بفضل توفير ثورة 30 يونيو بقيادة الرئيس السيسى الشرط السياسى للتقدم صوب تحقيق غايات التنمية المستدامة تمكنت مصر من بناء روافعها الكبري. ولم يكن ثمة بديل للاستثمار الحكومى فى البنية التحتية الانتاجية، لمواجهة أزمتى بطالة الشباب والركود الاقتصادى التى ترجع جذورهما إلى إخفاقات التنمية قبل ثورة 25 يناير.
وقبل عرض أهم إنجازات الاستثمار فى البنية التحتية الإنتاجية، وقبل الإشارة لأسباب ونتائج الإصلاح الاقتصادى، أبدأ هنا بعرض النظرية الاقتصادية والخبرة التاريخية لدور الدولة فى تنفيذ مشروعات البنية التحتية فى إطار اقتصاد السوق، وهو ما أظنه الإطار النظرى الذى انطلقت منه المشروعات القومية الكبرى منذ انتخاب الرئيس السيسي.
وأسجل، أولًا، أن الفكر والتطور الاقتصادي، قبل وبعد نظرية كينز، وبعيدا عن الفكر الاقتصادى الاشتراكي، برهن على حتمية دور الدولة فى تنفيذ المشروعات العامة الكبرى لمواجهة أزمة البطالة الواسعة والكساد الاقتصادي، التى ترتبت على إخفاقات السوق الحرة. والواقع أن نظرية كينز قد أنهت مزاعم النظرية التى تقدس السوق الحرة وتعادى التدخل الاقتصادى للدولة منذ وضعها الاقتصادى الإنجليزى آدم سميث فى ثروة الأمم؛ بزعمه أن يدا خفية هى المصلحة الأنانية للفرد تحقق المصلحة العامة للمجتمع، ودعوته الشهيرة إلى حرية السوق تحت شعار دعه يعمل.. دعه يمر. والنظرية الكلاسيكية هذه قد عززها الاقتصادى الفرنسى جان باتيست بقانونه عن الأسواق، الذى افترض أن إنتاج البضائع يخلق طلبا فعالا، أى إنفاقاً فعلياً، يكفى لشراء العرض الكلى للبضائع ومن ثم لا مجال لأزمات السوق الدورية.
وثانيًا، أن نشر كينز كتابه «النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود» فى عام 1936 كان حدثا فى تاريخ علم الاقتصاد، يماثل فى أهميته نشر آدم سميث كتابه «ثروة الأمم» فى عام 1776، ونشر كارل ماركس كتابه «رأس المال» فى عام 1867. وقد دعا كينز إلى الاستثمار فى مشروعات البنية التحتية كثيفة العمالة لتحفيز التوظيف واستقرار الأجور، وإذا تجاوزت النفقات العامة الإيرادات العامة فإنه على الحكومة أن تمول الفرق بالاقتراض من أسواق رأس المال، أى عن طريق ما يسمى الإنفاق بالعجز. وقدمت أفكار كينز دفعة للاقتصاد العالمى من خلال إعادة بناء رأس المال المدمر وأصبحت سياسات رسمية فى أوروبا الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، وفى الولايات المتحدة فى الستينيات.
وفى حالة مصر فى عهد السيسي، يجدر أن أنوه هنا إلى أن الاستثمار العام لم يكن عودة إلى سياسات التوجه الاشتراكى فى عهد عبدالناصر، فقد تم توفير الموارد المالية اللازمة وبدرجة أساسية من بيع الأراضى لصالح الدولة بدلا من أن تكون مصدرا لتراكم الثروات الفردية كما كان الأمر خاصة فى السنوات الاخيرة من حكم مبارك.
وثالثًا، أن كتاب كينز كان ضربة قاتلة لاستنتاجات النظرية الاقتصادية للسوق الحرة، وما ترتب عليها من سياسات وتداعيات اقتصادية واجتماعية. وفى السياق التاريخى إخفاق نظرية السوق الحرة خاصة كما كشف الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن العشرين كان لنظرية كينز تأثير هائل، حيث أوضح أنه يمكن أن يحدث نقص فى الطلب.
وفى هذه الحالة ينبغى ويمكن للحكومة مواجهة الأزمة؛ عن طريق الاقتراض والإنفاق لزيادة الطلب الفعال؛ خاصة بتعظيم الإنفاق الاستثمارى عبر الاقتراض. ومنذ ثورة كينز غدت إدارة الاقتصاد الكلى مهمة تضطلع بها الحكومات مباشرة أو من خلال البنوك المركزية. وتكمن مأثرة كينز فى أنه رفع كابوس الكساد والبطالة عن عاتق الرأسمالية، التى رأى ماركس أنه لم يكن باستطاعتها أن تتخطاه، ومن هذا المنظور كانت ثورة كينز محافظة ونقيضا للتغيير الاشتراكى الثورى الذى تنبأ به ماركس وحث عليه. وعلى الرغم من هذا أصبح ينظر إلى الكينزيين فى مجتمع الأعمال والبنوك على أنهم أعداء للنظام القائم مثلما ينظر إلى الماركسيين.
ورابعًا، أنه مع مجيء إدارة الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت عام 1933 طبق سياسات النيوديل، التى مثلت انحرافا جوهريا عن نظرية السوق الحرة، حيث تضمنت توفير فرص العمل عبر الاستثمار الحكومى فى البنية التحتية لمساعدة المتعطلين، وإصدار تشريعات لتخفيف المشاق التى تعانى منها الفئات الضعيفة، وهو ما وضع أساس ما سمى دولة الرفاهة. ويسجل المفكر الاقتصادى الأمريكى جون كينيث جالبريث فى كتابه عن تاريخ الفكر الاقتصادي: أنه ليس ثمة تشريع فى التاريخ الأمريكى هوجم بقدر من المرارة من جانب المتحدثين باسم دوائر الأعمال بمثل ما هوجم به قانون التأمينات الاجتماعية، وأورد زعم تلك الدوائر بأن هذا القانون سوف ييسر السيطرة الاشتراكية فى نهاية الأمر على الحياة الصناعية!! وأنه سيؤدى إلى التخلى الحتمى عن الرأسمالية الخاصة، وأنه مع التأمين ضد البطالة لن يعمل أحد، وستكون النتيجة هى الإفلاس المالى وانهيار الجمهورية!!
وخامسًا، أنه فى مواجهة هجمة رجال الأعمال والصناعة على سياسات الإصلاح الاجتماعي، طرح جالبريث سؤالا: لماذا قاومت دوائر الأعمال سياسات الإصلاح الهادفة إلى حماية النظام الاقتصادي؟ ويرد بأن الأثرياء وذوى الامتيازات- عندما يكونون فاسدين وعديمى الكفاءة- لا يقبلون الإصلاح الكفيل بإنقاذهم، ويرفضون التنازل عن المباهج والرفاهة فى الأجل القريب تجنبا للأهوال والكوارث فى الأجل البعيد! ويستمتعون بالكسب فى مباراة يخسر فيها الكثيرون!
ويخلص إلى أن نظام السوق الحرة لم يعد مقبولاً كما تبرهن حقائق التاريخ الاقتصادى الحديث، ومع تدابير دولة الرفاهة هدأت مشاعر غضب وغربة المحرومين من الملكية، وتراجع خطر الثورة.
وتبقى للحديث بقية عن الغايات الأخرى القريبة والبعيدة والإنجازات الفعلية الكبرى لاستثمارات الدولة فى البنية التحتية الإنتاجية والخدمية فى مصر تحت قيادة الرئيس السيسي.