Close ad

التنوع الخلاق للثقافة (2)

7-2-2021 | 10:39
الأهرام اليومي نقلاً عن

والثقافة المصرية هى نموذج لمثل هذه الثقافات؛ أقصد إلى ثقافة التنوع الخلاق، ففيها عناصر تعود إلى أقدم عصور الحضارة، كما أن فيها عناصر تعود إلى هذا العصر الإسلامى أو ذاك. وحتى ثقافة العصور الإسلامية فى مصر، فمنها ما ينتسب إلى العصر الإسلامى الأول، ومنها ما ينتسب إلى العصور المتأخرة مثل العصر المملوكى على سبيل المثال. وأضف إلى ذلك، العناصر التى تنتسب إلى غير ذلك من أقاليم جغرافية وتتراكم من الخارج عبر العصور والأزمنة. فالثقافة المصرية بهذا المعنى هى ثقافة «تنوع خلاق» بكل معنى الكلمة، فيها ما يربطنا بمصر الفرعونية، وفيها ما يربطنا بمصر القبطية، وفيها ما يربطنا بمصر الفاطمية والمملوكية، وفيها فضلًا عن ذلك كله ما يربطنا بالعالم الحديث الذى يقع فى شمال وجنوب وشرق وغرب البحر الأبيض المتوسط. ولذلك فالثقافة المصرية هى ثقافة تنوع خلاق، وقوتها الحقيقية تنبع فى هذا الجانب على وجه التحديد؛ ذلك لأنها لا تنفصل فيها عبقرية المكان عن عبقرية الزمان، أو تتعامد فيها عبقرية المكان على متواليات متعاقبة من الزمان.

ولا شك فى أن أضعف عصور الثقافة المصرية هى العصور التى تقوقعت فيها على نفسها، أو فُرِض عليها اتباع ثقافة زمنٍ دون غيره، أو ثقافة مساحةٍ جغرافيةٍ دون غيرها من المساحات، فمصر لم يخلقها الله لكى تكون تابعة لثقافة دون غيرها، أو لحقبةٍ زمنيةٍ دون سواها، أو حتى دائرة جغرافية على وجه التقديس أو الإعلاء، وإنما لكى تكون ثقافة تنوع، تتنقل ما فى تضاريسها الجغرافية عبر الزمان والمكان، خصوصًا من حيث وضعها الإستراتيچى بين القارات التى تضيف إلى شعبها، وتضيف ما ينجزه شعبها إلى غيره من الصفات والملامح القائمة بها هذه الثقافة أو تلك، فى علاقات الزمان والمكان. ولذلك لا يمكن أن نَصِف الثقافة المصرية بأنها ثقافة عربية خالصة، أو حتى ثقافة أوروبية خالصة، أو حتى ثقافة إسلامية فحسب، أو مسيحية فحسب، وإنما هى ثقافة تجمع ما بين مراحل مصر فى الزمان والمكان، تتميز بنوعٍ فريدٍ من التنوع الخلاق الذى يسمح لها بعبقرية خاصة تبدع فى المكان والزمان، ما يؤسس لخصوصيتها الثقافية، ويجعل منها قرينة عبقرية المكان فى تغير تعامده على الزمان. ولولا ذلك ما تمصَّرت المسيحية عندما جاءت إلى مصر، ولا تمصَّر الإسلام كذلك حين دخل إلى مصر. فثقافة التنوع الخلاق هى الاسم الآخر للثقافة المصرية حين تنتشر فيها الحرية التى تطلق سراح العقل كى يفكر حرًّا، وتحل عقدة اللسان كى ينطق كل ما يرد أو ينقل ما فى الداخل إلى الخارج. وإذا كان التنوع الخلاق أولى الصفات التى ينبغى أن تتوافر فى كل ثقافةٍ مؤثرة قائدة ورائدة، فإن الحرية هى الخاصية البارزة التى لا ينبغى أن تُفارق صفة التنوع التى تتأكد بها المعانى الأساسية لما نُسميه الآن صفة «التنوع الخلاق للثقافة». ولا شك فى أن أعدى أعداء هذا التنوع الخلاق للثقافة, هو كبح زمام العقل، وأسره بأنواع قليلة أو كثيرة من القيود. عندئذ لا تفتقد الثقافة دافع التنوع الخلاق فحسب، بل تفتقد القدرة على التأثر والتأثير، ومن ثم القدرة على البقاء أو الوجود الفاعل فى الزمان والمكان.

ولقد سبق لى أن قُلتُ إن التنوع البشرى الخلاق هو مبدأ الفعل الابتكارى فى الثقافة التى تتوثب بعافية الحرية، وتشيع فيها قيم التسامح وحق الاختلاف واحترام المغايرة، ولا تنفر من إعادة النظر فى تقاليدها لأنها تنطوى على الوهج الداخلى الذى يحول بينها والركون إلى المعتاد أو السائد. ولا يتحقق مبدأ الفعل الابتكارى فى مثل هذه الثقافة إلا بحلولٍ استثنائية للمشكلات المستعصية، ونظرة أكثر جسارة إلى العقبات القائمة. ويستلزم ذلك مجاوزة التناقضات القديمة والتقاليد الجامدة والسلفية المُعرقِلة للتقدم، ومن ثم الإسهام المتكافئ فى رسم خرائط عقلية جديدة تتأسس بها علاقات النزعة الكوكبية الوليدة فى زمن العولمة أو زمن ما بعد العولمة، خصوصًا بعد أن أصبح الكوكب الأرضى أكثر وعيًا بعلاقاته المتداخلة، وأكثر حرصًا على سلامٍ يؤمِّن ربوعه، وأكثر إلحاحًا على تميز الثقافات التى تؤكد تنوعها واختلافها على امتداد الكوكب الأرضي. فالثقافة التى نتطلع إليها فى الحاضر وفى المستقبل، هى الثقافة التى تجعلنا نفكر بعقول أكثر ذكاء، وننظر بعيون أكثر حدة، عيون ترقب ما يأتى مما وراء الغيب؛ لأنها عيون ترى ما يمكن أن يقع وما ينبغى أن يقع فى عالمٍ مُتسارع الخُطَي، تغيرت فيه حتى مفاهيم الزمان والمكان فانداحت الحدود الفاصلة بين البشر، واختفت معانى التباعد لتحل محلها قيم التواصل والاتصال.

أذكر أننى كنتُ أُقلِّب فى صفحات قديمة لمجلة الجامعة التى كان يصدرها فرح أنطون فوجدتُ مقالًا له يخاطب فيه القرن العشرين، نشره فى اليوم الأول من القرن العشرين، بعنوان: القرن العشرون.. وماذا عمل القرن التاسع عشر؟ فوجدتُنى أتذكر الأمانى التى كان يحلم بها فرح أنطون، وتذكرتُ أن بعض تلك الأمانى لم يتحقق، فقد شهد القرن العشرون أكثر حربين تعذبت فيهما البشرية وانكوت بنيران التعصب والاختلاف. وها نحن فى مستهل العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين نتوجه إلى المستقبل نفسه بما لا يختلف كثيرًا عمّا توجه به فرح أنطون إلى مطلع القرن العشرين، لكننا نزيد عليه حلم التنوع البشرى الخلاق. ولا يمكن أن يصل هذا الحلم إلى تحقيق غايته المُثلى إلا بالحرية التى تحرر الإنسان من قيود الضرورة، وبالمساواة العادلة. لقد كتب نجيب محفوظ مُبشِّرًا بمشرق النور والعجائب فى مطلع روايته: أولاد حارتنا، وها نحن نحلم بمشرقٍ جديدٍ من النور والعجائب، وبالمزيد من التقدم العلمى الذى يكون فى صالح البشرية وسعادتها، وندعو أن يتحرر الإنسان من فيروسات التعصب والتطرف بأى شكلٍ من أشكالهما فى كل زمان ومكان، حالمين بنوعٍ جديدٍ من الإنسانية التى تكون ثقافتها دائمًا تحت راية التنوع البشرى الخلاق.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
المادة السابعة من الدستور

سبق أن كتبتُ رأيى فى هذه المادة فى هذه الجريدة عبر مجموعة من المقالات تحت عنوان: ذكريات الدستور، وكان ذلك فى 21/6/2020 على وجه التحديد. وفيها علَّقت بأن

استفتِ قلبَك

كان من الطبيعي أن يتطرق الحوار بيني وبين الإعلامي عمرو أديب إلى مسألة الفتوى. وكان من الطبيعي أن يسألني عمرو أديب عن حقيقة الفتوى، وهل من حق أي مسلمٍ أن

حوار عمرو أديب

منذ صدر كتابي: «دفاعًا عن العقلانية» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في أواخر العام المنصرم، وتأتي إلىَّ أصداء أفكاره من القراء والمُهتمين بموضوعاته. وكان

الأكثر قراءة