كيف استطاع الشاب الجنوبي الأسمر غزو قلوبنا ومشاعرنا جميعًا على مدار أكثر من أربعة عقود شاركنا فيهم خطواتنا بـ"المريلة الكحلي" حاضنين أحلام بِكر لا تعرقلها حسابات، لا تحدها أطر، لا يخيفها تقييم، ولا تحسب للمراقبين حسابًا.
- أربعون عامًا من الغناء للحبيبة التي لا نعرف بحق هل هي الحبيبة أم هو الوطن أم هو الإنسان "ولو ملوش عنوان" ولا تصنيف اجتماعي ولا جغرافي ولا ديني فقط: الإنسان كإنسان خلقه الله يحب ويكره ويبكي ويبتهج ويحزن فغنى لنا جميعًا منير الذي ورغم تمرده لم يستطيع الانسلاخ من همه الكبير بوطن عادل لا يقصي أحد جماعاته أو يهجرهم ويتجاهل واجبه نحوهم فيتحول أصحاب أعرق حضارة في العالم رغم أنفهم لفئة مهمشة فقيرة لا يكترث بها أحد، وتترسخ صورتهم الذهنية عمدًا أو تقصيرًا بأنهم أقل بكثير من أهل الشمال.
بل وأن وظيفتهم فقط خدمتهم، وبشموخ وغضب وعزة نفس وبفن رفيع المستوى يليق بهم عبر منير بشكل مباشر وغير مباشر عنهم حتى إنه غامر وغنى التراث النوبي رغم أن معظم المصريين أنفسهم يجهلون مفرداته ولم يعتادوا موسيقاه، لم يسع منير لتغيير شكله ولم يتبع صرعات ملابس ولا شكل غرق فيها غيره الكثيرون واعتبروها من ضرورات النجومية؛ لكن مالك النجومية الحقيقية يجعل نفسه هو النموذج الخاص فمبالنا أن هناك من يجد في فطرته وطبيعته هي حالته الصادقة التي تشبهه يتميز بها ويتصالح معها ولا يرى غيرها مطروحًا.
منير الذي لقبوه منذ زمن طويل بالملك أو "الكينج" لتربعه على عرش الغناء للمصريين والعرب في العالم كله لم أره قط ملك رغم أنني تربيت على أغنياته المحرضة على الحب والحياة منذ طفولتي، رأيته دومًا أميرًا نوبيًا شابًا ثائرًا حاملًا سيف العدالة المفقودة وينادي بصوته وصلواته وترنيماته بين المعابد الفرعونية والمحافل المصرية والدولية بالحرية والعدالة بموسيقى ودفوف لا تداري أبدًا صولجان مملكته المكسور، فنسمع معه بكاءه حتى تحت زهر الياسمين "تحت الياسمينة في الليل نسمة والورد محاذيني، الأغصان عليا تميل، تمسح لي في دمعة عيني" ليس فقط تحت الياسمينة يئن الأمير النوبي بحزن نبيل وتَرَفُع، لكن سيرة الدموع والبكاء متلازمة معه في معظم أغنياته حتى نجد أحيانًا عنوانًا لأحد أهم اغنياته" ابكي لو في عيني دموع، اضحكي لي لما اكون فرحان احضنيني لو غرام ممنوع حسي بيا وبعنيا كوني شوق وحنان"
كذلك نجد الغربة شريك الروح والغناء حاضر ومتشعب ومسيطر: فهو "جاي من بلادي البعيدة لا زاد ولا ميه وغربتي صاحبتي بتحوم حواليا"
وحتى عين حبيبة يرى فيها الغربة والغرابة قبل الجمال والغرام "في عنيكي غربة وغرابة وأنا قلبي مغرم صبابة ويدعو الله بقلب يرجو قبل صوته" هون ياليل غربتنا وابعد ياليل فرقتنا صعبان عليا غزالي، ومسيري في يوم ألاقيه وتبلل دموعي إيديه وإن ضل الطريق بينا أشواقنا تنادينا"
وهكذا بين الجرأة والخوف والشعور بالغربة والبكاء من ألم إنساني يسكن جوارحه وبين طموح الرجوع والحب والحرية والبهجة الصافية أتت مملكة منير التي أسرنا فيها جميعًا دون استئذان أو مقاومة.
