أشرنا في المقال السابق الى أهمية وضع الرياضة فى خدمة التنمية البشرية بغية جعلها إحدى الأدوات المساهمة فى رفع كفاءة الأفراد والمساهمة فى تطوير الإنسان وهو ما يتطلب وضع رؤية وخطة طويلة الأمد لتنمية وتطوير الاستثمار فى هذه الصناعة فالاستثمار فى البشر أهم من الاستثمار فى الحجر.
تأتى أهمية هذه النقطة فى ضوء التطورات والتغييرات على الصعيد العالمى والآخذة يوما بعد يوم فى اتجاه عولمة الرياضة أو كما يمكن ان نسميه ريضنة العالم. إذ اخذ مجال التأثير للرياضة فى الاتساع على الصعيد العالمى من حيث الحيز المكانى «تضاعف الأماكن الرياضية والطفرة الكبرى فى أعدادها والمعدلات المتزايدة لهذه الزيادات» والحيز التاريخى «حيث توضع أجندة تكاد تكون مؤحدة على الصعيد العالمى ويترقبها العالم اجمع».
وبغض النظر عن الجدل الفكرى الكبير حول عولمة الرياضة وأثره على الصعيد العالمي، إذ يرى البعض أنها قد أصبحت المجال المفضل لغسل الأموال والإفساد الذى تقوم به بعض الشركات الكبرى ويشيرون فى هذا المجال الى العديد من الحالات على رأسها شركة ISL World wide فى أثناء كأس العالم، حيث اتضح فيما بعد انها تقوم بعمليات واسعة لغسل الأموال عبر امتلاكها حسابات سرية فى جزيرة ليشنتاين.بينما يرى البعض الآخر ان الرياضة تؤدى أدوارا سياسية مهمة من حيث التقريب بين الشعوب والتخفيف من وطأة المشكلات السياسية وغيرها.
وتحتاج هذه المسالة الى اطلالة سريعة على الوضع المؤسسى للاستثمار الرياضى، ويشير التعداد الاقتصادى، الصادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء، الى ان اجمالى عدد المنشآت العاملة فى مجال الرياضة والترفيه والتسلية، والتى يغلب عليها النشاط الرياضى «لانه افرد بندا خاصا للفنون والمسرح والموسيقى والانشطة الترفيهية والمتاحف والانشطة الثقافية الاخرى» بلغ عددها 32157 منشأة من اجمالى 3742562 منشاة بنسبة اقل من 1% مع ملاحظة ان معظمها «نحو 87%» انشئ بعد عام 2010 اما من حيث الشكل القانونى فان معظمها شركات فردية 90% ولذلك فان نحو 84% منها يبلغ راسماله اقل من 100 الف جنيه. ويبلغ اجمالى المال المستثمر 15.9 مليار جنيه فى نهاية 2018.
وعلى الجانب الآخر فقد بلغ عدد المنشآت الرياضية 5126 منشاة فى عام 2019 «تمثل مراكز الشباب 85% منها والباقى اندية رياضية»، مقابل 4977 عام 2010 اى ان هناك زيادة محددوة نسبيا. ويوضح مدى ضآلة المنشآت الرياضية مقارنة باحتياجات المجتمع وعدد سكانه. ناهيك عن سوء التوزيع الجغرافى وتركز معظم هذه المنشآت فى الوجه البحرى، اذ تستحوذ ثمانى محافظات منه على نحو 50% من اجمالى مراكز الشباب، بنما لا تحظى المحافظات الفقيرة الا بنسبة ضئيلة، مما يعنى عدم انتشارها على صعيد المجتمع ككل.
فإذا ما أضفنا إلى ماسبق سوء استخدام بعضها مع ضآلة الإمكانات الموجهة إليها لاتضح لنا على الفور مدى خطورة الوضع المؤسسى الحالى للرياضة المصرية.وتوزع هذه المنشآت بين مراكز شباب القرى «76% من الاجمالى» ومركز شباب المدن 9.4% واندية القطاع الخاص 11% واندية القطاع العام وقطاع الاعمال العام 2% واندية القطاع الحكومى 1.8%.وهنا تجدر الاشارة الى تراجع عدد الاندية الحكومية من 138 عام 2010 الى 86 عام 2019 وكذلك قطاع الاعمال العام والقطاع العام من 151 الى 98 خلال الفترة نفسها.وقد بلغ عدد اعضاء هذه الاندية نحو 8.2 مليون «5.6 مليون ذكور ونحو 2.6 مليون اناث» معظمهم لدى اندية القطاع الخاص «40%» يليه مراكز شباب القرى 35% تقريبا ثم مركز شباب المدن بنحو 17%.
على الجانب الآخر فان المتتبع لموازنة الخدمات الرياضية فى الموازنة العامة للدولة يلحظ انها قد ارتفعت من نحو 5.9 مليار جنيه فى موازنة 2019/2020 الى نحو 6.3 مليار جنيه عام 2020/20021 «وزعت على مديريات الشباب والرياضة بالمحافظات للمجلس القومى للرياضة ووزارة الشباب». بالاضافة الى موازنة هيئة إستاد القاهرة والبالغة نحو 423 مليون جنيه.هذا مع ملاحظة أن معظم هذه الأموال تنفق على أجور العاملين بهذه الجهات وهو مايوضح لنا مدى ضآلة الأموال المخصصة للاستثمار «الباب السادس » فى مجال الرياضة.كل هذه المؤشرات وغيرها تدفعنا بالضرورة الى البحث عن طرق بديلة لتمويل الاستثمار فى صناعة الرياضة.
من المفارقات ان التجربة المصرية غنية بالعديد من التجارب المهمة خاصة فى حقبتى الستينيات والسبعينيات وذلك حينما كانت شركات القطاع العام تقوم بتمويل الأنشطة الرياضة من صافى الارباح التى كانت تحققها، إذ ألزمها القانون، الذى كان قائما آنذاك، على تخصيص جزء من توزيعات الأرباح لتمويل النشاط الرياضى فى الشركات. فظهرت شركات مثل غزل المحلة واسكو والسكك الحديدية والمقاولون العرب والترسانة وغيرها الكثير. ولكن وللأسف فان هذه الشركات لم تستغل الرياضة الاستغلال الاقتصادى الأمثل فأصبح التمويل عبئا متزايدا على ميزانيات هذه الشركات فتدهور الحال بها. وبدأت تظهر فى الصورة شركات البترول فقط ، بما لديها من إمكانات وكذلك مصر للطيران وبعض البنوك الكبرى. ومما يزيد من تعقيد المشكلة قيام الحكومة بخصخصة العديد من الشركات العامة وبالتالى إهمال المشترى الجديد هذه المسألة رغم أهميتها.
من هنا نرى ان تشجيع الاستثمار فى الصناعات الرياضية والانشطة المرتبطة بها يتطلب العمل على عدة محاور والاستفادة من تجارب الدول الأخرى فى هذا المجال وهى غنية بالأفكار الجديدة والخلاقة التى يمكن التفكير فى بعض منها.
واهم محاور العمل تكمن فى تعديل التشريعات الحاكمة للرياضة المصرية حاليا والتى أصبحت لاتتناسب مع التغييرات والتطورات الجارية على الساحة المحلية أو العالمية، خاصة أنها تنبع من فلسفة تقوم على الملكية العامة للمنشآت الرياضية، بينما نحن نعيش فى ظل فلسفة جديدة قوامها الاعتماد على القطاع الخاص واقتصاد السوق وهى فلسفة مغايرة تماما لما هو قائم حاليا فى التشريعات الرياضية، وهو مانجم عنه العديد من المشكلات نظرا لمحاولة التحايل القانونى عليها. وهو مايفسر إلى حد كبير تلك الفوضى السائدة حاليا فى الوسط الرياضي. وللاسف فان قانون الرياضة الجديد رقم 71 لسنة 2017 قد استمر على هذا النهج رغم انه سمح بانشاء الشركات العاملة فى هذا المجال وهو ما يتطلب اعادة النظر فيه من منظور استثمارى.