ مرغما اختيارا بين العملاقين وأيهما ستكون له أولوية الاختيار، ولكن كان الله يسلم فى معظم الأوقات حتى كانت اللحظة التاريخية التى جمعت له بين العملاقين ليصورهما معا، وكان ذلك فى حفل زفاف عازف الجيتار الراحل عمر خورشيد، حيث اقترب عبد الحليم من أم كلثوم، وكان هذا أول لقاء مباشر بينهما بعيدا عن التليفون منذ فترة طويلة بعد خلاف حدث بينهما فى الاحتفال بأحد أعياد الثورة، وفى تلك اللحظة النادرة قال عبد الحليم لأم كلثوم: “تسمحيلى يا ست الكل بفاروق يسافر معايا لحفل فى تونس”، ردت عليه ضاحكة، أيوه أهو عندك أهه، كله، إشربه، ما هو الوحيد اللى بيدارى لك الباروكة..” وعندها رد عبد الحليم مبتسما: “لا والله يا ست الكل، وحياة عيونك ما فى باروكة ولا حاجة حتى بصى، شوفى، شدِّى.. شدَّى.. “
وكما يقول فاروق إبراهيم: “مدت يدها لتشد شعره، فالتقطها عبد الحليم وجذبها إلى فمه ليقبلها، وكانت لحظة وجدت نفسى أسجلها تلقائيا، رغم أننى كنت مشدودا بطرافة وسخرية الحوار.. لكننى أدركت أنها لقطة تاريخية لن تتكرر، وفعلا كانت الصورة الوحيدة التى سجلتها تجمع العندليب مع الكوكب بكل طرافتها ومعانيها البالغة التى تلخص الصراع الخفى الطويل بينهما كقمتين متنافستين على موقع الصدارة فى عالم الغناء..”
وظلت الصداقة بين العندليب وفاروق حتى النهاية وحتى اللحظة التى فارق فيها العندليب الحياة غريبا فى لندن فما كان من فاروق إبراهيم إلا أن نشر كتابا مصورا عن صديقه يحكى فيه مشوار حياة العندليب عبر ربع قرن من الصداقة التى جمعت بينهما وبالصورة فقط، ودون كلمة واحدة، كان الكتاب الذى ظهر مع ذكرى الأربعين لرحيل العندليب، وهو الكتاب الذى قدمه فى نادرة أربعة من مشاهير الكتاب الصحفيين فى ذلك الوقت وهم، مصطفى أمين، أنيس منصور، موسى صبرى، وأحمد رجب، أما الكتاب فكان “حليم”.
بالطبع لم يكن هؤلاء فقط هم نجوم اللقطات عند فاروق إبراهيم بل هناك العشرات بل والمئات والآلاف غيرهم، وربما تستطيع الكلمات القادمة التى جمعها الكاتب الصحفى أمير الزهار وتضم بعضا مما قاله عدد من العمالقة عن فاروق إبراهيم وعن فنه، ربما تستطيع أن ترسم لنا صورة تقترب من حقيقة المصور الصحفى الكبير فاروق إبراهيم.
مصطفى أمين: “فاروق إبراهيم مصور عشق الصورة فعشقته وصعدت به إلى القمة.”
إحسان عبد القدوس: “صاحب القلم المتميز يقال له أديب الكلمة، وأنا أسمى فاروق أديب الكاميرا.”
يوسف إدريس: “كاميرا فاروق إبراهيم تخترق أعماق الإنسن وتجول بداخله، ثم تُخرِج أجمل ما فيه.”
موسى صبرى: “فاروق إبراهيم هو شيطان الصورة”
إبراهيم سعدة: “فاروق إبراهيم مصور عالمى بل و من أفضل مصورى العالم.”
أحمد رجب: “يعامل فاروق الكاميرا كانها ابنته، ويخرج منها صورا تجعلك تقول: الله ولذا فهو واحد من أبرز المصورين الصحفيين فى الصحافة الحديثة فى الشرق الأوسط بل وفى العالم كله.”
محمود الخطيب: “هناك حساسية فائقة تربط بين دقة ملاحظة فاروق وعينه وإصبعه تجعله يصطاد الهدف”
مفيد فوزى: “إنه لص الثوانى، ينشلك فى لحظة، يدخل داخلك ويتجول بالكاميرا”
صلاح أبو سيف: “كان يمكن أن يكون نجما سينمائيا لولا حبه الجنونى للتصوير الصحفى”
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة