للعلم وتطبيقاته التكنولوجية والتقنية فى حياتنا دور بالغ الأهمية والأثر، ليس فحسب فى بعض المجالات، ولكن فى كل أو جميع المجالات، وكل التفصيلات التى تتعلق بحياتنا، جودة الحياة ومستواها والسهولة النسبية التى توفرها الأجهزة والاختراعات العديدة، وذلك من المنزل إلى المدرسة والجامعة والمعامل والمصانع والشركات والمؤسسات، والتى تحسن فيها الأداء وبيئة العمل بشكل ملحوظ، إننا مدينون للعلم وتطبيقاته فى حياتنا بالتحرر من قيود الجهل والتوصل إلى مملكة الحرية، كما ساعدنا العلم فى تحرير المرأة وترقية حواسنا ومعارفنا وسلوكنا إزاء العديد من فئات المرضى عقليا ونفسيا، بسبب توافر الأساس المعرفى لفهم الظواهر النفسية والعقلية وغيرها الكثير من الظواهر الصحية والطبيعية.
قد لا ننتبه إلى هذه الحقيقة فى الأحوال العادية، أو أننا لا نمنحها الأهمية التى تليق بها، وذلك باعتبارها أحدى سنن الحياة أو معطياتها، التى تجرى كما لو كانت، بطريقة تلقائية أو عفوية، ولكن فى أوقات الأزمات الصحية والأوبئة سرعان ما ننتبه إلى حقيقة دور العلم وتطبيقاته فى مواجهة الأزمات والأوبئة وتتجه الأنظار إلى العلم والعلماء، باعتبارهم الفئة المنوط بها الأمل فى تجاوز المحنة والتوصل إلى أدوية وعلاجات أو لقاحات لعبور المحنة وتجاوز عتبة المخاطر التى تواجه البشرية.
والحال أنه ومع بدء أزمة تفشى مرض كوفيد-19 الناجم عن انتشار الفيروس التاجى «كورونا» فى نهاية عام 2019، ارتبكت المؤسسات العلمية والبحثية المعنية بالصحة العامة وانتشار الأوبئة، لأنها تواجه فيروس خبيث تجهل خواصه، ولم تتمكن من التنبؤ بوجوده، غير أن هذا الارتباك لم يستمر كثيرا، إذ سرعان ما استعاد العلم والعلماء ثقتهم فى القدرة على دراسة الفيروس وتشخيص تكوينه الجيني، وأصبح هؤلاء هم الذين يمثلون جبهة التصدى للفيروس وانتشاره وفك الألغاز التى تحيط بتكوينه، وكان فى المقدمة منهم العلماء الصينيون؛ لأن الصين كانت الموطن الأول للوباء فى مدينة يوهان الصينية، والذين تمكنوا من فك شفرة التسلسل الجينى للفيروس فى مدة أقل من الشهر، فى حين استغرق التعرف على «جينوم» فيروس «سارس» عاما كاملا، وساعد قصر مدة الكشف عن جينوم كوفيد- 19، على سرعة تبادل المعلومات بين العلماء فى مختلف دول العالم، ومن ثم تطوير الاختبارات التشخيصية للكشف عنه، وكذلك تطوير إنتاج مختبر على رقاقة يسمح بفحص ثلاثة أنواع من الفيروس التاجي، فى غضون ساعتين فى سنغافورة، وكذلك سبقت ألمانيا فى الإعلان عن اختبار حصلت عليه منظمة الصحة العالمية والعديد من الدول الأخري، من ناحية أخرى فإن عام 2020 رغم سوئه فإنه شهد تقدما علميا فى مجالات عديدة مثل إنتاج اللقاحات والعلوم الحيوية والكشف عن اختبار جديد يعتمد على الهاتف الذكي. لرصد الفيروسات وتشخيصها وكذلك فى مجال الذكاء الاصطناعي.
التنافس بين العلماء والمعامل والدول والمؤسسات العلمية تماما كما التعاون والتبادل والتشاور، حول المعلومات المتعلقة بالفيروس، حفز تطوير البحوث وتعزيز القدرات المالية وتطوير أجهزة الرصد والمتابعة والتحليل والمراقبة ونشر المقالات العلمية المختلفة من كل البلدان حول الفيروس وإتاحتها على الشبكة العنكبوتية مجانا.
وفى حين أن السياسة والساسة قد غلب على أدائهما الأنانية وإيثار المصالح الوطنية، على المصالح الكوكبية والعالمية ولم يمنحا المصير الجماعى الأهمية والقيمة اللازمة، فإن العلم والعلماء حافظوا على التعاون والتبادل والتكامل والتشاور، إيمانا بضرورة تضافر الجهود العلمية ومواجهة التحدى القائم، والذى يمثل خطرا على الإنسانية جمعاء ولا يفرق بين الناس جغرافيا أو ثقافيا، كما التزموا بالمعايير الأخلاقية التى تؤطر عملهم.
ولأن كل أزمة أو تحد من هذا النوع أى الأزمات الصحية العالمية أو الأوبئة مثل كورونا، يتضمن بشكل أوبآخر، حفز الهمم واستنهاض الطاقة وتعزيز البحث والابتكار والاكتشاف، وإحداث تطور مجتمعى علمى وثقافى لمواجهتها، فإن انتشار فيروس كوفيد-19 ليس استثناء على ما سبق، حيث ساعد فى توظيف أقصى الإمكانات الإبداعية، وانطلقت عمليات البحث والتشخيص وتحفيز اللقاحات وتطوير وسائل الفحص الطبى وأساليب الوقاية وأقلمة التكنولوجيا للعمل والدراسة من المنزل أو متابعة المرضي.
وفى هذا الصدد تسببت كورونا وبسبب تزايد الإصابات بين الأطباء فى التحول نحو العلاج التشخيصى عن بعد حيث قامت بعض المستشفيات بتركيب معدات وشبكات اتصال من الجيل الخامس، تؤهل الأطباء وتساعدهم فى تشخيص الفيروس عن بعد، ووصف العلاج، وبالمثل تطورت تطبيقات الذكاء الاصطناعى لتتبع المرضى وتحذير المحيطين بهم واستخدام الروبوتات فى خدمة المرضي، وغير ذلك من التطبيقات المرتبطة بالبيانات والمراقبة والتشخيص من خلال الذكاء الاصطناعي، وذلك نقلة تحول طبية سوف يكون لها ما بعدها فى المستقبل.
كذلك الأمر فيما يتعلق بالمدارس والجامعات ومواقع العمل المختلفة، حيث أدى حظر التجوال وإجراءات العزل والإغلاق فى العالم، على ما يقرب المليار مواطن، إلى تعزيز التعلم عن بعد، إن فى المدارس أو الجامعات، وعقد الامتحانات الإلكترونية واللجوء إلى الأبحاث كوسيلة للتقييم والانتقال إلى الصفوف الأخري.
وينسحب ذلك على العمل والذى أصبح فى إمكان المواطن أن يؤديه من المنزل بشرط تأهله للتحول الرقمي، وأصبحت هذه التقنيات أكثر مرونة للتأقلم مع البيئة التى خلقها انتشار الفيروس.
وهكذا فإن انتشار الفيروس عزز من البحث والابتكار والتطوير للجوانب العلمية و التكنولوجية فى مجال الصحة العامة، وعلم الطب والتشخيص عن بعد، كما حفز هذا الانتشار من إمكانية وقدرات التحول الرقمى فى دوائر الدراسة والعمل على حد سواء.
وراء كل مناحى التطور الذى ترتب على ظهور هذا الفيروس ثمة العلم والعلماء والذين لعبوا دورا حاسما فى المواجهة وأثبتوا أنهم يمتلكون تقاليد راسخة تحيط بعملهم وان المهمات الملقاة على عاتقهم عالمية وإنسانية لا يمكن للسياسة وآليتها أن تعوق أداءهم.
فى الحالة العربية والمصرية مطلوب تخصيص موارد أكثر للبحث العلمى وتطوير البنية العلمية وتحرير العمل العلمى والبحثى من البيروقراطية وضمان حرية البحث واستقلالية المؤسسات البحثية وذلك لمواكبة التغير النوعى فى هذا العصر وحسنا فعلت مصر بافتتاح جامعات جديدة وكليات للذكاء الاصطناعى لتجاوز الفجوة التى تفصلنا عن روح العصر، وإذا كان عام 2020 الذى انقضى غير مأسوف عليه هو عام كارثة انتشار كورونا، فإننا نأمل أن يكون عام 2021 هو عام القضاء على هذا الفيروس الخبيث، خاصة بعد إقرار الجهات الطبية العالمية للعديد من اللقاحات.