Close ad
13-12-2020 | 20:05

تطرقنا الأسبوع الماضي إلى جانب من الجوانب المعتمة للسوشيال ميديا، متمثلا في ظاهرة "مجاذيب الشهرة" الذين لا يتورعون عن فعل أي شيء غريب وشاذ، لكي يصبحوا من المشاهير والوجهاء البارزين على مواقع التواصل الاجتماعي، واعتقادهم الجازم بأن شهرتهم سيرافقها بكل تأكيد انهمار الأموال الطائلة على رؤوسهم، وذلك قياسًا على حالات أشخاص تحولوا بين عشية وضحاها إلى نجوم لامعة على الشبكة العنكبوتية، وأضحوا من الأثرياء، بعد أن كانوا يعانون شظف العيش.

مجاذيب الشهرة وأمثالهم ساعدتهم المساحات الرخوة الشاسعة على السوشيال ميديا، التي استغلوها للالتحاق بنادي المشاهير، وجاء سعيهم بهذا الاتجاه ضمن سياق ونسق لم يراعوا فيه أمورًا ومحاذير عديدة تلحق أضرارًا جسيمة بـالنسيج الاجتماعي وإطاره القيمي والأخلاقي، ونستكمل اليوم حديثنا بالتطرق إلى جانب آخر أكثر خطورة، ويُمثل في نظري معركة تحدٍ عاجلة للمجتمع الدولي الذي يتعين عليه خوضها متحدًا وبقوة لحسمها لصالحه، ويشكل في الوقت نفسه خطرًا داهمًا على أمن الدول واستقرارها الداخلي، ألا وهو الإرهاب الإلكتروني.

فمنصات التواصل الاجتماعي باتت مؤخرًا سوقًا رائجة وواسعة للمحتوى الإرهابي، تنشط فيها الجماعات والتنظيمات الإرهابية للتنسيق فيما بينها وتبادل المعلومات والتدابير، وتقوم بعمليات غسيل مخ، لاستقطاب وتجنيد مزيد من الأتباع والمتعاطفين، وتستهدف تلك العمليات الدنيئة الأطفال والشباب والفتيات الصغيرات، لتحويلهم في لمح البصر لقنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي وقت.

ولنا أن نتخيل حجم ومستوى الخطر الرهيب والمفزع الناتج عن الإرهاب الإلكتروني، إذا علمنا أن عدد مستخدمى السوشيال ميديا يبلغ 4,14 مليار شخص من تعداد سكان الأرض البالغ 7,81 مليار نسمة.

فهؤلاء معرضون في كل مرة يستخدمون فيها السوشيال ميديا لمحتوى خبيث يأخذ أشكالا عدة، ويُصنع على مهل وبدهاء شديد من قبل محترفين يغلفونه ويقدمونه بطريقة جاذبة مستغلين الصورة والفيديو والكلام المعسول المؤثر المصحوب بشعارات دينية، والدفاع عن الدين في مواجهة من يحاربونه، سواء كانوا داخل الوطن أو خارجه، ويسوغون ويبررون لهم تنفيذ الهجمات الإرهابية بمجتمعاتهم، دون أن يرمش لهم جفن باعتبارها وسيلة ناجحة تقرب العبد لربه زلفى، وتقوده لجنة عرضها السماوات والأرض.

وفي هذا المضمار يستغل الإرهابيون الثغرات القائمة لترويج محتواهم الشيطاني على السوشيال ميديا، والتمدد فيها وكسب أرض جديدة عليها بمرور الوقت، ومن بين أبرز تلك الثغرات، أن الدول تتباين فيما بينها في البيئة التشريعية وما تسنه من قوانين متعلقة بإساءة استخدام السوشيال ميديا، وما يرتكب بواسطتها من جرائم ومخالفات، والتفاوت يشمل مدى صرامة التشريعات والقوانين، فهي مشددة بهذا البلد، بينما تتسم بالمرونة والتساهل بدولة أخرى، بدعوى حرية التعبير حينًا، أو رغبة في استخدامهم كورقة ضغط على خصومهم وأعدائهم من البلدان حينًا آخر.