- ليس الموضوع عند منير فقط موهبة خاصة ومتميزة لكن شخصيته تشبه أغنياته خليط وروح وقلب لم ينتزع من جسد صغير أجبروه على الهجرة من وطنه الأول بالنوبة وقت بناء السد العالي ليحمل تراثه وثقافته أينما حل وأينما غني بحب كبير ووجع لا تخفيه موسيقى التون الخماسي الخاصة بايقاع النوبة والممزوجة مع الجاز بما يليق بأغنيات ومعاني نكش عليها وسط الغيطان والحواري وفي وسط النيل وعلى شط البحر وفي ثرات حكيم يحكي سيرة الأولين في أمثلة، مواقف وحكايات تعيد لنا سيرة السواقي ونعناع الجناين والرمان الذي انفرط وتدحرج وجرى على رجل العشق وروح امرأة جريئة تتدلل على الحبيب وتعاقبه بتشفي "ذنبك بقى على جنبك روح لا تجيني لا تضمني"
- على مهل يضع خلطته الخاصة فيبحث عن معنى يشبه روحه الغارقة في الحب والمتمردة على الأطر ويسعى للحن يكمل الصورة المتماشية مع لوحته الممهورة بتوقيع صوته بقوته وتمرده وأحيانًا بنغمات عشقه للحب والحرية والوطن الذي يغزل مفرداته في أغنيات ترسم حياته من عمق جنوبه لنهاية شماله، فمرة نرقص ونغني "للشمندورة اللي من قنا" التي عرفناها منه ومرة أخرى نسأل من هو "نيجري بيه" الذي يغنى له ونغني معه دون أي معرفة مسبقة به، ثم نصرخ ونصفق ونتساءل معه عن حبيبه الذي حبسوه في مقطوعة نوبيه تولول وترقص في نفس الوقت ولا يستحي منير رغم القيود أن يتباهى ببطولاته في "عشق البنات" التي فاقت بطولات نابليون في حروبه جميعها ويلمح بخبث وجرأة لشجر الموز الطارح المضلل على عيدانه ضاربًا بعرض الحائط رقابة أولي الأمر الرافضين للغزل الصريح والخائفين من الغرق في بحور العشق وفنونه وإعلان متعته علنًا وغناءً ورقصًا وتلميحًا وتصريحًا.
يطارد منير المعنى وإتقان الصنعة وقد يظل سنوات يعد ويرتب ويجهز لغنوة ذات مضمون مختلف ولا يخشى الغياب عن الناس، في حين أن غيره يلهثون وراء التواجد حتى لو بمضمون لا يضيف إليهم شيء؛ لذلك تجد كل غنوة لمنير مغزولة بجهده ووعيه وروحه كالعمود الفرعوني الراسخ في معبده لا يغيب ولا ينسى مهما مرت عليه الأعوام والناس وكثر حوله الضجيج من موسيقى وغناء أشكال وألوان ليس لها بقاء ولون ورائحة وطعم منير وفنه الخاص جدًا.
- منير صاحب أيامنا المحرض نحو الفرح والتحقق والحرية صاحبة المعركة الحقيقية في حياته المتشبثة بجذوره ليخلق من الغرق والتشبث نوع خاص من الحرية والتحرر من القيود ، وظلت أغنياته ومعانيه وشكله في رحلة شبه الدائرة بين الإثنين فأصبحت حريته قيده وأصبح سجنه في الجذور سبب تحرره في الشكل، ومضمون ما يقدمه، وأيضًا في حياته التي تشبهه وتشبه فنه وما يحمل في روحه وعقله من ماضٍ فات ومن طموحٍ يحلم به ويعبر عنه فهو بحق "سارح في غربة، بس مش مغترب" وهو الذي يبعد في حياته وفي عمله وحبه عن الملل وعن الخوف وعن القيود ويظل يغني ويغني للوطن وللحبيبة وللدنيا كلها (ده حب إيه ده اللي من غير أي حرية).
- منذ ثلاثة أعوام يرفض منير أن يطرح ألبومًا جديدًا رغم عدم توقفه عن العمل وعن البحث وعن التجويد ليطرح مع بداية العام الحالي ألبومه "باب الجمال" مع أننا منذ أربعين عامًا نسمع طرقات منير على كل باب للجمال في حياتنا، ولن يكون ألبومه المقبل الحامل لخمس أغنيات جديدة سوى المزيد من جمال منير أدام الله علينا وجوده وجماله.