غدًا سوف يكون قد مرت عشر سنوات على صدور صحيفة الأهرام معلنة إسقاط النظام؛ بعد مرور ثمانية عشر يومًا على بداية الثورة التي جرت فيها أحداث جسام. كانت المفاجأة مدوية، وكما هو الحال في كل المفاجآت فإنها تحدث عندما تكون هناك معلومات كثيرة عن قدوم حدث جلل.
ومع ذلك يجرى تفسيرها بما ينفى حدوث الواقعة فإذا ما جرت كان فى الأمر مفاجأة. كانت المعلومات تقول بنمو كبير فى شريحة الشباب فى التركيبة السكانية المصرية نتيجة ما جرى منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضى عندما بدأت معدلات وفيات الأطفال فى الانخفاض المتسارع فتكون جيل أصبح فى يناير ٢٠١١ شابا عفيا ومتطلعا إلى غد يختلف عما كان يراه.
هذا الشاب الفتى العفى وجد نفسه فى قلب الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة التى عبرت إلى مصر فى أجهزة كمبيوتر أكدت الاتصال مع العالم، ووسائل اتصال حديثة تليفونيا خلقت جسورا كثيفة مع الداخل زملاء وأصدقاء وأقارب وأبناء حي. المؤكد أن هذه هى الأخرى كانت معلومات متوافرة ولكنها ترمز إلى عصر لا يعرف أحد آفاقه وأبعاده حيث كان الجيل الأسبق لا يرى فيها أكثر من آلات متقدمة لا أكثر ولا أقل، فلم يكن الكمبيوتر أكثر من آلة كاتبة متقدمة وسريعة وسهلة الطباعة، ولكن محتواها لم يزد على وسيلة للكتابة والتدوين.
ولم تكن هذه هى المعلومات وحدها التى يعرفها جيل الشباب وقتها، وإنما جاءت معلومات أخرى ليس فقط من وسائل الإعلام الرسمية التى فقدت انتشارها الإعلامى تدريجيا منذ منتصف العقد الأخير من القرن العشرين عندما ظهرت إلى جانب القنوات المصرية قنوات عربية وأخرى أجنبية ناطقة باللغة العربية. المعلومات امتدت أيضا إلى السياسة حيث ظهرت جماعة الإخوان المسلمين بكثافة فى النقابات المهنية التى استولى عليها الإخوان الواحدة بعد الأخرى، وكان ذلك حتى قبل حصولهم على ٨٨ مقعدا فى مجلس الشعب. كان الإخوان من القوة والقدرة الجماهيرية ما دفع الدولة بعد الغزو الأمريكى للعراق إلى تعبئتهم من أجل الاحتجاج فى استاد القاهرة الدولي.
الحركات الجماهيرية فى الشارع كانت المعلومات عنها متوافرة من حيث الأعداد والحجم والتوجهات السياسية، وحتى الخلافات ما بين التيارات السياسية، وفى أحيان بدا لها نجوم فى الساحة الإعلامية. ورغم أن ما عرف بحركة كفاية كان فاتحة هذه التحركات الجماهيرية، فإن حركات جماهيرية أخرى بدأت فى الظهور آخذة أشكالا نقابية.
ومن يراجع التقرير الاستراتيجى العربى الذى يصدره مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ابتداء من عام ٢٠٠٤ وحتى ٢٠١٠ سوف يجد تصاعدا كميا ونوعيا فى عدد الاحتجاجات التى كانت تتوجه إلى مجلس الوزراء أو مجلس الشعب أو درجات سلم نقابة الصحفيين، وتطالب بزيادة الأجور أو الحصول على مزايا لا تسمح بها الموازنة العامة للدولة. كان هناك حالة زخم سياسى فى الدولة رغم أن الصفة الذائعة عنها فى ذلك الوقت أنها كانت تعيش حالة من الخمول.
وكان جزء من هذا الزخم السياسى الظهور المفاجئ للدكتور محمد البرادعى بعد حصوله على جائزة نوبل وما تلاها من قلادة النيل والتى دفعته بعد ذلك لإنشاء الجمعية المصرية للتغيير، وكانت الجمعية محتوية على تحالف كبير لجماعات سياسية متعددة، وبات هدفها ليس تغيير النظام وإنما إسقاط النظام. ورغم أن البرادعى بعد ذلك خذل كل أنواع الثوار بغيابه المستمر، ونظرته العلوية لرفاقه من المناضلين، فإنه كان قد قام بدوره فى خلط الأوراق السياسية التى بعد ذلك استحكمت عقب ثورة يونيو فأخذ حقائبه ورحل.
العجيب أن كثيرًا من هذه التطورات كانت فى الواقع نتيجة التقدم الذى بدأ يسرى فى المجتمع بالخطط التنموية التى تبنتها الدولة فى المرحلة التى بدأت مع موجة الإصلاح الاقتصادى التى تلت مشاركة مصر فى حرب تحرير الكويت وإعفاء مصر من نصف ديونها، وما تلى ذلك من ارتفاع معدلات النمو تدريجيا حتى وصلت إلى ٧٪ فى النصف الثانى من عقد الألفية الثالثة الأول. جزء من ذلك كما أسلفنا نتج عنه انخفاض معدل وفيات الأطفال والأمهات وقت الولادة؛ بقدر ما كان نتيجة الثورة المعلوماتية والكمبيوتر والتليفون المحمول، ومع ذلك ظهور عصر المدونات السياسية.
كان الانفتاح على العالم يأخذ مصر تدريجيا إلى عصر العولمة بأبعادها التكنولوجية والاقتصادية والسياسية. وجرى فى مصر من تأثير الظاهرة فى جميع أنحاء العالم حيث ضغطت بشدة على الأقل قدرة فى التعامل مع ما تقتضيه من قدرة على المنافسة فى الداخل للحصول على عائد مجز؛ والمنافسة فى الخارج للحصول على نصيب فى السوق العالمية.
ولعله لم يكن مصادفة أن الثائرين فى ميدان التحرير لم يكن لديهم أكثر من شعار عيش - حرية -عدالة اجتماعية وأضيف له أحيانا كرامة إنسانية؛ ولم يكن هناك بعد ذلك لا استراتيجية، ولا برنامج للعمل، ولا خطة من أى نوع لأنهم لم يتعرضوا للكثير من القضايا الجوهرية من أول علاقة الدين بالدولة، والدين والمجتمع، والموقف من العولمة وعما إذا كان واجب الثورة أن تشمر عن الساعد وتطلب العمل والاجتهاد. ما حدث عمليا هو تسليم الثورة للرافضين المباشرين للعولمة، والمقدمين للعالم عولمة الخلافة الإسلامية كبديل للتقدم القائم على المنافسة والتكامل فى نظام عالمى معبر عن عصر تكنولوجى جديد. من ناحية أخرى فإن الثوار تجاهلوا هم أيضا المعلومات المتاحة لهم, إنه رغم كل حجم الثورة فإن الغالبية الساحقة من الشعب المصرى بقيت فى البيوت وعلى الكنبة تريد التغيير وتخشاه فى الوقت نفسه، ولم تتحرك بكثافتها الكبيرة إلا عندما وجدت الدولة تتغير فى اتجاه لا تريده.
هنا تحديدا كان قد تم الفرز الكبير للحالة الثورية بين الذين يريدون التغيير وكفي، والذين يريدون التغيير فى اتجاه دولة دينية بدأت منذ تشكيل لجنة طارق البشرى حتى وصل إلى دستور ٢٠١٢، واتجاه فائز يريد التغيير فى اتجاه بناء عناصر القوة فى دولة مصرية قوية وقادرة على المنافسة.