بديهيا وعمليًا فإن القيادات والتنظيمات الإرهابية ولجانها الإلكترونية تفضل العمل من الدول المتساهلة تشريعيًا، وتركز أنشطتها الهدامة والتخريبية فيها، ومنها تعبر الحدود لبقية أرجاء العالم بلا حواجز تعوق حركتها وسرعتها، ويتضافر عامل آخر يساعدهم، متمثلًا في عدم وجود جهة واحدة أو مركزية تتحكم فيما يبث عبر الإنترنت من مدخلات ومخرجات، فضلا عن إخفاق شركات التكنولوجيا العملاقة إبان السنوات الماضية في الوفاء بوعودها للحد من المحتوى الإرهابي والمتطرف.

وبسبب هذا الغياب اكتوت بعض الدول بنار المحتوى الإرهابي الملتهبة، من بينها فرنسا، التي تعرضت لسلسلة هجمات إرهابية دامية في الآونة الأخيرة، وكان الحافز والمشجع لها تأثر بعض شبابها بهذا المحتوى الشيطاني، وسعي جماعات الإسلام السياسي لفرض نمط حياة بعينه على المجتمع الفرنسي لا يتوافق كلية مع ما قبله الفرنسيون لعقود خلت من قيم وعادات وتقاليد.

استشعار فرنسا الخطر المحدق بها دفعها للتقدم باقتراح لدول الاتحاد الأوروبي الـ 27 بغية سن تشريعات لإزالة المحتوى الإرهابي من الإنترنت، وبالفعل عقد وزراء داخلية الاتحاد اجتماعًا مهمًا في بروكسل منذ أيام قليلة، وفي ختامه أعلنوا نيتهم إقرار التشريعات المقترحة.

الإعلان في حد ذاته يعكس تحولًا أوروبيًا لافتًا، لأن القارة العجوز لطالما وفرت ملاذًا آمنًا لمتطرفين وإرهابيين، وحسبت أنها قادرة على ترويضهم وتحويلهم لورقة ضغط ضد الدول التي قدموا منها، وتجاهلت كثيرا، عن عمد، مطالبات بلادهم تسليمهم لمحاكمتهم على جرائمهم وقتلهم أبرياء وعملهم ضد أوطانهم بخسة ونذالة، لكن استمتاع تلك العناصر بالأحضان الدافئة الأوروبية جعلهم يعملون لاحقا ضد من استضافهم وأطعمهم، وبدأوا في نشر سمومهم وشرورهم، ومحاولتهم تغيير الأنظمة الموجودة، وإعادة بناء المجتمعات الأوروبية وفقا لتصوراتهم، ومقاسات محددة يرضونها.

سبق هذه الخطوة اللافتة والمفصلية أخرى لم تلق حظها من الانتباه والمتابعة في بلادنا العربية، وجرت في بريطانيا التي كشفت النقاب مطلع الشهر الجاري للمرة الأولى عن قوتها الإلكترونية الوطنية، وهي وحدة هجومية من قراصنة مهمتها شن هجمات على دول معادية، مثل الصين وروسيا، والجماعات الإرهابية، وعصابات الجريمة المنظمة، وحتى المتحرشين بالأطفال من خلال تعطيل اتصالاتهم بشبكة الإنترنت، وبدأت تلك الوحدة عملها سرًا فى أبريل الماضي.

بريطانيا بوحدتها الجديدة نقلت الوضع من الدفاع وتلقي الصفعات، إلى الهجوم وتوجيه الضربات الاستباقية إلكترونيًا، وهنا ميدان المعركة أصعب ملايين المرات من أرض المعارك التقليدية المعلومة الحدود والإمكانات والأهداف، أما في الفضاء الإلكتروني فالمسألة جد مختلفة تمامًا، إذ باستطاعة شخص يختبئ بمكانٍ ناءٍ وبحوزته جهاز لاب توب إحداث كوارث في البورصة، وشبكات التزويد بالكهرباء، ومحطات المياه، وإشارات المرور في الشوارع .. إلخ، ولنراجع ما شهده الأسبوع الفائت من مساعي قراصنة لاختراق شركة "فايزر" الأمريكية التي طورت لقاحًا لفيروس كورونا.

كذلك تعرضت شركة "فاير آي" كبرى شركات أمن المعلومات ومقرها الولايات المتحدة للقرصنة، والمضحك أن الشركة تستعين بها الشركات العملاقة والحكومات لحماية شبكاتها من الهاكرز.

إن الإرهاب الإلكتروني يلزمه طاقة وصبر كبيران لمواجهته، ولا بديل عن هزيمته، وشحذ كل الهمم والطاقات لأجل هذه الغاية؛ لأنه فيروس خبيث سيعني تركه حرًا طليقًا استشراءه ومعاناة الأوطان من أمراضه الخطيرة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: