أصدر المعهد القومى للحوكمة والتنمية المستدامة فى مصر تقريرًا فى يناير 2021 بعنوان تصنيف مصر فى مؤشرات الحوكمة. وهو عمل يستحق الاحتفاء به ومناقشته. وهذا المعهد هو التسمية الجديدة للمعهد القومى للإدارة، وهو هيئة عامة لها اختصاصات بحثية وتدريبية، ولها شخصيتها الاعتبارية وتعمل تحت إشراف الوزير المختص بشئون التخطيط والتنمية الاقتصادية، وتخدم أنشطة المعهد خطة مصر 2030، وتعزيز مفاهيم الحوكمة والحكم الرشيد.
أما التقرير فهو عرض لترتيب مصر فى عدد من المؤشرات العالمية والإقليمية والمحلية بشأن الحوكمة، وهو تعبير يقصد به انتهاج الحكومات السبل والقواعد الرشيدة فى الإدارة واتخاذ القرار، وذلك فى مجالات اختيار المسئولين ومُحاسبتهم وتغييرهم، وكذلك مدى فاعلية تنفيذ السياسات العامة، وقدرة المواطنين على التعبير عن مصالحهم ومطالبهم، واحترام الدولة والمواطنين للمؤسسات المسئولة عن إدارة التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية. وتتمثل أهم مبادئ الحوكمة فى المساءلة والمحاسبة، والكفاءة والفاعلية، والمشاركة، وسيادة القانون، والشفافية.
فى هذا السياق، قام عديد من الهيئات العالمية والاقليمية بإصدار مؤشرات وترتيب الدول وفقا لأدائها. وتسمح دراسة ترتيب دولة ما فى هذه المؤشرات بتقييم الأداء الحكومى فيها مقارنة بالدول الأخرى، ومقارنته بنفس الدولة من عام لآخر. فالعبرة ليس بما تحققه الدولة فى المطلق ولكن بمقارنته بالدول الأخرى. فإذا كانت دولة ما تتقدم بنسبة 4% فى أحد المجالات، بينما يتقدم الآخرون بنسب أعلى، فإنها تكون فى واقع الأمر قد تأخرت. وسوف أركز فى هذا المقال على ما ورد فى التقرير بشأن المؤشرات العالمية عن الحوكمة، والتى يعتمد فيها على المعلومات المتاحة فى التقارير الصادرة أعوام 2018-2020.
ووفقا للتقرير، فإن متابعة ترتيب مصر فى هذه المؤشرات يبين أنه يوجد تحسن فى مؤشرات سهولة ممارسة الأعمال فتقدمت مصر ست مراتب فى عام 2020، وأصبح ترتيبها 114 من أصل 190 دولة، ومؤشر الاستقرار السياسى وغياب العنف/ الإرهاب، ومؤشر فاعلية الحكومة وسيادة القانون. والمؤشرات الثلاثة صادرة عن البنك الدولي. وحدث تحسن أيضا فى مؤشر التنافسية العالمية الذى يصدره المنتدى الاقتصادى العالمى فتقدمت مصر بمركز واحد فى 2019 وشغلت مرتبة 93 من أصل 141 دولة. حدث تحسن أيضًا فى نتائج مسح الحوكمة الالكترونية الذى تصدره إدارة الشئون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، فتقدمت مصر ثلاث مراتب فى عام 2020 شاغلة المركز 111 من أصل 193 دولة، ومسح الموازنة المفتوحة الذى تصدره منظمة شراكة الموازنة الدولية، والذى وفقا له حققت مصر 27 نقطة تراكمية فى العامين السابقين، ووصلت إلى 43 نقطة مئوية، وبذلك تجاوزت المتوسط العام لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهو 22 درجة مئوية، واقتربت من متوسط المعدل العالمى وهو 45 درجة. ارتبط بذلك تحسن طفيف فى مؤشر الحرية الاقتصادية التى تصدره مؤسسة هريتيدج الامريكية وشغلت مصر المركز 142 من أصل 186 دولة، فى مؤشر جودة الأطر التنظيمية الذى يصدره البنك الدولي.
وكان هناك مؤشرات لم يتغير ترتيب مصر فيها مثل مؤشرات مدركات الفساد الذى تصدره مؤسسة الشفافية الدولية، وسيادة القانون الذى يصدره مشروع العدالة العالمي، والدليل الدولى للمخاطر الذى تصدره هيئة خدمات تحليل المخاطر. بينما حدث تراجع فى مؤشر برتلزمان عن حالة التنمية وحوكمة عمليات التحول السياسى والاقتصادى فى البُلدان النامية، والذى يصدر عن مؤسسة ألمانية تحمل نفس الاسم، ومؤشر القانون والنظام الذى تصدره مؤسسة جالوب، ومؤشرى حق التعبير والمساءلة، والسيطرة على الفساد اللذين يصدرهما البنك الدولي.
يسجل التقرير وجود تعارض بين نتائج هذه المؤشرات، فكما ورد سجل أحد المؤشرات تقدم ترتيب مصر فى مجال سيادة القانون، بينما سجل مؤشرُ آخر تراجعًا فى نفس المجال. ويمكن تفسير هذا التعارض باختلاف مصادر المعلومات التى اعتمدت عليها الهيئات التى تصدر هذه المؤشرات، واختلاف منهجية البحث وكيفية بناء المؤشر، وعما إذا كانت تعتمد على بيانات واقعية أو مدركات عدد من الأفراد وآرائهم. يشير التقرير الى أن الدستور المصرى ينص على التزام النظام الاقتصادى بمعايير الشفافية والحوكمة، وحق المواطن فى البيانات والمعلومات والوثائق الرسمية والإفصاح عنها، ودعم الدولة للامركزية المالية والإدارية والاقتصادية. لذلك، فإن الحوكمة هى عنصر رئيسى من إستراتيجية مصر للتنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، وتعمل على تنفيذها من خلال عشرات الخطط والبرامج فى مجال تطوير التشريعات، ورفع كفاءة الجهاز الإداري، ومكافحة الفساد، وتعزيز المساءلة والشفافية، والتحول الرقمى وتطوير النظم المعلوماتية.
ومن أهم التحديات التى تعوق الدولة فى هذا المجال كما أوردها: صعوبة توافر البيانات والحصول عليها مما يؤثر على كفاءة عملية اتخاذ القرار وصنع السياسات، وقِدم التشريعات الخاصة بالإحصاءات وعدم شمول القانون للمستجدات الإحصائية، وضعف البنية التحتية الخاصة برصد وجمع البيانات الإحصائية، وانتشار ثقافة عدم الإفصاح وعدم وجود قانون لحرية تداول المعلومات. كما عرض التقرير لاقتراحات محددة فى تعزيز المشاركة، والكفاءة والفاعلية والشفافية، وتعزيز المساءلة والمحاسبة، ودعم سيادة القانون ومكافحة الفساد، وتحسين بيئة الاستثمار والاستدامة الاقتصادية، وذلك كله بهدف تحسين أداء مصر فى مؤشرات الحوكمة. لقد اهتممت بعرض هذا التقرير لأهمية موضوعه، وللموضوعية التى اتسم بها، ولجمعه بين تسجيل الواقع وعرض المعوقات واقتراح سبل التطوير. وأتمنى أن يقرأه الوزراء والمحافظون وأعضاء مجلسى النواب والشيوخ وكُل المُهتمين بالشأن العام، فسوف يجدون فيه ما يفيد. فتحية إلى المركز القومى للحوكمة، وللدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط التى ترأس مجلس إدارته.